أحكام عدم الإكراه في الدين لغير المسلمين

إنه مما عُلِم من دين الإسلام بالضرورة وثبت بالسنَّة، وإجماع الصحابة – رضي الله عنهم – أن العقائدَ والعبادات الإسلامية لا يُكرَه أحدٌ على اعتناقها ابتداءً؛ حيث أقر الإسلام مبدأ: “لا إكراهَ في الدِّين” لغير المسلمين في عقائدهم وعباداتهم، وطبق الرسولُ – عليه السلام – ذلك عمليًّا في تعامله مع غير المسلمين، سواء أكانوا كفارًا من أهل الكتاب؛ كيهود المدينة، وخيبرَ، ونصارى نجران، أم كانوا لا يتدينون بكتاب؛ كمجوس هَجَرَ، وإنما يلزم غير المسلمين بالخضوع للأحكام الشرعية، المنظمة للواقع الاجتماعي، التي لا تتعارض مع عقائدِهم وعبادتهم، نحو الأحكام المدنية؛ كالبيع، والتجارة، أو أنظمة العقوبات؛ كحد السارق، وقِصاص القاتل، ونحو ذلك؛ ولهذا شُرِعت أحكام الجزية على كل من كفر، وأراد البقاء على دينه، وعدم التحول عنه إلى دين الإسلام؛ لإبراز التبعية للدولة الشرعية، وسيادة أنظمتها العامة، وبذلك استقر الأمر على ترك كل كافرٍ على ما يعتقده، ويتعبَّد به، في دار الإسلام، ما دام خاضعًا لأحكام الشريعة العامة، التي تنظم المجتمع، وتسير بها أحكام الدولة؛ حيث يلتزم غير المسلم بتلك الأحكام العامة من جانبها التشريعي نفسه، كأنظمة قانونية للمجتمع، دون الجانب التعبدي الروحي لها، كما يعفى من الالتزام بالأحكام التي تتعارَضُ مع عقيدته ودينه؛ كأحكام العبادات، والانضمام إلى جيش المسلمين، وكذلك تلك الأحكام التي نظَّمها دِينُه، نحو أحكام الزواج والطلاق والمأكل والمشرب، بحسب ما فصله الفقه الإسلامي.

يقول – عز وجل -: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، يفسِّر الإمامُ القرطبي هذه الآية بقوله:

الدين في هذه الآية: المعتقد والملة، بقرينة قوله: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾، والإكراهُ الذي في الأحكام – من الأيمان، أو البيوع، والهبات، وغيرها – ليس هذا موضعه[1].

كتب أبو يوسف في كتاب الخراج: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كتب لنصارى نجران كتابًا جاء فيه: أنه لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وأرضهم، وملتهم، لا يغيَّر أسقف من أسقفية، ولا راهب من رهبانية..[2].

كما روى أبو يوسف: أن الصحابة تركوا غير المسلمين، وما يأكلون، وما يشربون، ويتخذون، بحسب أديانهم، وقد روى أبو يوسف عن عمرَ بن الخطابِ – رضي الله عنه – أنه قال لعمَّاله: “يا هؤلاء، بلَغني عنكم أنكم تأخذون في الجزية المَيْتَ، والخِنزير والخمر..، لا تفعلوا، ولكن ولُّوا أربابَها بيعَها، وخُذوا منهم الثمن[3]، مما يدل على ترك غير المسلمين، يملكون الخمرَ والخِنزير، كطعام وشراب، ويتبادلونها بينهم، ما داموا يرَوْن إباحتها في دينهم، حتى لو لم يُجِزِ الإسلامُ ذلك.

هذا بالنسبة لمن كان غيرَ مسلم أصلاً، أما من اعتنق دين الإسلام، فإن الأصل في التعبُّد للمسلم هو القيامُ به وَفْق ما جاء في الشرع، سواء أكان ذلك في العقائد، أم كان في العبادات، ولا يحِلُّ للمسلم أن يتعبد بكيفية، أو هيئة، ليس لها أصلٌ في الشريعة، أو خارجة عما رسمه الشرعُ عمدًا عالمًا بذلك، وإلا عُدَّ مبتدعًا للإثم، مغايرًا للشرع، يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله -:

المبتدع معاند للشرع، ومشاقٌّ له؛ لأن الشارع قد بيَّن لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تعديها.. فالمبتدع رادٌّ لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثم طريقًا آخر.. قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع[4].

وروى العِرباض بن سارية: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقول في خُطبته: ((عليكم بسنَّتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة))[5]، ويقول – عليه السلام -: ((مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد))[6].

وقد جعل الرسول – عليه الصلاة والسلام – التعبُّد بخلاف ما شرع تفرقًا عن الدين، ومُروقًا منه؛ حيث روى الترمذي، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبيِّ – عليه الصلاة والسلام – قال: ((إن بني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملةً، كلُّهم في النار إلا ملة واحدة))، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))[7].

ووصَف – عليه الصلاة والسلام – أقوامًا ابتَدَعوا بالمروق من الدين، بقوله: ((يخرُج قوم من أمتي، يقرؤون القرآن، ليس قراءتُكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتُكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامُكم إلى صيامهم بشيء.. لا تُجاوزُ صلاتُهم تَراقيَهم، يمرُقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرميَّةِ))[8].

تؤكد هذه الأدلة على وجوب اتباع الشارع، في كل اعتقاد وتعبُّد للمسلم، ويترتب على ذلك أن الدولة التي تقوم على أساس الإسلام مسؤولةٌ عن حفظ الأحكام التعبدية والعقائدية، كما جاء بها الشارع، ومسؤولة كذلك عن صيانتها عن الانحرافات الفكرية والعملية، وهذه المسؤولية جزءٌ من وظيفة الدولة الشاملة في تطبيق الأحكام الشرعية، وإبلاغ رسالة الإسلام.

وتتولى الدولةُ حفظ الأحكام، كما تتولى صيانتَها باستخدام ما يتوفَّر لها من وسائل؛ كالتعليم والإرشاد في مدارسها ومعاهدها، لبيان الأحكامِ والعقائد لأفراد الأمَّة، وعن طريق وسائل الإعلام، لإيضاح تعاليم الشريعة، وإبلاغها، وكذلك بإرسال الدعاة والمعلِّمين والعلماء، وبنَصْب الأئمة والوعاظ في المساجد، وبنشر الكتب الشرعية، وبثِّ المعارف الإسلامية في المجتمع، إلى غير ذلك، وقد ثبت فعل ذلك في سيرة الرسول – عليه السلام – وخلفائه الراشدين؛ حيث كان يقوم – عليه الصلاة والسلام – بالإبلاغ والتعليم، وبعث الدعاة إلى القبائل، ويرسِلُ مَن يعلم الناس أمورَ دينهم من صحابته، وقام بإرسال الكتب التي تحوي أحكامًا شرعية إلى من دخل في دِين الإسلام.

ومع ثبوت هذا الأصل، من وجوب صيانة الدولة وحمايتها للأحكام والعقائد، فإنه قد يرِدُ في الكتاب والسنَّة نصوصٌ يحتمل تأويلُها عدةَ أوجه، وقد يتفاوت المسلمون في إثبات الطرق التي وردت بها بعضُ سُنَن العبادات، أو بعض الأحكام العقائدية، وقد لا يصل العلمُ ببعض العقائد والأحكام إلى بعضٍ من المسلمين، ويترتبُ عن ذلك ظهورُ أفهام متعددة ومختلفة من المسلمين، وقد ينجم عن ذلك ظهورُ مذاهب فقهية في الأحكام الشرعية، وظهور فِرَق متنازعة في بعض الأمور الاعتقادية الواردة بالنصوص الشرعية، والتي يطلِق عليها علماء الأصول: المسائل الخبرية العلمية، مع إقرار جميع هذه المذاهب وأهل الفِرَق على أن مرجعَهم هو الكتاب والسنَّة، وتعظيمهم إياهما، وكون هذه المسائل لا تُخرِج قائلها إلى الكفر والردة عن الإسلام.

فالواجب في هذه الأحوال، عندما يكون الفهم مبنيًّا على تأويل مسوغٍ لنص شرعي في الكتاب والسنة، سواء أكان مصيبًا أم مخطئًا، مبتدَعًا أم ناجمًا عن فهم معنى محتمل لألفاظ اللغة التي جاء بها النص، أو بناءً على اجتهاد مبذول ممن توفرت له وسائلُه – أن يعذِرَ المسلمون بعضهم بعضًا فيما يُدركه كل منهم، ولا يجوزُ للدولة، وولاة الأمر – في هذه الأحوال – حملُ الرعية بالوسائل القسرية المادية على فهمٍ واحد من الأفهام المشتركة، التي تحتملُها النصوص، كما لا يجوزُ للدولة أن تمنع الناس بالقوة، وتجبرهم على ترك ما تعبدوا به، من عقائد وأحكام متنازع فيها حينئذ؛ لِما قد ينجم عن ذلك من شَق وَحدة المسلمين وتمزيق شملِهم، وكلمتهم، وإشاعة البغضاء بينهم.


[1] محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، المجلد 2، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1965م، صفحة 279.

[2] القاضي أبو يوسف، كتاب الخراج، مكان وتاريخ النشر غير معروف، صفحة 78.

[3] المرجع السابق، صفحة 137.

[4] الإمام أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، الجزء الأول، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، بدون تاريخ، صفحة 49 – 50.

[5] جامع الأصول، الجزء الأول، صفحة 189.

[6] المرجع السابق، الجزء الأول، صفحة 197.

[7] المرجع السابق، الجزء العاشر، صفحة 40.

[8] المرجع السابق، الجزء العاشر، صفحة 433.