اسمي

قالتْ لي: اسمكَ جميل، فهو اسم أدبي صِرف يا ربيع!

فقلتُ لها: إنَّ هذا الاسم انبثَقَ من بين رُكام الأسامي الخَشِنة التي كانت مُتداولةً في ذلك الزمان، فاختارته لي أمِّي – متَّعنا الله ببقائها – وكانَ لها ذوق رفيع رغم أميَّتها، فهي لم تزُر المدرسة في يوم من أيام حياتها، ومع ذلك فقد أخبرني الثِّقات من عائلتنا أنَّها كانت ذوَّاقة لكلِّ جميل، مُحبَّة للحياة رغم قساوتها والحزن الذي خلَّفه موتُ أبي!

أمُّ هند

قلتُ يومًا لأمِّ هند بعدما وجدتُها منهمكةً في قِراءة بعض الكتب التي تهتمُّ بالطَّبخ والحلويات وما إلى ذلك: لو كانَ اهتمامُك بكتبِ أهل العلم والأدب كاهتمامكِ بهذه الكتب لمُتْنا جوعًا أنا والأولاد، ولكن الحمد لله الذي ابتلاكِ بشيء فيه مصلحتُنا! فرَشَقَتني بابتسامةٍ غامضة، ثمَّ قالت: رحم الله مُتنبِّيكَ الذي يقولُ:

بذا قضَت الأيَّام ما بينَ أهلها مَصائبُ قوم عند قومٍ فوائدُ!

كُتبي

حينَ كنت أتاجرُ في الكتب قبلَ سنوات، كانت الكتب الأكثر مبيعًا، كتبَ الطَّبخ، وكتب تفسير الأحلام، ثمَّ كتاب “لا تحزن” للقرني، وكتاب “دع القلق وابدأ الحياة” للأمريكي ديل كارنيجي، و”تحفة العروس” للإستنبولي، وكتيِّبات تعلم اللغات الأجنبية في أقلِّ من خمسة أيام بدون معلِّم، أما سوى ذلك من الكتب العلمية النَّفيسة التي تسمو بالإنسان وتجعله ذا شأن وخَطَر، فكانت تجلس في ضيافتي الأيَّام والشُّهور ذوات العدد لا تملُّ من صحبتي ولا أسخط على طول مُكثها، ومن هذه النَّافذة التي عنَّ لي فتحها اليوم نستطيع أن نعرفَ الحالة النَّفسية التي يتمتَّع بها هذا المواطن العربي المسكين، الذي يحلم كثيرًا، ويتناسل أكثر، يأكل لمَّا ويُوسع ذَمَّا، يبحث عن سعادته بعد ذلك بين دَفَتَي هذه الكتب ذات الأغلفة المزركشة الأنيقة التي يريدها أن تدفعَ عن حياته الحزن والقلق والاضطراب دون أن ينصرفَ لتطبيق أهمِّ ما فيها، بل ما إن يغلقها حتى ينسى ما كان وما سيكون من أمرها مُنطلقًا إلى لهْوه وعبثه وبطالته كما اعتاد أو اعتادت نفسه الخاملة أن تفعل!

أمَّا الذين كانوا يسألون عن الكتب النَّطيحة والمُتردِّية وما أكل السَّبع، فحدِّث ولا حرج، وكثيرًا ما كانوا يسألونني عن كتاب الرَّحمة في الطِّب والحكمة المنسوب زورًا وبُهتانًا للإمام السيوطي، وكتاب الروض العاطر ونزهة الخاطر، وغير ذلك من الكتب التي أستحي من ذكر أسمائها وأسماء أصحابها، وما زلتُ أذكر بعض النَّاس الذين لم يظفروا عندي بما جاؤوا من أجله، وكيف ورِمَت أنوفهم وانتفخت أوداجهم، وانطلقت ألسنهم بهمهمات، أغلب الظَّنِّ أنها سبٌّ وشتم وما إلى ذلك من أخلاق السُّفهاء، وكأنَّني حرمتهم من أكبر متعهم في الحياة الدُّنيا!

لذلك أقول: إنَّ المتاجرة في الكتب قد علَّمتني الكثير وأنا في طور التكوين وسنِّ العشرين، وما كنت أضيق به في ذلك الحين وأتبرَّم به فها هو قد أصبح من ذكرياتي الخالدة، التي أتمنى في قرارة نفسي لو تعود وأعود كُتبيًّا كما كنتُ، بدلَ هذه التكنولوجيا التي غزت بيوتنا وملكت علينا السَّمع والبصر والفؤاد، وزهَّدت كثيرًا من النَّاس في الكُتب وجعلتهم ينظرون إليها نظرة الكاشح الذي يُناصبك العداوة ويضمر لك الشرَّ!

أسامةُ

عندما وُلد أسامة أشرقتْ أرضُ قلبي بنور ربِّها، وأعلنت السَّماء عن فرح لا مثيلَ له!

عندما وُلِدَ أسامة أيقظني رنينُ هاتفي من شرودي، وليسَ بيني وبين المسجد إلا بضع خطوات، لتُخبرني زوجي أنَّها قد وضعت ذكرًا كالقَمر يسرُّ النَّاظرين، ولم تجد مع ذلك أدنى صعوبة أو عُسر!

عندما وُلد أسامة لم تُفارق الابتسامةُ شفتيَّ!

عندما وُلد أسامة انصرفَ البُؤسُ عن دُنيايَ إلى حال سبيله يجرُّ أذيالَ الخيبة بصَمْت!

عندما وُلد أسامة كان لي موعد مع السَّعادة؛ وذلك عن طريق أروع وأطيب وأجمل إنسان عرفته في حياتي.. إنسان كان له أكبر الأثر في حياتي، ولا أظنُّني سأعرف مثله في مستقبل الأيَّام.. كانَ هديَّة من أجمل الهدايا التي منحني إياها القدَر.. عندما وُلد أسامة حصلتُ على كتب كثيرة، وعناوين مهمَّة كنت في أمسِّ الحاجة إليها، ولم أكن أعلم أنَّني سأحصلُ عليها بهذه السُّرعة!

عندما وُلد أسامة رضيَتْ عنِّي كرام عشيرتي، ولم يسخط عليَّ لئامُها!

عندما وُلد أسامة اخترتُ له اسمًا عربيًّا أصيلاً؛ لعلَّه يكونُ رمزًا من رموز هذه الأمَّة الأشاوس في يوم من الأيَّام!

عندما وُلد أسامة جاء القومُ أجمعون، معترفين أنَّه أجملُ طفل في العائلة السَّملالية.. ولم يرَه أحد إلا أحبَّه!

عندما وُلد أسامة وجدَ أخوه عبدالرحمن ضالَّتَه المنشودة، وأخته هند اتخذته حبيبًا لقلبها البريء لا تفارقه إلا لضرورة ليس لها منها بدٌّ!

عندما وُلد أسامة خرجَ لدنيا النَّاس أوَّلُ كتاب لي في الأدب مطبوعًا!

عندما وُلد أسامة رجوتُ الله أن يرفع عن أمَّتنا الضَّيم، وأن يُشتِّت شمل الأمريكان واليهود والنَّصارى بصفة عامَّة، وأشياعهم من المنافقين، ويفرح المسلمون بنصر الله الذي يَنتظرونه منذ أمد بعيد، وما ذلك على الله بعزيز!

دَرْدَشة

جلسَ إليَّ صديق حديثُ عهد بمعرفتي في مقهى كنت أخلو فيه بنفسي كلَّ مساء للتَّأمل والكتابة، فعرضَ عليَّ (سيجارة) ونحن نتجاذب أطرافَ بعض الأحاديث في الأدب والفِكر، فاعتذرت إليهِ قائلاً: عفوًا، لا أدخِّن ولا أحبُّ رائحةَ التَّدخين، فقال مستغربًا فاغرًا فاه: لأوَّل مرَّة أرى أديبًا لا يدخِّنُ! فتبَسَّمتُ ضاحكًا من قوله بل من مبالغته ثمَّ قلت:

أولاً أنا لم أبلغ بعدُ مرتبةَ الأُدباء بالمعنى الصَّحيح لهذا اللَّقب، وإنَّما أنا صبيٌّ ما زالَ يحبُو على بساط الأدب لعلَّه يصِلُ يومًا إلى ما وصل إليه الأدباء، ثانيًا: لا أدخِّن لثلاثة أسباب؛ الأوَّل أنَّني من شدَّة ولوعي بالأدب وشغفي الشَّديد به لا أفعل ذلك؛ لأنَّ التّدخينَ مرض فتَّاك وموت بطيء ولا أحبُّ أن أموتَ قبل أن أستوفيَ حظِّي ومتعتي منه!

والسَّبب الثاني: أنَّ ثمن علبتين من السجائر قد أشتري به كتابًا في كلِّ يومين، ولستُ من الغباء بحيث أقدِّم الخبيثَ على الطَّيِّب.

والثالث: أنَّ شربه حرام كما لا يخفاكَ.. هكذا أفكِّر أنا فاعذِرني يا صديقي! فابتسم بعدما أعدم (سيجارته) في المنفضة التي أمامه واحتسى ما تبقَّى من قهوته السَّوداء ثمَّ قال: غلبتَني بمنطقك يا بنَ السَّملالي! ثمَّ أدارَ دفَّة الحديث قائلاً:

ماذا تجني من وراء هذه الكتابات التي تنشر في الصُّحف والمجلات والمواقع والمنتديات؟ فأجبته بعدما شعرت أنَّه يفكِّر بحسٍّ مادِّي كأغلب العرب المُعاصرين: إنَّني يا صديقي أستفيد همَّة عالية وعزيمة قوية تدفعني دفعًا للمُضي قدُمًا نحو عالم الكتابة الأدبية النثرية الهادفة التي اخترتها لنفسي أو اختارتها لي نفسي، فعندما أعثر على اسمي مكتوبًا في بطن مجلة من هذه المجلات التي يُشار إليها بالبنان في العالم العربي، أو في جريدة من الجرائد السيَّارة التي يذكرها النَّاس بخير أو فيموقع من المواقع الهادفة المحترمة – أجد متعة لا تُقاوَم، وسعادة أفضل عندي من حُمر النَّعم، فالمال قد تجنيه من أيِّ وسيلة من هذه الوسائل المتاحة في عالم التجارة أو غيرها، لكن أن تعبِّر عن رأيك بمقالة، أو قصَّة قصيرة، أو قصيدة، ثمَّ تجد بعد ذلك من ينشر لك راضيًا مسرورًا، فهذا واللهِ ما تَنقطِع دونه الأنفاس حبورًا وانتشاءً، بل تُضرب أعناق الإبل في سبيل الوصول إلى هذا المستوى بحيث تُصبح ذا شأن ورأي تُذيعه في النَّاس وبين القرَّاء، وقد كنت قبلَ ذلك خاملَ الذِّكر جامدًا لا تستطيع أن تقول، ولا تجد من يسمع ما تقول، ثمَّ فوقَ هذا كلِّه هناك رضا الله الذي عنده الجزاء الأوفى لكلِّ عمل يكون خالصًا لوجهه، فهل أزيدك بيانًا وتَبيُّنًا أم أصْمُتُ؟ فقال مبتسمًا: حسبُك يا صديقي فقد ألقمتَني حجرًا، وتركتني أذوب في خجلي كفتاة حَيْرَى في خِدرها!

حكاية

لا يَخلو مجلسُ شيخِنا الأديب محمد بن إدريس بلبصير من فائدة!

كان يَستقبلنا في بيته الهادئ الجميل مساء كلِّ سبت لقراءة كتاب من كتب العلم أو الأدب، يشرح لنا ما غمض منها، وما أشكَل على عقولنا هذه المحدودة، التي لم يكن حظُّها من العلوم قد بلغ مبلغًا يسرُّ قلوبنا وتطمئنُّ إليه نفوسنا، فكنت أقرأ عليه ما شاء الله لي أن أقرأ، والإخوة الأساتذة معنا يُصغون كأنَّ على رؤوسهم الطَّير، مُنتظرين بشغف تحليلاته ونُكَتَه العلميةَ التي كان يجود بها علينا بين الفينة والأخرى، وأكثر ما كان يروقُ لي في تلك المجالس الرَّائعة حكاياتُ شيخنا عن نفسه إبَّان الطَّلب والتحصيل، أيام الدراسة الجامعية؛ حيثُ الجِدُّ والاجتهاد والعلماء الرَّاسخون في شتَّى الفنون، كنتُ أعيشُ خارجَ هذا الزَّمان المنكوب لأحيا في أحضان تلك اللحظات المُشرقة التي كان يَسردها على مسامعنا والتي كأنَّها ضرب من ضروب الخيال أو سيرة من سير السَّلَف الصالحين في تقدير عقولنا التي أنهكتها هذه البِيئة الفاسدة، وهذا المجتمعُ الذي كلُّ شيء فيه يدعوك إلى الكسل والخمول ومعصية الله، وهذه واحدة من تلك الحكايا: كانَ في يوم من أيام الطلب جالسًا في بيته متأمِّلاً متفكِّرًا، لا يجد من يقرأ له شيئًا من هذه الكتب المتراكمة هنا وهناك في حجرته الضيِّقة، فإذا طرْق شديد على الباب يَنتشله من شروده وتفكيره، فيستجيب لفتحه فزعًا مذعورًا ليجد بعض أصدقائه الأعزَّاء قد جاؤوا لزيارته وإنفاق الليل في صحبته، فتهلَّلت أساريره وذهب رَوعه، واستجاب قلبه لسعادة غامرة لم تكن له في الحسبان، وهو شابٌّ يحبُّ الأنسَ ومجالس السَّمرِ والسَّهر المُعطَّر بالعلم النافع ومناقشته، والأدب الجميل الذي يدعو إلى الدعابة التي لا يشوبها أذًى ولا قذًى، والتي تخرجهم إلى الأنس من العبوس، وإلى الاسترسال من القُطوب!

هبطَ المساءُ سريعًا وهم متحلِّقون حول مائدة شاي مُتواضِعة يتجاذبون أطراف هذه الأحاديث الأدبية التي تشغلهم وتستبدُّ بعقولهم، فبينا هم كذلك إذ انصرفَ عنهم شيخنا مستأذنًا، فخرجَ وأخرجَ ما معه من دراهم معدودات عن طيب نفس وخفَّة روح يلتمسُ لهم بعض الأكل للعشاء، وهو من أهل القِرَى والكرم كما عرفناه، وإن لم يكن من ذوي اليسار والترف، حتَّى إذا اقتربَ من بعض هذه الحوانيت المنتشرة هنا وهناك بمدينة فاس، رآه صديق له يتاجر في الكتب، فناداه وسلَّم عليه، ثمَّ أخبره أنَّ له كتابًا جديدًا لا عهد لعينيه برؤية مثله، فقال الشَّيخ متعجِّبًا: وما ذاك؟ فقال: “في ظلال القرآن”؛ لسيد قطب في طبعة منقَّحة، فطرب لهذه المفاجأة واستسلم لفرح كاد يخرجه من إهابه انتشاءً، ونسيَ ما كان وما سيكون من أمر ضيوفه الذين ينتظرون قدومه ومعه ما يشبع بطونهم هذه الجائعة، ويُريح نفوسهم هذه المتعبة بأيام التحصيل والطلب، فدفع للكُتبيِّ كلَّ ما كان معه من مال، وأخذ الكتاب ورجع إلى بيته يتعثَّر في سعادته، ثمَّ أقبل على ضيفانه يداعبهم ويلتمس منهم العذر، وأن يتدبَّروا أمرَ عشائهم، فَفَقْدُ الكتاب كفَقْد الصَّواب، أما العشاء فلا ضير فهناك الخبز الحافي، والماء البارد الزُّلال، نأكل هنيئًا ونشرب مريئًا في ظلِّ (ظلال القرآن)!

يُتبع إن شاء الله..