إن من سنن الله الكونية، وأحكامه القدرية؛ أن يختار بعضاً من خلقه، يخصهم بشيء من نِعَمه، ويزيدهم من فضله، سواء في أمور الدنيا أو الدين.

ومنهم من ينصر الله به الدين في باب من أبوابه، وذلك مثل الشيخ أحمد ديدات رحمه الله تعالى.

مما لا شك فيه أن الشيخ أحمد حسين ديدات رجل لم يُنسج على منواله في هذا العصر في مجال مقارنة الأديان من الناحية العملية، وبخاصة فيما يتعلق بمحاورة النصارى ومناظرتهم والرد عليهم، فقد لازم هذا الدرب أكثر من نصف قرن من الزمن، ولم يتقاعس عنه حتى وهو طريح الفراش لتسع سنوات يعاني الشلل الكلي سوى دماغه، لا يستطيع لشيء من أعضائه حِراكاً، ولا يقدر أن يفتح لكلمةٍ فكَّّه، ومع ذلك واصل جهاده الدعوي دون كلال أو ملل، حتى كان يغشاه النصارى ليناظروه وهو على حاله تلك، فوفقه الله لطريقة فريدة لمحاورتهم عن طريق الإشارة بالعين.

لقد نفع الله بالشيخ أحمد ديدات في هذا المجال نفعاً عظيماً فأسلم بسببه الألوف؛ فقد ناظر النصارى وكبار قساوستهم، وأثبت كذبهم وافتراءاتهم وعبثهم بدينهم وتحريفاتهم، وألزمهم الاعتراف – تصريحاً أو تلميحاً – بأفضلية الإسلام وشرف رسالته وعظمة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وفيما يأتي تعريف موجز بهذا الداعية الكبير([1])، وبجهوده في الرد على النصارى وأثر ذلك في إفريقيا وفي العالم أجمع:

نشــأته:

هو أحمد بن حسين ديدات المشهور بـ (المسلم العالم بكتاب النصارى المقدس)، أما هو، فَيُلَقِّب نفسه بـ (خادم الإسلام)([2])، وهذا يدل على تواضعه رحمه الله، وديدات لقب لوالده معناه في لغة «الكُجُرَاتي»([3]) العطاء([4]).

ولد الشيخ أحمد بالهند عام (1/7/1918م) / 1336هـ، ونشأ بجنوب إفريقيا التي هاجر إليها وهو في التاسعة من عمره، وبقي بها إلى أن توفّاه الله عز وجل، وذلك عام 2005م عن عمر يناهز 87 سنة.

خرج ديدات من أسرة مسلمة متواضعة لم تُعْرف لا بالعلم ولا بالجاه ولا بالمال، لكن منّ الله عليها بابنها أحمد فعمّ به خيرُها وعلا شأنُها.

كان أبوه فقيراً يمتهن الفِلاحة في قريته في الهند، وكانت الحياة هناك في ذلك الوقت صعبةً جداً، فَبَلغَ الناسَ أنّ الحياة في جنوب إفريقيا أهنأ من تلك التي في «سُورات» (مسقط رأس ديدات)، وكانت الهند وجنوب إفريقيا كلاهما تحت الاستعمار البريطاني آنذاك، فَنَزحَ كثير من أبناء تلك المنطقة، ومن بعض المناطق الهندية الأخرى إلى جنوب إفريقيا، منهم حسين ديدات والد أحمد ديدات([5]).

كان حسين والد أحمد ديدات رجلاً من عوام الناس([6])؛ لكن يُـشم من تصرفاته، ومن تربيته لأبنائه، رائحة التدين الصالح، والاعتزاز بدينه، وحب الدعوة إلى الله، يقول قاسم ديدات أحد إخوة أحمد ديدات: «كان أبونا يذكّرنا دائماً بواجب الدعوة إلى دين الله، ويقول لنا أنتم خلفاء الله في الأرض، وقد لخّص الله لكم واجبكم في الدعوة إلى دينه في حرفين اثنين في القرآن الكريم فليكونا دائماً في قلوبكم، وعلى أطراف ألسنتكم. وهما القاف واللام ?قُلْ? في مثل قوله تعالى: ?قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ? [الكافرون: 1]، ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? [الإخلاص: 1]، ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ? [الفلق: 1]، ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ? [الناس: 1]، فالله سبحانه وتعالى بإمكانه أن يقول: يا أيها الكافرون أو هو الله أحد أو أعوذ برب الفلق أو أعوذ برب الناس.. وهكذا، ويستقيم الكلام، لكن جاء بكلمة ?قُلْ? في البداية ليذكركم بواجبكم في تبليغ هذه الرسالة إلى الآخرين»([7]).

ولا شك أنّ هذا التذكير المتواصل أثّر في أحمد ديدات وإخوته، وكثيراً ما ينبّه عليها ديدات في محاضراته، كما كانت كل حركاته وسكناته ممزوجة بروح دعوية عالية، حتى غدا أبرز داعية في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام في هذا العصر.

كان ديدات يتمتع بأخلاق نبيلة مما أهَّـله بعد توفيق الله عز وجل لذلك المقام السامي منها: علو الهمة والجلد والحزم والجدِّية والكرم والتواضع والصدق، وسعة الصدر، والاعتزاز بالإسلام، وعدم الخوف والجرأة في الصدع بالحق وفضح الباطل.

عقــيدتـه:

بما أن أحمد ديدات لا يعد نفسه من علماء الشريعة، وبما أنه اختط لنفسه مشروعاً دعوياً معيناً، وهو دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، والرد عليهم؛ فلم يكن الكلام عن العقيدة والشريعة من برامج دعوته، بل اقتصر في حديثه إلى المسلمين على بث روح العزة بدينهم في قلوبهم، وحثهم على القيام بدعوة غير المسلمين إليه، وكيفية القيام بذلك.

وكثيراً ما كان يكرر قوله: «أنا متخصص في مقارنة الأديان، فإذا كنتم تريدون شيئاً فيما يتعلق بالفقه أو الأحكام فاذهبوا إلى علمائكم ومشايخكم، وأنا لست واحداً منهم».

ولا يكاد يخالف هذه القاعدة التي قررها؛ لذلك لا يوجد من بين مئات الحوارات والمحاضرات التي ألقاها محاضرة واحدة يتحدث فيها عن ركن من أركان الإسلام أو الإيمان، أو مسائل فقهية أو غيرها حسب اطلاعي، وإن تكلم عن تلك الأركان تكلم عنها عرضاً دون تفصيل إلا إذا كانت مما يدخل تحت تخصصه، مثل الكلام عن الله المعبود بحق، فبما أن موضوع المعبود من موضوعات مقارنة الأديان من جهة فإنه يتكلم عنه كثيراً، فيتكلم عن مفهوم الإله عند المسلمين واليهود والنصارى والهندوس إلخ، أو الحديث عن الأنبياء أو الكتب، أو كيفية الصلاة عند الأنبياء عليهم السلام قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وكيفيتها عند المسلمين.

هذا جعل معرفة عقيدته من صريح كلامه من الصعوبة بمكان، وإضافة إلى عدم حديثه عن تلك الموضوعات ما وجدته يقول: إن عقيدتي كَيتَ وكَيتَ، بل يكتفي بقوله أنا مسلم، لكن عند تتبع كتاباته، وتأمل كلامه، وخصوصاً ما يتعلق منه بالجانب العقدي عند مقارنته الإسلام بالأديان الأخرى؛ يتبين لنا أنّ من أهم ما يعتني به في جميع دعوته من الناحية النظرية والدعوية توحيدَ الألوهية.

وتتبعتُ حاله في تحقيقه من الناحية العملية فلم أجد فيه ما يقدح في أصل هذا التوحيد، ولو صرف شيئاً من العبادة لأحد من خلق الله لصرفها إلى محمد رسول صلى الله عليه وسلم، فكل من تتبع حياته وقرأ كتبه واستمع إلى محاضراته؛ عرف أن أحمد ديدات يحب النبي محمداً صلى الله عليه وسلم حباًّ شديداً، وذلك منذ نعومة أظفاره، وقد فكّر عدة مرات في ترك العمل الوحيد الذي يقتات منه في حياته بسبب المنصّرين الذين يطعنون فيه على مرأى ومسمع منه ولا يستطيع الرد عليهم، قال عن نفسه: «كانت تَمُرّ بي عِدّة ليالٍ وأنا في أَرَق، وعَبْرةٍ تَتَرَقْرَق، لأني لا أستطيع أن أدافع عمن هو أغلى عندي من حياتي، ذاك الذي كان رحمة مهداة إلى الجنس البشري أجمع، وهو محمد صلى الله عليه وسلم»، ومع ذلك لم يكن يغلو فيه، حتى لم أجد له مجرد التوسل به بجاهه أو بذاته عليه الصلاة والسلام، وهذا من أبسط الأمور عند الغالين فيه، فضلاً عن أن يصرف شيئاً من العبادة له، بل كتب تعليقاً على أحد أشرطته يقول فيه:

(من الكفر أن يدعو مسلم باسم محمد)([8])، وقال في مقدمة محاضرته في «مالديف Maldives» عن محمد صلى الله عليه وسلم الأعظم: «نحن لا نقارن محمداً بالله، والعياذ بالله، فلمّا نقول الأعظم؛ أي بين الناس»([9]).

ومن أوسع الأبواب التي كان يدخل منها إلى قلوب المدعوين من اليهود والنصارى وغيرهم شرح الأذان لهم، وقد قام بذلك مرات كثيرة لزوار المسجد، ويقف دائماً عند قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» ويقرر معناه مثل ما عند أهل السنّة تماماً بأنه «لا يستحق العبادة أحدٌ إلا الله»، وعند قوله: «أشهد أن محمداً رسول الله» يقول: «محمد ليس هو معبودنا، بل إنما هو رسول الله إلينا، وليس له من العبودية شيء»([10]).

وعليه فإن الأصل فيه سلامة المعتقد في هذا الباب، وأنه على الفطرة، على عقيدة أهل السنّة والجماعة، حتى يدل الدليل على خلافه.

أما من الناحية النظرية، أي بالنسبة لجهوده في الدعوة إلى هذا النوع من التوحيد والرد على المخالفين فيه من غير المنتسبين إلى الإسلام، فيمكن عـدّ الشيخ ديدات من أعظم من دعا إليه ودافع عنه في هذا العصر، وهذا قد يبدو غريباً عند بعض الباحثين، لكن سرعان ما تزول الغرابة لمن تأمّل النقاط الآتية:

النقطة الأولى: أنه صرف أكثر من نصف قرن في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام:

لعل الشيخ أحمد ديدات رحمه الله تعالى أبرز داعية عُرف بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام في تاريخ الدعوة الإسلامية، وكان مرتكز دعوته في ذلك مسألة التوحيد، وقد كان يحترق حزناً من انتشار الشرك في العالم، ومن كون المشركين أكثر من الموحدين، وكان هذا من أشد ما يؤَنِّب به المسلمين على عدم القيام بالدعوة إلى الله، وقلّما يلقي محاضرة على المسلمين إلا وعاتبهم بقوله: «يوجد اليوم من يعبد البشر والشجر والحجر والقرود والشياطين والأفاعي أكثر ممن يعبد الله وحده لا شريك له! … » إلخ([11]).

وقال في أحد كتبه بعد أن تكلم كلاماً طويلاً عن عدم قيام المسلمين بالدعوة([12]):

«نحن المسلمين لم نقم بشيء في حق الملايين الذين يعيشون في الظلام في العالم، يجب علينا أن ننقذهم من الشرك (الشرك لفظ عربي ومصطلح عقدي يعني عبادة كائنات أخرى مع الله، وهو أشنع ذنب في الإسلام)، وإلا سَيَهوون بنا معهم في جهنم في هذه الدنيا وفي الآخرة. الذين يعبدون المخلوق أكثر بملايين المرات من الذين يعبدون المستحق للعبادة بحق دون غيره، وهو الله سبحانه وتعالى».

فالتوحيد هو أول ما يدعوهم إليه، وهذا منهجه الذي لم أره خالفه في برامجه الدعوية، وهو منهج الأنبياء والمرسلين في الدعوة إلى الله.

النقطة الثانية: صرفه حياته كلها في الرد على النصارى ومناظرتهم في شركهم:

منذ أن رفع أحمد ديدات راية الدعوة إلى الله بين غير المسلمين كان النصارى على رأس قائمة من يدعوهم ويرد عليهم، ولم يكن يناقشهم إلا في مسائل عقدية، إلا ما يأتي عرضاً، ووجه دلالة هذه النقطة على عنايته بالتوحيد ودعوته إليه واضح جداً إذا عرفت أن النصارى يشركون بالله غيره في الألوهية والربوبية.

وأبرز من تصدى لهم في هذا العصر هو الشيخ أحمد ديدات رحمه الله، فيكون أبرز داعية إلى التوحيد ومحاربة الشرك فيما يتعلق بهذا الباب (الرد على النصارى), وبخاصة إذا عرفت أنه لا يناقش النصارى إلا في مسائل عقدية, ولا ينازلهم في غيرها إلا تبعاً كما سبق، وهذا يدلك على أن دعوته لهم إلى التوحيد ونبذ الشرك أمر مقصود.

قال رحمه الله في حوار أُجري معه عن أهمية مناظراته، ومدى فائدتها في الدعوة إلى الله: «المقصود بالمناظرة عند المنصّرين أن يجعلوك محايداً ويخدّروك ويجمدوك؛ فهم يعملون لك حفلاً بهيجاً ويسلمون عليك، ويجاملونك بكلمات معسولة تحت شعارات مختلفة، كأن يقولوا يجب أن نلتقي ونتحد لمحاربة الشيوعية والمخدرات لكي يشغلوك, وفي نفس الوقت يسرقون أطفالك».

«هذا كله يحدث في كل اللقاءات السابقة بين المسلمين والنصارى، والنتيجة: المخادعة والتضليل لهذه الملتقيات، ونحن الضحية؛ لأننا لا نحدثهم بما يريده الله، فالله يقول: ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ? [آل عمران: 64]، هذا شرط اللقاء والتحدث مع النصارى، التحدث عن العبودية لله وحده… وبعضنا يقول: إن هذا فيه إحراج لهم، وهم يقولون إننا نعبد إلهاً واحداً. ولكن الله تعالى أخبرنا أنهم يعبدون ثلاثة: الروح والابن والرب».

«فالحديث عن التوحيد شرط التناظر مع النصارى، ولكنهم يستغبوننا ويريدوننا أن نتحدث عن دور المرأة في المجتمع، وما إلى ذلك من المواضيع التي تُطرح!»، «ولكن الأصل الذي يريدنا الله أن نتحدث معهم حوله هو التوحيد، وجدالهم في الشرك الذي هم واقعون فيه، من اعتقاد في المسيح بأنه ابن الله، وأنه صُـلب تكفيراً لذنوبهم، والله سبحانه وتعالى يقول: ?وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ …? [النساء: 157] إلخ»([13]).

وكان من أوجه ردوده على النصارى التي يركّز عليها بيان أن عقيدتهم الفاسدة هي التي أدّت إلى عبادة الأصنام والأوثان والصور في قبائل الغرب الإفريقي، ثم يقول: «ولو لم يكن من مفاسد العقيدة النصرانية إلا هذه المفسدة لكفى!»([14]).

النقطة الثالثة: دعوته إلى التمسك بالكتاب والسنّة:

يرى أحمد ديدات أن الخلافات الكثيرة بين المسلمين وإخفاقهم في أمور كثيرة مرجعها عدم التمسك بالكتاب والسنّة، وأن التقدم بين يدي الله ورسوله هو أهم سبب لهذا التفرق والتشرذم، يذكر هذا عندما يسأل عن كيفية اتحاد المسلمين أو عما يعانونه من الذل والهوان وبخاصة في فلسطين، فيذكر أن اتحادهم ونصرتهم مرهونان بالعودة إلى الكتاب والسنّة, وعدم تقديم كلام أحد على كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن كلامه في ذلك قوله([15]):

«الآن هناك نزاعات فيما بيننا، أتعرفون ما السبب؟ السبب (هو أن) لدينا أبطالنا، كل واحد له بطله الخاص، (يقول) أريد أن أعرف ماذا قال بطلي، وأنا أقول: محمد صلى الله عليه وسلم هو بطلك، والقرآن الكريم هو كتابك الذي تتلقى منه أوامرك وتوجيهاتك».

وكان يلتزم هذا المنهج في أطروحاته واستدلالاته إلا ما ندر، فاستدلالاته من جهة الإسلام كلها من القرآن وقليل من السنّة، حتى أنني لم أسمع جريان اسم أحد من العلماء على لسانه في مئات الساعات التي استمعت إليه فيها إلا ثلاثة: أبا حنيفة، وأبا حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ذكرهم مرة في أحد أشرطته في معرض كلامه عن المقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدس، إذ ذكر أن القرآن ليس فيه إلا كلام الله، أما كلام النبي عليه الصلاة السلام ففي كتب السنّة، وأما كلام غيره مما يتعلق بالتاريخ والسير والفقه ففي كتب العلماء مثل: (فذكرهم)([16]).

لكن مع ذلك وجدت أنه وقع في بعض البدع التي تقدح في كمال هذا التوحيد([17])، مثل مشاركته وتشجيعه لحفل المولد النبوي([18])، ووقوعه في بعض البدع أو الأخطاء التي تتعلق بالدعوة إلى الله ومنهجها ووسائلها وهي كثيرة، وفي كثير منها نظر أو نزاع في بدعية بعض الوسائل، والتسليم ببعض الأخطاء, ولعل هذا يرجع إلى عدم وجود دراسات علمية محررة عن هذا النوع من الدعوة – دعوة غير المسلمين إلى الإسلام -, وبما أن أحمد ديدات حامل رايتها في هذا العصر، وبضاعته في العلوم الشرعية مزجاة كما كان يعترف هو بنفسه؛ فمن الطبيعي أن تؤدي به بعض اجتهاداته إلى الوقوع في بدع وأخطاء متعددة.

أما في توحيد الأسماء والصفات؛ فإن الحكم على عقيدة أحمد ديدات في هذا الباب بأنه من فرقة معينة، كأن يقال: إنه سنّي أو أشعري أو ماتريدي من الصعوبة بمكان؛ ذلك لأنه لم ينسب نفسه إلى واحدة من هذه الفرق كما سيأتي، ولأنه لا يتكلم في مسائل الاعتقاد الإسلامية إلا عرضاً عند حديثه عن عقائد الأديان الأخرى وبخاصة اليهود والنصارى، ومن تأمّل كلامه في بعض المسائل التي تطرق لها يظهر بجلاء أنه تأثر بمجتمعه الهندي، ومن المعلوم أن الهنود عموماً ماتريدية في هذا الباب.

أما بالنسبة للطائفة أو الجماعة التي ينتسب إليها، بمعنى هل هو سُنّي أو سلفي أو وهّابي أو شيعي أو إخواني أو بريلوي أو ديوبندي أو قادياني؟ إلخ، وخصوصاً وقد سّماه أو رماه مجموعة من الناس ببعض تلك المسميات! فتتم الإجابة عن هذا السؤال الكبير من خلال السؤال الآتي: هل نسب أحمد ديدات نفسه إلى واحدة من هذه التيارات والجماعات والفِرَق؟

والجواب: لم أجد أحمد ديدات في إنتاجاته المقروءة والمسموعة التي اطلعت عليها نسب نفسه إلى واحدة من هذه الفرق والجماعات إلا فرقة واحدة، ومرّة واحدة، ففي شريطه  “Dire Warning”بعد أن تحدّث عن تقصير المسلمين في القيام بالدعوة إلى الله، وأن الله إذا أعطى قوماً من عباده فرصة ثم ضيعوها استبدل بهم قوماً آخرين، مثّل باليهود والنصارى، وبالنصارى والمسلمين، وبالسنّة والشيعة، قال: في سوريا توجد جماعتان، السنة مثلنا، فنحن من أهل السنّة الذين يحاولون أن يترسموا خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلويون، وهم من الشيعة، يعتقدون عقائد باطلة في عليّ رضي الله عنه، فالسنّة هناك تساهلوا في أمر العلويين، واحتقروهم، ولم يدعوهم إلى الحق والصواب، بل كانوا يرسلونهم إلى الشرطة والجيش إلخ، والآن هم الذين يحكمون سوريا، مع أنهم 20% فقط من مجموع سكان البلد([19]).

هذا هو المكان الوحيد الذي وجدته نسب نفسه إلى فرقة من الفرق، وهي أهل السنّة، ومن النظرة الأولى إلى النقل يفهم أنه يقصد السنّة العامة، حيث قابلها بالشيعة.

ثم اجتهدت في طرح هذا السؤال: هل كان أحمد ديدات ينسب نفسه إلى أي فرقة من الفرق المنتسبة للإسلام؟ وذلك على جميع من حاورتهم وقابلتهم في جنوب إفريقيا، وهم من مشارب مختلفة منهم البريلوي الصوفي، ومنهم الدوبندي التبليغي، ومنهم السنّي السلفي، ومنهم من لا ينتسب لفرقة([20])، فأجمعوا على أنه لا ينسب نفسه إلى أي فرقة من تلك الفرق، بل كان يكره من غيره أن ينسب نفسه إلى واحدة منها، وكان يقول عن نفسه مقتصراً على ذلك([21]): «أنا مسلم، وأرجو أن يقبلني الله مسلماً، وأن أموت مسلماً».

ومن هنا تعرف ظلم وجهل من يقول: بما أن في جنوب إفريقيا فرقتين بريلوية وديوبندية فلا بد أن يكون ديدات منتسباً إلى إحداهما، ثم حلا له أن ينسبه إلى شر الفرقتين، وهم البريلوية؛ لأنه نقل نقلاً واحداً عن أحد كبار أئمتهم، وحضر المولد النبوي، بهذين السببين حكم عليه بهذا الحكم الغاشم!

مرضـه ووفاته:

عقـد ديدات رحمه الله رحلة دعوية إلى أستراليا في شهر أبريل عام 1996م، وكانت من أروع الرحلات الدعوية التي عقدها في حياته، وشاء الله أن تكون هذه آخر رحلة له؛ إذ أصيب بعد عودته منها بأيام بمرض شلّ جميع أجزاء جسده إلا عينيه وذاكرته، وكان يتواصل مع زوّاره والقيام بواجبه الدعوي عبر طريقة فريدة وهي الاتصال بالعين، تعلّمها في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض عندما أمر ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز بنقله إلى هناك لمداواته.

وتوفي رحمه الله صباح يوم الاثنين 3/7/1426هـ الموافق 8/8/2005م عن عمر يناهز السابعة والثمانين عاماً، بمنزله في فيرولام في منطقة ناتال بجنوب إفريقيا، وصُـلّي عليه بعد صلاة المغرب من اليوم نفسه بإمامة مفتي مِنْك الشيخ إسماعيل مِنْك من زمبابوي خريج كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بوصيته([22])، فرحمة الله عليه رحمة واسعة.

قال الأستاذ أيوب كريم – رئيس مؤسسة (ICRA) وأحد طلاب أحمد ديدات في جنوب إفريقيا: «أن أحمد ديدات وضع مسلمي جنوب إفريقيا على خريطة العالم»([23]).

وقال إبراهيم سالم محمد –  أحد أعضاء مجلس الأمناء للمركز العالمي، وابن أبرز من ساعد الشيخ بماله في منطقة كيب تاوون سالم محمد -: «نحن نعتبر أحمد ديدات كمنقذ لنا في كيب تاوون؛ لأنه قبل إتيانه إلى هذه المنطقة قلما تجد من يستطيع الدفاع عن دينه، ولا تكاد تجد فرقاً بين المسلم الهندي  والهندوسي، والنصراني الهندي في شيء، فهو الذي بث روح الولاء والبراء بيننا، وبيّن لنا أن المسلمة لا يجوز أن تتزوج من هندوسي أو نصراني، وهكذا»([24]).

اشـتغاله بالرد على النصـارى:

المرحلة الأولى: نقطة البـدء في “Adam’s Mission”:

لم يَخْتَطَّ أحمد ديدات رحمه الله طريقه في الرد على النصارى باختيار منه، إنما أُلجأ إلى الخوض فيه كما ذكر هو عن نفسه عدة مرات، وذلك في قصته الخالدة التي طالما قصها كلما تحدث عن بداياته في هذا المجال، وخلاصتها([25]) أنه لما انتهى من الابتدائية وبدأ بالصف الأول المتوسط؛ عجز عن مواصلة الدراسة لقلة ذات اليد، وعن الحصول على عمل يرتزق منه داخل مدينة دابرن، لصعوبة الحصول على العمل يُسمح بامتهانه لهندي مثله، ثم حصل بعد كدّ وتعب على عمل خارج المدينة في دكّان رجل مسلم، فكان يساعد صاحب الدكان على بيع الملح والدقيق وغير ذلك مما يبيعه البقَّالون، ومعه مجموعة من الشباب المسلم يعملون معه هناك، وكان ذلك عام 1939م، وعمره آنذاك عشرون سنة.

وكان على مقربة من ذلك الدّكان كليةٌ تابعة لـ «بعثة آدم»، وهي بعثة تنصيرية أمريكية، يُدَّرب فيها المنصّرون، وتُحشى أذهانهم بالشبهات ضد الإسلام، ثم يأتون إلى ديدات وبقية زملائه لإجراء تطبيقات أولية على ما درسوه في الفصول الدراسية، وصار ذلك دَيدَنهم، كلما جاؤوا لشراء شيء قاموا بإطلاق مجموعة من الشبهات عليهم، ومن أمثلة هذه الشبهات قولهم:

إن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) تزوج كثيراً من النساء فهو شهواني (حاشاه عليه الصلاة والسلام).

أن دين الإسلام انتشر بحد السيف.

أن القرآن منتحل من الكتاب المقدس… إلخ.

يقول الشيخ عن نفسه: «كم مرة حدّثتُ نفسي بالفرار بديني وترك ذلك العمل والبحث عن عمل آخر، لكن دون ذلك خَرْطَ القَتاد»، «فعزمت على دراسة القرآن والكتاب المقدس وكتب أخرى، لكن اكتشافي لكتاب (إظهار الحق) كان نقطة تحوّل في حياتي، فإذا أنا بين عشية وضحاها أستطيع أن أحاور أولئك الشَّبَبة المنصّرين الذين يدرسون في كلية «بعثة آدم»، وأشِّدد عليهم الخناق، إلى أن بدؤوا يحترمون الإسلام والنبي محمداً صلى الله عليه وسلم».

ومنذ ذلك الوقت عَشِق مجال مقارنة الأديان، والتحدث إلى النصارى، ومحاورتهم، والرد عليهم،  فكان في كل أسبوع يبحث عن نصراني يذهب إلى بيته  للحوار الديني بينه وبينه([26])، ومنذ أن وقف على كتاب (إظهار الحق) حُبِّب إليه كذلك التزام شهود المحاضرات المتعقلة بمقارنة الأديان في مدينة داربن([27]).

ثم ألقى محاضرة لمجموعة من خمسة عشر شخصاً من المسلمين عام 1942م في قاعة  “Durban Movie Theater” بعنوان (محمد صلى الله عليه وسلم رسول السلام)، فكانت هذه أول محاضرة له في حياته([28]).

وبعد أن عرف النص الذي يبشر بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في العهد القديم، وهو (18 أُقيمُ لَهم نَبِيًّا مِن وَسْطِ إخوَتِهم مِثلَكَ، وأَجعَلُ كلامي في فَمِه، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ ما أُوْصِيْهِ بِهِ) [سفر التثنية: الإصحاح 18 / 18]؛ بدأ يتحين أي فرصة لإلقاء محاضرة في شرح هذا النص، وجعل الحديث عن هذا الموضوع دَيْدَنه، وشغله الشاغل، وليس لديه شيء يقدمه للمستمعين في ذلك الوقت غيره، حتى لقبه أصدقاؤه بـ (18 / 18)([29])، وهو رقم النص في سفر التثنية.

المرحلة الثانية: الدعوة المحلية ثم العالمية:

كانت محاضرته التي ألقاها بعنوان: (محمد صلى الله عليه وسلم في العهد القديم والجديد) يوم الأحد: 16/1/1955م من أوائل محاضراته في مقارنة الأديان أمام حشد كبير من الناس من النصارى وغيرهم، ووصفت بأنها الأولى من نوعها في الجنوب الإفريقي قاطبة؛ حيث لم يطرق قبله أحد من العلماء مثل هذا الموضوع أمام الناس([30]).

ثم تتابعت محاضراته التي أصبح يشهدها المئات، وأحياناً يصل العدد إلى بضعة آلاف، بل يحتشد له في بعض محاضراته ما يصل إلى خمسين ألفاً وذلك منذ الخمسينيات، وهذا شيء لم يكن لأحد قبله من المسلمين في تلك المنطقة([31]).

وبدأت محاضراته محلياً في مدينته مدينة داربن، ثم بدأ يتنقل إلى بقية مقاطعات جنوب إفريقيا، ثم إلى الدول المجاورة مثل زامبيا، وزمبابوي، وسوازيلاند، وليسوتو، وغيرها من دول الجنوب الإفريقي، وقد كتب الله له القبول والتأثير البالغ في تلك المناطق قبل أن يطل على العالم برحلاته الدعوية التي يعقدها، والتي تستغرق الواحدة منها ثلاثة أسابيع إلى شهر([32])، يلقي خلالها عشرات المحاضرات، كمحاضرة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس، وبعض المناظرات إن أمكن.

منزلته وأثره في الرد على النصارى في إفريقيا وفي العالم:

هناك ما يشبه الإجماع في الساحة الدعوية بأن منزلة الشيخ أحمد ديدات في الرد على النصارى ومناظرتهم؛ فوق منزلة كل من في هذا الميدان من المسلمين من معاصريه بمراحل.

ويدل على ذلك عدة أمور:

ترجمة كتبه إلى كثير من لغات العالم منها: اللغة العربية، والفرنسية، والصينية، واليابانية، والبنغالية، والألمانية، والنيرويجية، والروسية، والآرامية، والماليزية، والإندونيسية، والهندية، والأردو، والزولو، وبعض لغات إفريقيا، وهذا شيء لم يحصل لكتب غيره في هذا المجال قبله.

لم يحظ داعية فَرْد بمثل الدعم المادي والمعنوي الذي حصل عليه الشيخ ديدات من الأمة الإسلامية حسب علمي.

لم يحظ داعية فرد في هذا العصر بالحب الذي حظي به أحمد ديدات في هذا العصر حسب علمي. وكان المسلمون في نيجيريا من أشهر المحبين له حكّاماً ومحكومين حتى سمّى حاكم ولاية كانو (العاصمة الدينية لنيجيريا) – مالم إبراهيم شيكرو- الشارع المؤدي إلى قصر الرئاسة باسم: «شارع أحمد ديدات» في حفل كبير دعا فيه ابنه يوسف ديدات، وشارك في فعاليته وذلك عام  2007م (أي بعد وفاته بسنتين).

التتلمذ على أشرطته وكتبه في الرد على النصارى؛ فكثير من الذين اختطوا هذا الطريق تلاميذ لأشرطته وكتبه، ومن أبرز من اقتفى أثره وزاد عليه الدكتور ذاكر نايك كما صرّح هو بنفسه عدة مرات.

أتى على مكاتب الدعوة وقت من الأوقات كانت عمدتها كتب أحمد ديدات في عدد من الموضوعات.

استعانة المسلمين به في الجنوب الإفريقي إذا نشر النصارى طعوناً وشبهات ضد الإسلام، فإليه يرجعون ليقوم برحلات دعوية مكثفة للرد على تلك الشبهات والقضاء عليها([33]).

تقليد كثير من الذين يردون على النصارى ويناظرونهم في منهجه وطريقته في الرد والمناظرة وخصوصاً في نيجيريا، حتى كان عدد كبير منهم يُلقبون بـ (ديدات نيجيريا) منهم الأستاذ حمزة شيخو رحمه الله الذي ناظر كثيراً من القساوسة في نيجيريا، وأسلم على يديه آلاف مؤلفة من النصارى، ولم تكن له مراجع في هذا الباب إلا كتب أحمد ديدات وأشرطته كما ذكر لي في مقابلة أجريتها معه([34]).

وتقديراً لجهوده ومنزلته في المجال الدعوي مُنح الشيخ أحمد ديدات (جائزة الملك فيصل العالمية) عام 9/3/1986م، وكان أحمد ديدات أول مسلم من الجنوب الإفريقي يحصل على هذه الجائزة، وقد سُرَّ بها كثيراً؛ لأنها زادت في رفع قدره، والاعتراف العالمي به وبخاصة في العالم الإسلامي، وكان يتحدث عنها كثيراً معبراً عن فرحه وسروره بالحصول عليها.

هذا عند المسلمين، أما عند النصارى فللشيخ ديدات منزلة مهيبة في عيونهم بسبب ردوده عليهم ومناظراته لهم، قال عنه المنصر العالمي المشهور القسيس جيمي سواغرت([35]): «العالم البارز في العالم الإسلامي: السيد أحمد ديدات»

وقال القسيس رِيتشَارْدْ جَارْنْفِلْتْ (Richard J?rnefelt )([36]): «الشيخ ديدات اسم عظيم في الإسلام والنصرانية، وستفهم الأجيال القادمة عظمة ونموذجية المعاني (التي اشتملت عليها) أفكاره المبتكرة وكتاباته ومحاضراته وتقواه».

ومن دلالات عظم منزلته وردوده ومناظراته عندهم الأمور الآتية:

توصية الكنائس للمنصّرين بقراءة كتبه، وبخاصة الذين يقومون بعملية التنصير في إفريقيا، فقد زار وَفْد من الكنيسة المعمدانية  Baptist Churchمكتب الشيخ في غيابه، وبعد الاطلاع على إنتاجاته في هذا المجال كتبوا مقالة عنه في مجلتهم بعنوان([37]): «المدافع عن الإسلام: …. إذا أراد أحد أن يقوم بالتنصير بين المتحدثين باللغة الإنجليزية، وبخاصة في إفريقيا، فإنه بكل تأكيد قد يحتاج إلى قراءة آراء المناضل عن الإسلام أحمد ديدات».

كتب أحد النصارى اسمه  John Gilchrist كتاباً بعنوان (التحدي الإسلامي في جنوب إفريقيا)، وأورد اسم أحمد ديدات في الكتاب أكثر من اسمه، واسم ربه المسيح.

تهرب البابا بولس يوحنا الثاني من مناظرته.

تهرب النصارى من مناظرته في الآونة الأخيرة، ففي آخر رحلة دعوية له في أستراليا اجتهد في البحث عمن يناظره، مع أن فيها قساوسة كباراً، وأساقفة، لكنهم أبوا، ولما زارته جمعية نسائية في مكتبه وكلهن نصرانيات، وعد كل من استطاعت أن تقنع قسيسها لمناظرته بعشرة آلاف رَنْد  Rand(عملة جنوب إفريقيا) مكافأة لها؛ لأنهم أبوا أن  يواجهوه([38]).

تغيير كتبهم (المقدسة) بناء على ملاحظاته، ومن الشواهد على ذلك أن القسيس الدكتور اللاهوتي C.I Scofield في تعليقاته على نسخة الملك جيمس ومعه ثمانية دكاترة آخرون في علم اللاهوت في معرض كلامهم عن (التكوين: 1 / 1)؛ ذكروا أنّ اللفظ العبري لكمة  “God” هو  “Elohim, El, or Elah”، وأن اللفظة الأخيرة يمكن رسمها هكذا  “ALAH”، فاستغل الشيخ هذه الفرصة في بيان أن اسم المعبود الحق حتى في النصرانية هو “Allah”، وأن رسمهم لها بحرف «  L» واحد لا يهم ما دام أن النطق يكون صحيحاً، ولعلهم يتشجعون في المرة القادمة بشكل أقوى فيزيدونها، ثم تناقل الناس عنه هذا التقرير، فحذفوها بكل جرأة في طبعة لاحقة مع الإبقاء على التعليق الذي ورد ذكرها فيه كما هو([39])! وهذا لا شك يدل على قدر كلامه عندهم، واهتمامهم بتتبع ملاحظاته عليهم.

استعطاف بعض رؤسائهم وعلمائهم في جرأة سافرة المركزَ العالمي وقفَ طباعة كتابه (عُدّة المعركة)  “Combat Kit”، وسحبه من السوق! لشدة نكايته بهم([40]).

أما بالنسبة لأثر جهوده وردوده في النصارى فهذا أمر مشاهد وملموس، فقد أثرت ردوده ومناظراته فيهم تأثيرات عظيمة.

وتنكشف هذه النقطة وتتجلى عند الوقوف على أمرين:

الأمر الأول: اجتهاد النصارى وتفانيهم في الدعوة إلى دينهم المحرف وتنوع أساليبهم في ذلك:

لا شك أن الجهود المبذولة من قبل النصارى في نشر دينهم وتقرير عقيدتهم الباطلة، وبث الشبهات عن الإسلام والطعن فيه تكاد تكون في سلك القصص الأسطورية التي يصعب تصديقها؛ لولا أنها حقيقة واقعية يمتنع تكذيبها.

خذ مثالاً واحداً فقط وهو نشر الكتاب المقدس لوحده، فقد جاء في تقرير (اتحاد منظمات الكتاب المقدس) أن الكتاب المقدس تمت ترجمته – كله أو جزء منه – إلى ألفين ومائتين وثلاث وثلاثين لغة من مجموع ستة آلاف وخمسمائة لغة في العالم، بالإضافة إلى ستمائة وخمس وثمانين ترجمة على الطريق([41]).

أما ما يتعلق بغير الكتاب المقدس من معاول هدم الإسلام وتشييد التنصير من كتب ومواقع وقنوات وإذاعات ومنظمات تنصيرية ومساعدات مادية للفقراء والمنكوبين والمرضى؛ فلم يعد ينضبط، ولا يكاد يدخل تحت حصر.

الأمر الثاني: «أنّ النكاية في العدو بالبرهان واللسان أوقع من نكاية السيف والسنان»([42]):

قال ابن حزم رحمه الله: في تفسير قوله تعالى: ?… وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ …? [التوبة: 120] : «ولا غيظَ أَغيظُ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة، وقد تُهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تُغلب أبداً؛ فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمّة»، إلى أن قال: «وقال تعالى: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ? [الأنبياء: 18]([43])، «ولا شَكّ في أن هذا إنما هو بالحجة؛ لأن السيف مرة لنا، ومرةً علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً، ودامغٌ لقول مخالفينا، ومُزْهِقٌ له».

فمن تأمل الأمر الأول، وهو السعي الجاد من قبل النصارى في نشر النصرانية والتبشير بها في أنحاء العالم، وبثهم الشبهات تجاه الإسلام وأحكامه، ومحاولاتهم إخراج المسلمين من إسلامهم إلى اعتقاد عقائدهم والتدين بديانتهم، وبذلهم في ذلك الأموال والأنفس، وسلوكهم كل طريق موصلة إلى ذلك مادياً واجتماعياً وخدمياً ونفسياً، وعرفت أن الدول الإسلامية مجتمعة لا تستطيع أن تقاوم تلك الجهود الجبارة، وعرفت أن تلك القوى إنما تُقهر بالدليل والبرهان فقط (الأمر الثاني)، وعرفت أن المسلمين في العالم الإسلامي، وبخاصة المتحدثون باللغة الإنجليزية، في فترة ليست بالبعيدة ليست لديهم أسلحة برهانية يهاجمون بها ويدافعون إلا كتب أحمد ديدات رحمه الله؛ عرفت عظم تأثير ردوده ومناظراته في النصارى.

هذا، ومن أهم ما ينبغي التنبه له هنا والحذر منه، هو أن الشيخ أحمد ديدات رحمه الله قد وقع في بعض الأغلاط، يدركها من له رصيد لا بأس به من العلم الشرعي، وكان كثير من الذين يحذون حذوه يكررون الأخطاء نفسها، فينبغي أن يحذروا ويحذّروا منها، وقد سبقت الإشارة إلى بعض منها.

وأختم هذه المقالة المقتضبة عن عَـلَم من أعلام المسلمين في هذا العصر باقتراحات أراها مهمة، وهي:

تدريس منهج الشيخ أحمد ديدات في دعوة غير المسلمين وفي مقارنة الأديان في كليات الدعوة، ومعاهد الدعاة بعد تهذيبه.

الاستفادة من تجربته الرائدة في المركز العالمي للدعوة الإسلامية الذي كان حيناً من الدهر أكبر وأنجح مركز دعوي في العالم.

دراسة نظرياته ووسائله في تمويل المشاريع الخيرية، حيث سجل فيه نجاحاً غير مسبوق.

ضرورة أن يلج بعض طلبة العلم الشرعي في مجال «مقارنة الأديان» من الناحية العملية؛ لأن غيابهم في الميدان يؤدي إلى هُوّة يصعب ردمها، ويفسح المجال لغير الأكفاء، ومن في قلبهم زيغ، فيتكلمون عن الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا يكتفون بنقد القائمين به ممن ظهر صدقهم وإخلاصهم فيشغلون أنفسهم عن الكلام فيهم بالعدل والعلم حيناً، وبالظلم والجهل أحياناً كثيرة.

ينبغي لكل من يريد أن يتخصص في دين من الأديان أن يعرف لغة ذلك الدين، «فكما أننا نعيب على من يتخصص في الإسلام وهو لا يعرف العربية، فكذلك يُعاب على من يتخصص في الهندوكية دون أن يعرف اللغة الهندوسية، واللغة العبرية على من يتخصص في اليهودية، وهي واليونانية على من يريد أن يتخصص في النصرانية، أو الإنجليزية على الأقل؛ لأن أهم كتب الديانة، والبحوث المتعلقة بها موجودة بها»([44])، بل اللغة الإنجليزية ضرورية بالنسبة لمن يريد التعمق في النصرانية؛ لأن كثيراً من أوجه النقد لا تظهر إلا بها، ومن أقرب الأدلة على ذلك أن نسخة  RSVلا توجد إلا باللغة الإنجليزية، وهي أصح النسخ عندهم، وأقربها إلى الأصل، وأهم الانتقادات الموجهة إلى الكتاب المقدس إنما توجد فقط في هذه النسخة، زيادة على ذلك أن مئات النسخ للكتاب المقدس المنتشرة في العالم، والتي تتبنى كلَّ نسخة منها طائفة أو فرقة من طوائفهم وفرقهم، لا توجد إلا في اللغة الإنجليزية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

* باحث دكتوراه بقسم العقيدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

([1]) عن ترجمة ديدات انظر:

«المركز الدولي للدعوة الإسلامية بجنوب إفريقيا» – تقديم تليفزيون الإمارات العربية المتحدة – بالإنجليزية (DVD).

([2]) يلتزم كتابة هذه العبارة في نهاية رسائله قبل توقيعه، وفي خاتمة بعض كتبه.

([3]) لغة «كجراتي»: هي إحدى اللغات الهندية، وهي اللغة الأم لأحمد ديدات.

([4]) حوار مع أخي أحمد ديدات – عبد الله ديدات في جوهانسبرج Johannesburg – بجنوب إفريقيا – عام 2007م.

([5]) انظر:  “Challenges of Islam” Blackburn, U.K 10th Aug. 1988, (D.V.D) .

([6]) مقابلة مع قاسم ديدات بتاريخ (12/9/1428هـ) الموافق (24/9/2007م)، في داربن.

([7]) مقابلة مع قاسم ديدات في مدينة داربن.

([8]) علّق بذلك على القصة التي ذكرها القسيس جيمي سواغرت؛ إذ ادعى سواغرت أن رجلاً مسلماً دعا باسم محمد (صلى الله عليه وسلم) ولم يُستجب له، ثم دعا باسم المسيح فاستجيب له. انظر: “Is the Bible God’s Word?” Debate, Sheikh Ahmad Deedat Vs Tele- evangelist; Rev. Jimmy Swaggart” In Baton Rouge, University of Louisiana, U.S.A. 1986 (DVD).

([9]) “Muhammad (PBUH) the Greatest” Lecture  in  Maldives Island, 9th Dec. 1987. (DVD)

([10]) يلتزم ذكر هذه المعاني عند شرحه للأذان في كل شريط له عن زيارة المسجد، وكذلك في كل مناسبة أخرى.

([11]) انظر على سبيل المثال:   “Da’awa or Destruction?” Lecture in a mosque in New York, U.S.A 14th Nov. 1986 (DVD), “Da’awa in the U.S.”, Atlanta, U.S.A. 2nd Nov. 19986 (DVD)”, “A Dire Warning” a Lecture in Cape town (DVD), “From Hinduism to Islam”, Durban 1985, (DVD)

([12]) انظر:  “What is his Name” P: 19 .

([13]) أحمد ديدات بين الإنجيل والقرآن، ترجمة وتعليق محمد مختار، (ص: 12 – 13).

([14]) انظر:  “What is his Name” P: 8.

([15]) انظر:  “A Dire Warning” a Lecture in Cape town (DVD).

([16]) انظر:   “Sheikh Ahmad Deedat on the UAE Spotlight (Abu Dhabi TV), (Interviewed by Abdul-Mun’im Salim” 1994 (DVD).

([17]) انظر:   “The Choice, Vol. I, Muhammed the Greatest”  1032-104, “Da’awa in the UK at Regents Park Mosque”, London, on Tuesday 21st May 1992 (DVD).

([18]) انظر:   “The Choice, Vol. I, Muhammed the Greatest”  1032-104, “Da’awa in the UK at Regents Park Mosque”, London, on Tuesday 21st May 1992 (DVD).

([19]) انظر:  “A Dire Warning” a Lecture in Cape town (DVD).

([20]) منهم ابنه يوسف ديدات، وأخواه عبد الله ديدات وقاسم ديدات، وصهره وتلميذه عصام مدير، ومدير مركزه العالمي رفيق حسن، وبعض الدعاة من السلفيين، مثل: فاروق أحمد، ويوسف محمد، وبعض الذين عملوا عنده في المركز مثل أيوب كريم، وعمر مليليكي، ومنستر آدم، وبعض أعضاء مجلس أمناء مركزه مثل إبراهيم جدوت، وإبراهيم سالم محمد، وغيرهم كثير.

([21]) انظر:  “The Qur’an or the Bible, which is God’s Word” Lecture,  University of Colombia, New York, U.S.A, 1st Nov. 1986 (DVD)

([22]) مقابلة مع مفتى مَنْكْ الشيخ إسماعيل منك، عام 2007م، في كيب تاوون.

([23]) مقابلة مع أيوب كريم، في داربن، عام 2007م.

([24]) مقابلة مع الأستاذ إبراهيم سالم محمد، في كيب تاوون، عام 2007م.

([25]) انظر:  “The Choice, vol. II, Is the Bible God’s Word?” P: 142, “Sheikh Ahmad Deedat on the UAE Spotlight (Abu Dhabi TV), (Interviewed by Abdul-Mun’im Salim” 1994 (DVD).

([26]) انظر: “Sheikh Ahmad Deedat on the UAE Spotlight (Abu Dhabi TV), (Interviewed by Abdul-Mun’im Salim” 1994 (DVD).

([27]) انظر:  “The Choice, vol. II, Is the Bible God’s Word?” P: 2-3, “What the Bible says about Muhammad (P.b.u.h) Lecture by Sheikh Ahmad Deedat in Cape town, 1984. (DVD)”

([28]) انظر:   “Deedat’s method of proselytization” by Rafiq Hassan. P: 4

([29]) قال: «أول شيء بدأت أتحدث فيه، وألقي فيه محاضرات هو (سفر التثنية: 18 / 18) حتى لقّبني أصدقائي بـ  “18 \ 18″، ثم كلما وقفت على شيء جديد أضفته إليه، وقمت بتبليغه للناس، حتى بلغ بي الحال إلى ما ترين». انظر: “Arab and Israel conflict or conciliation”, Western hotel, Chicago  IL. U.S.A, 19th Dec. 1993 (DVD)

([30]) انظر:  “The Role and Contribution of the Islamic propagation Centre International in the field  of Da’awah” by Riaz Cassim Jamal. P: 103

([31]) المصدر السابق.

([32]) انظر:  “Man-God Relationship in Islam, Lecture, Islamic Cultural Center,  Regents Park Mosque, London. 1985 (DVD).

([33]) انظر:  “The Choice, Vol. I, Al-Qur’an the Miracle of Miracles” P:223، ومقابلة مع إبراهيم سالم محمد، عام 2007م.

([34]) وذلك في المدينة المنورة لما جاء لأداء العمرة في رمضان عام 1427هـ.

([35]) “Is the Bible God’s Word?” Deedat, Sheikh Ahmad Deedat Vs Evangelist Rev. Jimmy Swaggart” In Baton Rouge, University of Louisiana, U.S.A. 1986 (DVD).

([36]) “Honouring the memory and lifetime work of Sheikh Deedat” by Richard J?rnefelt Pg: 15

([37]) “Sheikh Ahmad Deedat on the UAE Spotlight (Abu Dhabi TV), (Interviewed by Abdul-Mun’im Salim” 1994 (DVD).

([38]) “Members of the Durban Business and professional Women’s Club Visit the IPCI  1991 (DVD)

([39]) انظر: “The Choice, vol. II, Is the Bible God’s Word?” P:  97, “What is his Name” P: 26-29

([40]) أفادني بذلك الأستاذ رفيق حسن في مقابلتي معه في رمضان عام 1428/ 2007، وهو الذي وُجّه إليه ذلك الطلب الفاضح بصفته مديراً لمركز الشيخ في ذلك الوقت.

([41]) ورد ذلك في مقالة بعنوان:  The Bible in various languages ؛ أي (الكتاب المقدس في اللغات المختلفة)، انظر: موقع اتحاد منظمات الكتاب المقدس  United Bible Societies على شبكة الإنترنت.

([42]) الإعلام بما في دين النصارى من الأوهام، (ص 46).

([43]) ?فَيَدْمَغُهُ?: يقول الطبري رحمه الله: «فيهلكه، كما يَدْمَغُ الرَّجل الرجلَ بأن يشُجَّه على رأسه شَجَّة تبلغ الدِّمَاغ، وإذا بلغت الشَّجَّة ذلك من المشجوج لم يكن له بعدها حياة» اهـ. تفسير الطبري، (9 / 12).

([44]) من  كلام الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي حفظه الله، ذكره أثناء دورة (الحوار مع المخالف) التي أقامتها جمعية العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة