هناك واجبات على المسلم يجب عليه أن يؤديَها تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الواجبات تعد دليلًا واضحًا وبرهانًا ساطعًا على المحبة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالمحبة لا بد لها من دليل يدل عليها وبرهان يؤيدها، وإلَّا كانت دعوى باللسان ليس لها أصل في الجَنان؛ لذلك من أراد أن يختبر صدق محبته للرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يقيس نفسه بمقياس هذه الواجبات، فمن فعلها وقام بها فهو المحب الصادق، ومن فرَّط فيها أو في بعضها فمحبته ناقصة بمقدار ما فرط في هذه الواجبات.

 

وهذه الواجبات هي:

1- الإيمان الجازم بأنه رسول الله حقًّا، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين صدقًا، وأن دينه أكمل الأديان وأتمها، وأنه صفوة الله من خلقه، وأنه سيدهم وشفيعهم يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158]، وقال أيضًا: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8].

 

وقد يقول قائل: نحن بالفعل نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون من الواجبات الإيمان به؟ والرد على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمرنا بذلك؛ حيث قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136]، والمقصود هو الاستمرار على هذا الإيمان وتقويته وزيادة اليقين به؛ فنحن نعيش في زمن كثُرت فيها الشُّبُهات، وكثر فيه الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى نبوته، وهذا يتطلب منا حراسة هذا الإيمان وحمايته من أن تناله لوثات المشككين والملحدين، وأن نظل باستمرار طالبين لكل ما يزيدنا إيمانًا به ويقينًا برسالته؛ مثل: قراءة سيرته، ومدارسة أحوال حياته، ومعرفة معجزاته، فكل ذلك له أكبر الأثر في زيادة الإيمان وتقوية اليقين.

 

2- محبته والشوق إلى لقائه، وهذا من أكبر الأدلة على إيمان المرء به واليقين بصدقه، بل لا يُعتدُّ بإيمان المرء إلا إذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلبه، وتشوق إلى رؤيته، وجعل حبه أسبق من حب أهله وولده وماله والناس أجمعين؛ وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده)) [1]، ومما يدل على ذلك أيضًا ما رواه عبدالله بن هشام؛ حيث قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيدِ عمرَ بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر)) [2]، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء المؤمنين الصادقين المحبين له والمتشوقين لرؤيته فقال: ((من أشد أمتي لي حبًّا ناسٌ يكونون بعدي يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله)) [3].

 

كما أن هذه المحبة هي الطريق إلى تذوق حلاوة الإيمان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار)) [4].

 

وقد ضرب الصحابة أروع المثل في المحبة الخالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث افتدَوه بأنفسهم وأموالهم، ففي غزوة أحد – مثلًا – ظهرت صور كثيرة من حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم بصورة عملية، وذلك حينما حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وخلال هذا الموقف العصيب سارع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا حوله سياجًا بأجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في الدفاع عنه، فها هو أبو طلحة رضي الله عنه يقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مدافعًا عنه، ويرفع صدره ليقيَه من سهام العدو، ويقول: ((نحري دون نحرك يا رسول الله)) [5].

 

وأبو دجانة يحمي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والسهام تقع عليه ولا يتحرك، ومالك بن سنان يمتص الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، وعرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوَها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيدالله، فنهض عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أوجب طلحة)) [6]؛ أي: وجبت له الجنة.

 

وفي صلح الحديبية لما قدِم عروة بن مسعود مفاوضًا للنبي صلى الله عليه وسلم من طرف قريش وحلفائها، قال واصفًا ما رآه من حب الصحابة وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ((والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكًا قطُّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله إن تنخَّم نُخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم فَدَلَكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّون إليه النظر تعظيمًا له)) [7].

 

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك، عرفتُ أنك إذا دخلت الجنة رُفعتَ مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيتُ ألَّا أراك، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]))[8].

 

إلى غير ذلك من المواقف الكثيرة التي أظهرت بجلاء كيف تكون المحبة الخالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يكون الشوق إلى رؤيته والجلوس إليه.

 

3- التخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الفاضلة: من رحمة وسماحة، ولين وعفو، وكرم ووفاء، إلى غيرها من الأخلاق الكريمة التي نفتقدها في حياتنا، هذه الأخلاق التي ما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليتممها؛ حيث قال: ((إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق)) [9].

 

فهذه الأخلاق هي التي جعلت الناس يؤمنون برسالته ويلتفون حوله، ويحبونه أكثر من أنفسهم وأهليهم؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ … ﴾ [آل عمران: 159]، والتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم دليل على الإيمان الكامل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخيركم خيركم لنسائهم)) [10]، وقد أمرنا الله عز وجل أن نتأسى برسولنا صلى الله عليه وسلم في أخلاقه ومعاملته مع الناس وعبادته؛ فقال: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]؛ لذلك كان من أوجب الواجبات علينا أن نتخلق بأخلاقه؛ حتى نكون أهلًا لنَيْلِ شفاعته، والقرب من مجلسه يوم القيامة؛ حيث قال: ((إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا …)) [11].

 

4- طاعة أوامره والمحافظة على سنته: لقد أمرنا الله عز وجل بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من آيات القرآن الكريم؛ فقال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92]، وقال أيضًا: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، كما جعل الهداية الكاملة في طاعته؛ فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54].

 

أما سنته صلى الله عليه وسلم، فقد أمرنا الرسول بنفسه بأن نحافظ عليها، وبيَّن أن المحافظة عليها هي سبيل النجاة من الزيغ، وطريق العصمة من الضلال؛ فقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((إن الشيطان قد يأس أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم)) [12].

 

كما قال أيضًا: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يَعِشْ منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) [13].

 

والسنن التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة؛ مثل: سنن الصلاة، ونوافل الصيام، وكذلك ما شرعه لنا من سنن تتعلق بالمعاملات؛ مثل: آداب الطعام والشراب واللباس والجماع، وغيرها كثير، فكل هذه السنن ينبغي المحافظة عليها والاعتناء بها؛ لأنها دليل المحبة وبرهان الاتباع، بالإضافة إلى أجرها العظيم عند الله عز وجل، فهذه السنن ترفع درجات العبد، وتقربه من ربه، وتجلب له محبته؛ ففي الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه وتعالى: ((… وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيَنَّه، ولئن استعاذني لأُعيذَنَّه)) [14].

 

وقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في طاعة رسول الله والاستجابة لأوامره واتباع هديه؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب، وكان يلبسه فيجعل فصَّه في كفِّه، فصنع الناس خواتيم، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصَّه من داخلٍ، فرمى به، ثم قال: والله لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم)) [15].

 

وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمِد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك؛ انتفع به، قال: لا والله، لا آخذه أبدًا؛ قد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) [16].

 

وحينما خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة خلع الصحابة نعالهم؛ تأسيًا ومتابعة له؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما على يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيتَ نعليَكَ فألقينا نعالنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيها قَذَرًا – أو قال: أذًى – وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذًى، فليمسحه وليصلِّ فيهما)) [17].

 

وعن أبي مسعود البدري قال: ((كنتُ أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا)) [18].

 

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبرَ، أصبنا حُمُرًا خارجًا من القرية فطبخنا منها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها؛ فإنها رجس من عمل الشيطان، فأُكفِئتِ القدور بما فيها، وإنها لتفور بما فيها)) [19].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطينَّ الراية رجلًا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذٍ، قال: فتساورتُ لها؛ رجاءَ أن أُدعى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب، فأعطاه إياها وقال: امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار عليٌّ شيئًا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ فقال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) [20].

 

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة قال: اجلسوا، فسمع ذلك ابن مسعود فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعالَ يا عبدالله بن مسعود)) [21].

 

إلى غير ذلك من المواقف الرائعة التي تدل دلالة واضحة على عظم الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ أوامره، واتباع هديه.

 

5- حفظ الأذكار التي كان يرددها والمداومة على ذلك؛ كأذكار الصباح والمساء، ودخول البيت والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، وكل ما ورد عنه من هذه الأذكار التي كانت تصله دومًا بربه.

 

6- قراءة سيرته ومعرفة كل شيء عنها؛ فهي وسيلة تقربك من نبيك، وتُعرِّفك كم تعِب في حياته من أجل هذا الدين العظيم، وهذا أولى ألف مرة من معرفة سير الفنانين ولاعبي الكرة، التي لا نجني من ورائها إلا تضييع الأوقات بلا طائل، فأقل ما نفعله مع نبينا أن نعرف سيرته وتاريخ حياته.

 

وهكذا كان ديدن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فقد كانوا يقدرون للسيرة النبوية قدرها، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم؛ فكان علي بن الحسين رضي الله عنه يقول: “كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن”.

 

وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: “كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا ويقول: يا بَنيَّ، هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها”.

 

لذلك كانت قراءة هذه السيرة العطرة مما يملأ قلوبنا باليقين برسالته صلى الله عليه وسلم، والصدق الكامل بنبوته؛ يقول ابن حزم: “فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها، تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم، لكفى” [22]، كما أن قراءتها تعلمنا العلم والأدب والأخلاق، كما أنها تحلِّق بنا في أجواء روحانية جميلة، تخفف عنا كثيرًا مما نراه في حياتنا من ضيق وعَنَتٍ؛ فقراءة سيرته دواء للروح، وشفاء للنفس، وحياة للضمير والقلب.

 

7- أوقِّر اسمه فلا أذكره إلا مقرونًا بوصف النبوة أو الرسالة؛ فلا أذكر اسمه إلا وأقول محمد رسول الله أو نبي الله، ولا أذكر اسمه مجردًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2]، كما نهانا أن ندعوه باسمه المجرد كما يدعو بعضنا بعضًا: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾ [النور: 63]، وكما أمرنا الله أن نوقره، فإنه علمنا كذلك كيفية توقيره، وذلك بأن نخاطبه بوصف النبوة أو الرسالة، وهذا كان شأن ربه دومًا معه في مخاطبته في القرآن الكريم توقيرًا له وتعظيمًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45]، وقال أيضًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67]، إلى غير ذلك من الآيات.

 

8- توقير أحاديثه صلى الله عليه وسلم التي صحت نسبتُها إليه، فعندما أسمع حديثًا له، أسمعه بأدب وإجلال وأصغي إليه وأنتبه له، ولا أسخر من حديث له أو أتندر به، بل أُجِلُّ أحاديثه، وأحترم كلامه وأصغي إلى من يتحدث به.

 

وهكذا كان سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم؛ قال أبو سلمة الخزاعي رحمه الله تعالى: “كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج ليُحدِّث، توضأ وضوءَه للصلاة، ولبِس أحسن ثيابه، ولبس قَلَنْسُوَة، ومشَّط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”، ويحدث أحمد بن سنان عن مجلس وكيع بن الجراح في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “لا يُتحدَّث في مجلسه، ولا يبرَى قلمٌ، ولا يُتبسم، ولا يقوم أحد قائمًا، كانوا في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر منهم شيئًا انتعل ودخل”.

 

ومرَّ الإمام مالك على أبي حازم وهو يحدث فجازه، فقيل له، فقال: “لم أجد موضعًا فكرهتُ أن آخذَ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم”، وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك فإذا جاء الحديث خشع.

 

وجاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى أنه سُئل عن حديثٍ وهو مضطجع في مرضه فجلس وحدث به، فقيل له: وددت أنك لم تتعَنَّ فقال: “كرهت أن أحدث عن رسول الله وأنا مضطجع”، وسُئل ابن المبارك رحمه الله تعالى عن حديث وهو يمشي، فقال: “ليس هذا من توقير العلم”.

 

9- أدافع عنه أمام مَن ينتقص من قدره، ويُهوِّن من مكانته، وينتقص من سنته مثل كثير من العلمانيين والملحدين وغيرهم، فهذا واجب على كل مسلم، وهو أحد نوعي الجهاد، وهو الجهاد باللسان، وهو جهاد هذا العصر؛ وذلك لكثرة ما بُلينا به في هذا الزمن من قلة العلم، وضعف الإيمان، وكثرة المشككين والملحدين.

 

10- وأخيرًا كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فكلما سمعتُ اسمه أُصلِّي عليه، بل أكثر من الصلاة عليه فى كل وقت وحين؛ وقد أمرنا الله عز وجل بذلك فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

كما وردت أحاديث كثيرة في فضل الصلاة عليه؛ فمنها ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن صلَّى عليَّ صلاة واحدة، صلَّى الله عليه عشر صلوات، وحُطَّت عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات)) [23].

 

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتُم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سَلُوا الله ليَ الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل ليَ الوسيلة حلَّت له الشفاعة)) [24].

 

وعن عبدالله بن علي بن حسين عن أبيه علي بن حسين عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البخيل من ذُكرتُ عنده، ثم لم يصلِّ عليَّ)) [25].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ)) [26].

 

وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ، قال: قالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرض صلاتُنا عليك وقد أَرَمْتَ – يقولون: بليت؟ فقال: إن الله عز وجل حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء)) [27].

 

هذه هي الواجبات التي يجب علينا أن نفعلها تجاه رسولنا صلى الله عليه وسلم، فمن أدَّاها فقد فاز وسعد، ومن فرط فيها فعليه أن يتدارك تقصيره.

 

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] البخاري (14).

[2] البخاري (6632).

[3] مسلم (2832).

[4] البخاري (16).

[5] البخاري (4064).

[6] مسند أحمد (1417)، وحسنه محققو المسند.

[7] البخاري (2731).

[8] تفسير ابن كثير (2/ 354).

[9] مسند أحمد (8952)، وصححه محققو المسند.

[10] الترمذي ( 1162)، وصححه الألباني.

[11] الترمذي (2018)، وصححه الألباني.

[12] صحيح الترغيب (40).

[13] أبو داود (4607)، وصححه الألباني.

[14] البخاري (6502).

[15] رواه البخاري (6651).

[16] رواه مسلم (2090).

[17] أبو داود (650)، وصححه الألباني.

[18] رواه مسلم (1659).

[19] رواه مسلم (1940).

[20] رواه مسلم (2405).

[21] رواه أبو داود (1091)، وصحَّحه الألباني.

[22] الفِصل في الملل والنحل، (2/ 73).

[23] رواه النسائي (1297) بإسناد حسن.

[24] رواه مسلم (384).

[25] رواه أحمد (1736)، وصححه محققو المسند.

[26] الترمذي (3545)، وصححه الألباني.

[27] أبو داود (1047)، وصححه الألباني.