المعايرة الدقيقة للكون

 Fine-tuning of universe

ظهر الكون إلى الوجود بمعايرة دقيقة لآلاف الثوابت الفيزيائية والطبيعية، والتي لو اختل ثابت منها بمقدار جزء من مليار مليار مليار جزء لاختل الكون قبل أن يبدأ أو لتوقف عند مرحلة البيضة الكونية cosmic egg .

يقول الفيزيائي الشهير ستيفن هاوكنج Stephen Hawking في كتابه موجز تاريخ الزمن صفحة 121 ” إن سرعة توسع الكون سرعة حرجة جدًا إلى درجة أنها لو كانت في الثانية الأولى من ظهور الكون أقل من جزء من مليون في مليـار جزء لانهار الكون حول نفسه قبل أن يصل إلى وضعه الحالي .”

 

وكل الثوابت الفيزيائية ظهرت في نفس اللحظة بنفس المعايرة الدقيقة والضبط الحرج فمثلاً:

1- كتلة الإلكترون Electron mass تمثل 0.2% من كتلة النيوترون Neutron mass، وهذه هي الكتلة القياسية لتكوين الذرَّة .

 

2- ولو كانت كُتلة البروتون Proton  أثقل مما هي عليه الآن ب0.2% فقط، فإنه سينحَّل إلى نيوترونات Neutrons، وبالتالي سيعجز عن الإمساك بالإلكترونات التي تدور حول النواة وسينهار النموذج الذري، ولو كانت النسبة بين كتلة البروتون إلى كتلة الإلكترون أقل قليلاً مما هي عليه الآن، فلن تظهر نجومٌ مستقرّة، ولو كانت أعلى قليلاً مما هي عليه الآن فلن تظهر الأنظمة التشفيرية في خلايا الكائنات الحية DNA – لأن الأنظمة التشفيرية تعتمد على توازن ذرات الكربون التي تُشكِّل القواعد النيتروجينية في أنظمة التشفير، وذرات الكربون تحتاج إلى توازن كتلة البروتون مع كتلة الإلكترون حتى يصبح الكربون ذرة مستقرة -.. وبالتالي لن يظهر الكائن الحي .

 

3- عندما تلتحم ذرتان من الهيدروجين فإن 0.7 % من كتلة الهيدروجين تتحول إلى طاقة، لو كانت هذه الكتلة هي 0.6% بدلا من 0.7% ، فإن البروتون لن يلتحم بالنيوترون، ولظل الكون مجرد هيدروجين فحسب، ولما ظهرت باقي العناصر، ولو كانت الكُتلة المتحوّلة إلى طاقة هي 0.8% بدلاً من 0.7% ،لأصبح الالتحام سريعاً للغاية، الأمر الذي سيؤدي إلى اختفاء الهيدروجين فوراً من الكون، فتستحيل معه الحياة، فالرقم يلزم أن يكون بين 0.6% و 0.8% .

 

4- النسبة بين القوى الكهرومغناطيسية والجاذبية هي 1: 10 أس40، وهو فرق شاسع لا يمكن استيعابه، كذلك الفرق بين القوى النووية القوية والقوى الجاذبية، هو أيضاً فرق مهول للغاية، ولو افترضنا أن الأرض التي تجذب الإنسان بقوى الجاذبيّة، قامت بجذبه بالقوى النووية القوية، فإن وزن الإنسان على الأرض سيُعادل مائة مليون نجم!

لكن السؤال الآن : ما الذي يجعل القوى الجاذبية بهذا الضعف الشديد، والقوى النووية القوية بهذه القوة الشديدة ؟ مع أن هذا الفارق الرهيب في موازين القوى ليس من شروط ظهور الجسيمات الأُولى، ولا من مُعطياتها ..!! إنه الإعداد الإلهي بالعناية الفائقة.

 

5- يقول [ماكس تيجمارك] Max Tegmark عالم الكونيات الأمريكي: ” إذا كانت القوى الكهرومغناطيسية أضعف مما هي عليه ب4% فقط، لانفجرت الشمس فور تكونها، وستصبح نفس النتيجة إذا زادت القوة الكهرومغناطيسية عما هي عليه، إن ثوابت الطبيعة تبدو مُعدَّة بعناية عند مستوًى ما، وإذا كانت القوى النوويّة الضعيفة أقل مما هي عليه الآن لن يتكون الهيدروجين، وبالتالي سيظل الكون مجرد غبار كوني، وإذا كانت أقوى قليلاً فإن جسيمات النيوترينو neutrinos ستعجز عن مغادرة المستعرات العملاقة – السوبرنوفا Supernova- وبالتالي لن تنتقل العناصر اللازمة للحياة خارج المستعرات العملاقة – النجوم المُنفجرة -.”

space.mit.edu/home/tegmark/multiverse.pdf

 

6- قوى الجاذبية لو كانت أقوى قليلاً مما هي عليه الآن لما استغرقت حياة الشمس التي ستتكون بعد ذلك أكثر من عشرة آلاف سنة . فهذا ضبط غير قابل للاختزال أو للتأجيل، فسبحان بديع السماوات والأرض .!!

 

ولذا يرى [ليونارد سوسكايند] أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة ستافورد والمؤسس لنظرية الأوتار الفائقة أن مُعطياتنا عن الثوابت الكونية – مثل النسبة بين الإلكترون والبروتون -، تقف كلها على حافة سكين وكلها مُستقلة عن بعضها البعض، وفي الوقت نفسه تتلاقى لتسمح فقط بإحداث الحياة، وتغيُّرُ أىِّ مُعطى من هذه المعطيات التي نشأت مستقلة لم يكن يسمح لها بالتلاقي فضلاً عن إمكانية إيجاد حياة أو حتى منظومة كونية .

http://www.edge.org/3rd_culture/smolin_susskind04/smolin_susskind.html

ولو افترضنا للحظة أننا نرغب مثلاً في رؤية الذرات الموجودة داخل رأس دبوس صغيرفإننا بحاجة إلى تكبير رأس الدبوس بحيث يصير بحجم الكرة الأرضية وفي تلك الحالة لن يتجاوز حجم الذرَّة كرة قدم صغيرة .. لماذ الذرات بهذا الحجم المدهش ؟

إذا افترضنا أننا نرغب في رؤية النواة داخل الذرَّة فإننا بحاجة لتكبير كُرة القدم السابقة لتصير بحجم ملعب كرة قدم كبير وفي تلك اللحظة فلن يتجاوز حجم نواة الذرة حبة غُبار صغيرة للغاية .. فحجم نواة الذرَّة يساوي جُزء من عشرة بلايين جُزء من حجم الذرَّة .. ومع ذلك توجد كُتلة الذرة كلها في النواة 99.5%

والآن التساؤل الهام: كيف تكون كتلة ملعب عملاق كلها موجودة فقط في حبة غُبار منه والباقي فراغ تـام ؟

إن هذا النظام الذري بهذا الشكل وهذا التوازن بين كتلة النواة في مقابل حجمها داخل الذرة هو النظام الوحيد الذي يسمح بتشكيل الكون وبحدوث التفاعلات الفيزيائية .

فهذا الأمر لا يُمكن استيعاب حدوثه بالصُدفة أو الخبط العشوائي إنه تدبيرُ وإحكامُ وعجيبُ صُنْعِةِ، ولذا يأمر الله سبحانه باستمرار بتدبر آيات خلقه وشواهد قدرته!

 

وهكذا آلاف الثوابت الكونية في كوننا والتي جاءت بمنتهى المعايرة الدقيقة والضبط بحيث تتيح كل صور الحياة والاتزان حولنا، وكل ثابت منها يمثل معجزة بحد ذاته وأروع هذه الثوابت هو الثابت الكوني Cosmological constant  الذي لو اختلفت قيمته بأقل من جزء من صفر يليه 123 صفر ثم 1 من الواحد لانهار الكون بأكمله، وغيرها من الثوابت الشيء الكثير مثل درجة غليان الماء، ومثل كتلة البروتون ومثل حجم النواة ومثل حجم الذرة و.. ، إنها معايرة دقيقة وضبط بعناية وإلا ما ظهر الكون، إذن الخلق لابد أن يستتبعه إعداد بعناية  fine tuning of the universe  وهذه الكلمة fine tuning of the universe  دخلت إلى الفيزياء عن طريق الفيزياء وليس عن طريق الدين  .

 

هذا هو الإشكال الحقيقي الذي يفرض نفسه على الملحد من ضمن آلاف القرائن والأدلة التي تثبت روعة الخلق وضبط الصنع، ولا يبقى إلا شكر المنعم أو تجاهل القضية وتمضيتها عبث في عبث.