في قضية الإسراء والمعراج

موضوعُ الإسراء والمعراج مِن كُنوز السِّيرة التي شاء الله ألاَّ تنفدَ عجائبُها، وأن تتجدَّد أبدًا عبرَها، فالمضمون الواحد تعالجه الأقلامُ النافذة، فلا تستوفي منه إلاَّ ما يواجهها، ممَّا يتَّصل بحاجة البِيئة ومفاهيمها المتطوِّرة، وتبقى أسرارُه الأخرى بانتظار المدارك الجديدة، التي يتعذَّر سبقُها إلاَّ في نِطاق محدود.

ولا جَرَم، فالسِّيرة النبويَّة هي مجال التطبيق الأوَّل لحقائق القرآن، وهي مِن أَجْلِ ذلك خالدة بخلوده، منتظمة في موكبه، تنتظر دائمًا وأبدًا الموهبةَ التي تحسن عرضَها بلغة عصرها، ومن هنا جاء توافر الإنتاج الفكريِّ في قضية الإسراء والمعراج؛ إذ كَثرُ متناولوهما، فتعدَّدت طُرقهم بين التحقيق والتلفيق، والخيال والموضوعيَّة، ولكلٍّ وجهة هو مولِّيها، وفَهْم خاصٌّ هو آخذ به.

وأُسرِع لأقول: إنَّني من أجل ذلك لن أقفَ بحثي على كيفية الإسراء والمعراج وأحداثهما؛ لأنَّ كثيرين سيتَولَّوْن ذلك فيما أتوقَّع، وأوثر لحديثي أن يكون في حدودِ العِبر التي أحسبها بعضَ الأهداف الكُبرى في هذين الحَدَثين الجَليلَين؛ ذلك لاعتقادي أنَّ كلَّ حَدثٍ صحَّ خبرُه من وقائع السِّيرة النبويَّة هو محطَّة تعبئة، لا مندوحةَ للمسلم من الوقوف عليها؛ لتجديد طاقته الرُّوحيَّة التي بها وحْدها يحقِّق وجودَه، ويتبيَّن حدود مسؤوليته في تنازُع البقاء، وبخاصة إزاء التيَّارات الجَهنميَّة التي تلحُّ على فصله عن ذلك الماضي، الذي على مقدار ارتباطه به يتوقَّف استمرارُه ويتأكَّد انتصارُه.

قبلَ رُبُع قرن أُلْقيَ عليَّ هذا السؤال: تبدأ سورة الإسراء بتمجيدِ الله، وإسرائه برسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وبيان الحِكمة من هذه الرِّحلة، ثم تنتقل فجأةً إلى رسالة موسى وبني إسرائيل، وما يَلي ذلك من الأغراض المُهمَّة، فما السِّر في جمْع المقدِّمة بين إسراء محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – ورسالة موسى – عليه السلام – وما يتَّصل ببني إسرائيل؟

ولقد حاول بعضُ المفسِّرين الرَّبطَ بين هاتين النُّقطتَين، وحاولوا الكشفَ عن ذلك، على تفاوُتٍ في وضوح الرؤية وتحديد الغاية، وفي يقيني أنَّ استبانة هذا السِّرِّ وإبراز مكنوناته مطلبٌ على جانبٍ عظيم من الأهميَّة، مِن حقِّه أن يُلهبَ عزيمةَ المسلمين، ويُزوِّدهم بالكثير من أسباب الصَّبر والنَّصر.

لقد شاءتْ حِكمة الله أن يُنشئ للجنس البشريِّ مناطقَ سلامة، يَفيء إليها كلَّما حزبْتُه هموم الحياة، فحالتْ بينه وبين الأمن الرُّوحي، الذي لا يستكمل إنسانيتَه بغيره، فكان المسجد الأقصى الذي بارَك حوله، فأحاطه بالخيرِ والنِّعم، وجعله مُنطلقَ الدَّعوة إلى توحيده وعبادته الخالصة، يقوم بها النبيُّون والرَّبَّانيُّون، وفي وادٍ غير ذي زرع عند مكَّة المكرَّمة أرسى لهذه الإنسانيةِ قواعدَ البيت الحرام؛ لتتسابق في ظلاله على طاعة الله، فتستردَّ في هاتين المثابتين ما ذُهِلت عنه من أوصار القُربى، ووشائجِ التعاطُف، ورُوح الاستقرار، وعَهِد – سبحانه – برعاية كلٍّ منهما إلى طائفة مِن عِباده، فوكل أمرَ المسجد الأقصى إلى أنبيائه وأنصارهم مِن بني إسرائيل، يَعْمرونَه بالعبادة، ويتوَلَّوْن مُجاوريه بالهداية، ويَفْصِلون بينهم بحُكم الله، واختار – سبحانه – لولاية بيته الحرام ذُرِّيةً من نبيَّيه الأكرمَينِ: إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – يُكرِمون الوافدِين إليه، ويُوفِّرون الأمنَ لكلِّ مُقبِل عليه.

ولكن سرعان ما نسي بنو إسرائيلَ عهدَ ربِّهم في رعاية مسجده، فإذا هم يَقتُلون أنبياءَه، ويَغدِرون بعباده، وينشرون على الأرض المباركة ظُلماتِ البغي، على حين ظلَّ سدنةُ البيت الحرام وافين بخِدمة بيته، مُوقِّرين له، قائمين بخدمة ضيوفه، حارسين لسلامتهم وأمنهم، حتى شاء الله تحقيقَ موعودِه ببَعثة خاتم النبيِّين – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – بعد أن استشرى الفسادُ في البرِّ والبحر، بما كسبت أيدي الناس، وتقلَّصت أنوارُ الهِداية عن أرجاء الأرض، فلم يبقَ فيها مَن يهتمَّ بها، إلاَّ بقيةٌ ضئيلة من أهل الكتاب، تناثروا في الأبعاد، حيث لا يُسمع لهم كلام، ولا يستطيعون ضرًّا ولا نفعًا، وبهذه البَعثة الخاتمة تدارك اللهُ عبادَه بواسعِ رحمته، فإذا هم في أوَّل الطريق اللاَّحب إلى الأُلْفة الجامعة، التي قدَّرها من الأزل تحت قِيادة الصادق الأمين، وسيِّد الأوَّلين والآخرين.

وفى ليلة الإسراء المباركة تمَّ بناءُ هذه الوَحْدة العالميَّة، لأوَّل مرَّة في تاريخ الإنسان، منذُ أن افترق جِنسُه إلى شعوبٍ وقبائلَ، وقد تجلَّى ذلك من الجمع بين البيت الحرام والمسجد الأقصى تحتَ لِواء هذا الرائد الأعظم، الذي اختارته العِناية الإلهيَّة لهذه المهمَّة، ومن أجْلِ ذلك جَمَع الله له إخوانَه النبيِّين لِيَؤمَّهم في صلاةٍ جامعة، تؤكِّد العودة بالإنسانيَّة إلى وَحْدتها المقرَّرة، وتضع في يد الأمَّة المسلمة من جميع الألوان ولاية المسجدين جميعًا؛ لتكونَ أمَّةَ الدَّعوة العالميَّة إلى التي هي أقوم.

ثم جاء المعراجُ إلى الملأ الأعلى تكملةً رائعةً للمسيرة الإنسانيَّة الجديدة، إذ كان بمثابة إعلانٍ بليغ لاتِّجاه هذه المسيرة نحوَ السماء، وبذلك انتهى عهدُ الضياع البشري، وتعيَّنت الغاية العُليا من الحياة والحضارة؛ لِيَحيا مَن حيَّ عن بيِّنة، ويَهلِك مَن هلك عن بيِّنة، وفي حُسباني أنَّ في هذه الحقائق المنظورة من خلال آياتِ الإسراء ما يصلح لأنْ يكونَ الجوابَ المقنع على ذلك السُّؤال القديم.

على أنَّ ثَمَّة أسئلةً أخرى تُثيرها الآيات، مِن شأنها أن تدفع إلى استكناه أجوبتها أيضًا؛ لأنَّ فيها ما يَمسُّ واقعَه الفاجعَ مع هذه النَّفْس اليهوديَّة التي تصوِّرها الآياتُ نموذجًا صارخًا للالتواء والتعقيد.

﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 4 – 8].

فها هنا إنذارٌ ربَّانيٌّ يوجِّهه الله إلى بني إسرائيل، في بعض أسفارِه المُنزلة على بعض أنبيائهم، حولَ عهدين من المعاصي الكُبرى، يقترفونها فيستحقُّون عليها نكاله الهائل، فهو يُحذِّرهم تلك الموبقاتِ، ويُرشدهم إلى سُبُل الخَلاص منها، وَفْق قانونه الذي لا يُحابي مسيئًا ولا محسنًا.

أمَّا أُولى المرَّتين، فقدِ اتفق المفسِّرون والمؤرِّخون على حصولها، وإن اختلفوا في تعيينها؛ وذلك لتعدُّد المفاسد التي استحقَّ القوم عليها العِقاب الكبير، ولعلَّ أهمَّها وأحقَّها بالتعيين حملة “نبوخذ ناصر”، التي دمَّرت مُلكَهم، وسفكت دماءَهم، واستقرت بقاياهم لعشرات السنين؛ ولكن الاختلاف على تحديد الثانية، وقد ذَهَب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّها قد مضت كأختها على يَدِ الرومان، ويرى آخرون أنَّ الثانية هذه غيرُ محصورة في ذلك الانتقام الرُّوماني على وجه القطع؛ لأنَّ مفاسد بني إسرائيل مستمرَّة على وجه الدَّهر، ومستمرَّة عقوباتها الإلهيَّة؛ تحقيقًا لقوله – تعالى -: ﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾ [الإسراء: 8]، فلا يُستثنى منها وقائع قريظة والنضير، وبني قينقاع وخيبر، ثم ما تلاهنَّ من كوارثَ جرُّوها على أنفسهم في أوروبا، حتى انتهت بمئات الألوف منهم إلى أفران هتلر، وفى رأي هؤلاءِ أنَّ المرَّة (الآخرة) لم تُخصَّ بالذِّكر في كتب الله؛ إلاَّ بما تتميَّز به من الحَسم الذي يُشبه الاستئصال، إذ سيكون فيها القضاءُ على طاقتهم الشَّديدة كافَّة، فلا يستطيعون بَعدَها إلى فتنةٍ سبيلاً، وقد يؤيِّد هذا المفهومَ كونُهم في كلِّ مفاسدهم التالية لحملة “نبوخذ ناصر” كانوا عالةً على غيرهم، لا يقدرون على شيء، إلاَّ بحَبْل من الله، وحَبْل من الناس، على حين يَصفهم القرآن العظيم أثناءَ المرَّتين أو أخراهما بالتفوُّق الذاتي، الذي يرتفع مداه إلى قمَّة الطُّغيان؛ حتى لا يفي بتصويره إلاَّ قوله – تعالى -: ﴿ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 4].

ومعلوم أنَّهم لم يبلغوا قطُّ هذا المستوى خلالَ عشرين قرنًا قبل قيام إسرائيل؛ إذ أصبح لهم كِيان مُزوَّد بكلِّ وسائل التدمير والإرهاب والاستعلاء، فضلاً عن سيطرتهم الفِكريَّة على منابع القوَّة في الشَّرق والغرب، وبخاصَّة في نطاق المال والسِّياسة والمذاهب الفِكريَّة والاجتماعيَّة الهدَّامة، وبسبب ذلك نميل إلى اعتبار “الآخرة” من المرَّتين هي التي نُعاصرها اليوم، ونعيش مآسيَها في العُدوان الذي لا يُقيم وزنًا للعواقب، وفى التدمير الخُلقي والرُّوحي الذي لا يتورَّع عن سلْب الإنسانيَّة في كلِّ مكانٍ كلَّ مقوِّمات السَّلامة والاستقرار، وهذا يقتضي بدهيًّا أن يكونَ مدلول (الأرض) في كلٍّ من المرَّتين مقيَّدًا بحدود الواقع التاريخي، فإذا كانت في الإفساد الأوَّل مقصورةً على الأرض المقدَّسة التي انحصر أثرُهم فيها وحْدَها، فميدانها في الإفساد الثاني يشملُ كلَّ جانب امتدتْ إليه سموم هذا الثُّعبان الجهنمي من أجزاء الكرة الأرضيَّة.

والآن، ونحن بإزاءِ الثِّقل الأكبر مِن أوزار هؤلاءِ المفسدين في الأرض، يَجدُر بنا أن نتساءل: إلى أيِّ مدى كُتِب علينا أن نُسهم في تأديبهم هذه المرَّة (الآخرة)؟

وقبل الإجابة على ذلك، نرجع البصر في قوله – تعالى – في آخر السورة: ﴿ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ﴾ [الإسراء: 104].

هذا إلى أنَّ في الفِقرة الأخيرة زيادةً تسترعي أعمقَ الانتباه؛ ففي قوله – تعالى -: ﴿ جِئْنَا بِكُمْ ﴾ [الإسراء: 104] إيذانٌ قاطع بأنَّهم سيُساقون بتقديرٍ مُحكَم من مختلف الأنحاء إلى مكانٍ معيَّن، وفى التعبير بـ(لفيف) توكيدٌ لذلك؛ إذ يُشير بصراحةٍ إلى تجميعهم إثرَ حصول الإفساد الآخر، ومع أنَّ الآيةَ لم تُحدِّد موضعَ التجميع باللَّفظ، فهو ملحوظٌ بالمعنى من اللَّفظ المجاور (الأرض)، الذي لا مجالَ للتردُّد في أنَّ المرادَ به هو الأرضُ المقدَّسة، التي أُمروا باستيطانها لإقامةِ شعائر الله، وتحقيق القِيَم العُليا التي يحبُّ – سبحانه – أن تُعمر بها الحياة، والتي تحقِّق بسابق عِلمه أنَّهم سيُفسدونها بسوءِ سلوكهم، وبتمرُّدهم على أنبيائهم.

وإذا كان الأمر كذلك، لم يبقَ مِن شكٍّ في أنَّ مهمَّة الإنقاذِ – إنقاذِ الإنسانيَّة من رجس هذه الثعابين – واقعةٌ على عاتق المسلمين وحْدَهم، وأنَّ موعد المعركة الفاصلة معها متوقِّفٌ على وصول هذا التجمُّع إلى حدود الانفجار.

وطبيعي أنَّنا لا نسجِّل سبقًا علميًّا إذا قلنا: إنَّ علماء السُّنة على عِلم بهذه الملحمة الحاسمة منذ أربعةَ عشرَ قرنًا، وأنَّهم يملكون المخطَّط الكامل عن تفاصيلها (الكبرى)، وذلك منذ اليوم الذي أبلغَهم رسولُ الله – صلوات الله وسلامه عليه – أنَّه: ((لا تقومُ السَّاعة حتى يُقاتلَ المسلمون اليهود، فيَقتُلهم المسلمون، حتى يختبِئَ اليهوديُّ من وراء الحَجر والشَّجر، فيقول الحَجر والشَّجر: يا مسلمُ، يا عبدَالله، هذا يهوديٌّ خَلْفِي، فتعالَ فاقتلْه، إلاَّ الغرقد؛ فإنَّه من شجر اليهود)).

والحديث مِن أنباء الغيب؛ أخرجه مسلمٌ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – فلا مِريةَ في صِحَّته، ويحسن بأهلِ الإسلام أن يُنعِموا الفِكر في إشاراته، التي قد يكون فيها الغريبُ عن مصطلحات زَمنِهم؛ ولكنَّها ذات أهميَّة بالغة بالنِّسبة إلى معركتهم المقبلة المحتومة مع هذا العدوِّ الخبيث.

إنَّ ها هنا أخبارًا قاطعة بملحمةٍ لا مناصَ منها بين المسلمين واليهود، تُفسِّره كلمةُ ((يقاتل))، التي تصوِّر المشاركة المتقابلة، ثم يأتي النَّصر الحاسم الذي يُسجِّله فعلاً بالغلبة بقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – : ((فيقتلهم المسلمون))، ويعقب ذلك تجسيمُ الهزيمة الواقعة في العدوِّ بصورة الاختباء وراءَ كلِّ مظنة للقوَّة والنَّجاة من حَجر وشجر، ويلحق بالحجر كلُّ ما يتألَّف منه؛ كالحُصون والخنادق والبُيوت والصُّخور، والذي نُريد التنبيهَ عليه هنا هو ما يحمله الحديثُ الشريف من إنذارٍ للمسلمين بهذه الملحمة الهائلة، والملابسات التي تكْتنفها، والنهايات التي ستصير إليها؛ ليكونوا على بيِّنة من مسئولياتهم الآتية، وعلى أُهبة لتحقيق واجباتهم بإزائها؛ لكي يستحِقُّوا النصرَ الموعود.

بقيتْ هنالك نقطتان:
أولاهما: أنَّ مجرَّد نداء الحجر والشجر بكلمة (يا مسلم، يا عبدالله) دليلٌ كافٍ على أنَّ جنود الإسلام يومئذٍ سيكونون من النَّوع الذي يستحقُّ الإضافة إلى الله، ولن يستحقَّ المحاربون هذا التكريم إلاَّ أن يكونوا مُصفَّين من كلِّ عصبيَّة جاهليَّة، وخلل عقدي، مخلصي العمل لله وحدَه.

أمَّا الثانية: فهي أنَّ الخبرَ النبويَّ يعرض العدوَّ معرفًا بـ”أل”، وفي هذا التعريف الاستغراقي ما يشدُّ الانتباه، ويفسح مجالَ الاحتمال بأنَّه إشارةٌ إلى تجميع يجعل اليهود صالحين لكسرِ شوكتهم وتحطيم قوَّتهم.

وإذا صحَّ هذا التأويل – ولا مانع منه – فلن يكون ثَمَّة تجمعٌ لهذه الشراذم السامَّة أصلح من تجمُّعهم القائم في فلسطين، وبالتالي لن تكون هناك فرصةٌ للقضاء على شُرورهم، وإنقاذ البشريَّة من فواجعهم – أصحَّ من هذه المناسبة، ولا حاجةَ للظنِّ أنَّ نتيجةَ الملحمة هي استئصالُ الجِنس اليهوديِّ كُليًّا؛ فإنَّ التَّعبير بقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيقتلهم المسلمون))، قد يُراد به الإثخان دون الاستئصال؛ وذلك كقول عمرو بن سالم الخزاعي لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -:
هُمْ بَيَّتُونَا بِالوَتِيرِ هُجَّدًا ♦♦♦ وَقَتَّلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا

ولو كان القتلُ شاملاً لخزاعة لَمَا بقي منهم هذا المَخبر، ولو كانتْ نِهايةُ الملحمة استئصالَ اليهود، لَمَا أخبر – صلَّى الله عليه وسلَّم – في حديث آخر بأنَّ عشراتِ الألوف مِن يهود أصفهان سيتَّبعون المسيحَ الدَّجال فيما بعد.

وبعدُ، فهذه بعض العِبر التي رأيتُ أن أقف عليها حَدِيثي عن موضوع الرِّحلة النبويَّة المباركة، فهل تجد الآذانَ الصاغية، والقلوب الواعية، والهمم العالية؟

ذلك ما أرجو، والله حسبي، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ به.