الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، أما بعدُ: فقد فرض الله الصيام على المؤمنين، وجعله في الإسلام ركنًا ركينًا، وخص به رمضان من سائر شهور السنن؛ ولأن الله بالناس رءوف رحيم، فقد رخص بالإفطار لكل ذي عذر مبين، وأسقط الإثم على من أفطر وكان من الناسين أو الجاهلين أو المكرهين، وللكلام عن رخص الصيام نقول، وبالله تعالى نستعين: أولاً: تعريف الرخص لغة وشرعًا: تعريف الرخص لغة: جمع رخصة، وهي التيسير والتسهيل، ومنه رخُص السعر إذا تيسر وسهل، كما تطلق على الحظ والنوبة في السقي بالماء، فيقال: أخذ رخصته من الماء أي حظه ونصيبه، وتجمع أيضًا على «رخصات».
تعريف الرخصة شرعًا
عرفها الإسنوي في نهاية السول شرح منهاج الأصول بأنها الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذرٍ، ومثال ذلك أكل الميتة للمضطر ثابت على خلاف الدليل الذي حرّم أكل الميتة، قال الله تعالى: « قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً » [الأنعام:145]، وقال: « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ » [البقرة:173].
ثانيًا: أدلة مشروعية الرخص
بيّن العلماء أن جميع رخص الشرع في العبادات والمعاملات تتخرج على قاعدة المشقة تجلب التيسير، ومن ثَمَّ فإن أدلة هذه القاعدة هي ذاتها أدلة مشروعية الرخص، وقد استدلوا عليها بالقرآن والسنة، وفعل الصحابة والإجماع. الأدلة من القرآن: قال الله تعالى: « يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » [البقرة:185]، وقال: « لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا » [البقرة:286]، وقال: « مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ » [المائدة:6].
الأدلة من السنة
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة». [رواه البخاري 39]. 2- لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما قال لهما: «يسّرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا». [رواه البخاري 3038]. 3- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا ولكن بعثني معلمًا ميسرًا». [رواه مسلم 1478].
الإجماع
أجمعت الأمة على أن التكليف الشاق لم يقع في التشريع، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف لما كان هناك ترخيصٌ ولا تخفيفٌ.
ثالثًا: أقسام الرخص الشرعية عند الفقهاء
الرخص الشرعية عند الفقهاء خمسة أنواع وهي: 1- رخص يجب فعلها على المكلف؛ كأكل الميتة للمضطر. 2- رخص يندب فعلها؛ كالقصر في السفر. 3- رخص يباح فعلها؛ كالسلم في المعاملات. 4- رخص الأولى للمكلف تركها؛ مثل الجمع بين الصلوات للمسافر النازل، لا المرتحل. 5- رخص يكره فعلها، مثل القصر في أقل من ثلاث مراحل عند بعض الفقهاء. رابعًا: أسباب التخفيف والتيسير المجوّزة للرخص الشرعية المتعلقة بالصيام:
السبب الأول: السفر
فقد رخص الله سبحانه وتعالى للمسافر الفطر في رمضان: 1- الدليل على ذلك: قال الله تعالى: « أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » [البقرة:185]. وعن أنس بن مالك رجل من بني عبد بن كعب رضي الله عنه: أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: ادن فكُل، فقلت: إني صائم، فقال: ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام، إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة». [رواه الترمذي وقال الألباني: حسن صحيح]. فائدة: أنس هذا غير أنس بن مالك خادم رسول الله المشهور. قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم روى غير حديث الصوم هذا. وعن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أأصوم في السفر؟» وكان كثير الصيام، فقال: إن شئت فصم وإن شئت فافطر. [متفق عليه].
حكم الفطر لمن كان سفره دائمًا
كالسائق المسافر من بلد إلى بلد، فهذا يفطر ولو كان سفره مستمرًا؛ لأنه لا وطن له يأوي إليه، ويجوز له الصيام في الشتاء، أو إذا عاد إلى بلده. الواجب على من أفطر بعذر السفر: يجب عليه قضاء ما أفطره؛ لقوله تعالى: « فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ َ» [البقرة:184]، ولا فدية عليه، فإذا قدم المسافر في أثناء يوم قد ترخص فيه وأفطر فيستحب له الإمساك بقية اليوم ولا يجب؛ لأنه أفطر بعذر، وقد أبيح له الفطر من أول النهار ظاهرًا وباطنًا، فجاز له الإفطار في بقية النهار، كما لو دام السفر، فإذا قدم في أثناء نهار رمضان وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت أثناء النهار من حيض أو نفاس أو برأت من مرض وهي مفطرة، فله أن يطأها ولا كفارة عليه، لأنهما مفطران فأشبها المسافرين والمريضين.
السبب الثاني: المرض
تعريفه: عرفه السيوطي في الأشباه والنظائر بأنه «خروج بدن العبد المكلف عن حد الاعتدال إلى حد الضعف الذي يطرأ على الجسم فيؤثر عليه بالعجز عن القيام بأداء الواجب الشرعي كما طلب عزيمة». اهـ. دليله: قوله تعالى: « وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ َ» [البقرة:185].
أحكام الفطر في المرض
قال ابن العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين: والمرض ثلاثة أقسام: القسم الأول: المريض مرضًا لا يرجى برؤه، بل هو مستمر، فهذا لا صيام عليه، ولكن عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا؛ لأنه من جنس الكبير العاجز عن الصوم الذي لا يُرجى زوال عجزه. القسم الثاني: المريض مرضًا يضره الصوم: ويخشى عليه أن يهلك به، كمريض لا يستطيع الاستغناء عن الماء مثل بعض أنواع المرض السكري وغير ذلك، فهذا يحرم عليه الصوم؛ لقوله تعالى: « وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا » [النساء:29]. القسم الثالث: مرض يشق معه الصوم لكن لا ضرر فيه: والأفضل أن يفطر ولا يصوم، ويقضي بعد ذلك، وأما المرض الذي لا يتأثر به الصيام، كمرض العين اليسير ومرض السن، وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز فيه الفطر؛ لأن الحكمة من الرخصة هي إزالة المشقة، وهذا لا مشقة عليه إطلاقًا، فلا يحل له الفطر، والأصل وجوب الصوم في وقته إلا بدليل بيّن واضح يبيح للإنسان أن يفطر ثم يقضي بعد ذلك. اهـ. الواجب على من أفطر بعذر المرض: إن كان مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه أي لا يرجى زواله مثل مريض الفشل الكلوي أو فيرس سي، فهذا يُفطر وعليه الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم مدًّا من طعام، أي ربع صاع من قمح أو أرز ونحوهما (حوالي نصف كيلو أو يزيد قليلاً، والأفضل أن يطعم الواجد مسكينًا من أوسط ما يطعم أهله؛ قياسًا على كفارة اليمين المذكورة في القرآن، وهذا الأنفع للفقير الآن، قال البخاري في صحيحه، وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعدما كبر عامًا أو عامين كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا، وأفطر. أما إن كان مريضًا مرضًا يرجى برؤه، ولكن يشق معه الصوم فله الفطر وعليه القضاء بعد ذلك، فإذا برئ المريض وهو مفطر فيستحب له الإمساك بقية يومه ولا يجب، ولا يجوز تعجيل الفدية قبل دخول رمضان، ويجوز عند طلوع فجر كل يوم، وقبله أيضًا. السبب الثالث: النسيان: تعريفه: هو عدم استحضار الشيء في ذهن المكلف وقت الحاجة.
حكم من أفطر ناسيًا
إذا أكل الصائم، أو شرب، أو جامع، أو فعل ما ينافي الصوم ناسيًا؛ لم يفطر. دليله: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه». [متفق عليه]. ولا خلاف بين أهل العلم في أن معنى الحديث أن الله عز وجل رفع الإثم المترتب على الخطأ أو النسيان أو الإكراه، كما أنهم اختلفوا في مسألة جماع الناسي، والراجح أنه لا يفطر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين، والثانية: عليه القضاء بلا كفارة وهو قول مالك، والثالثة: عليه الأمران وهو المشهور عن أحمد، والأول أظهر. اهـ.
السبب الرابع: الجهل
تعريفه: هو فعل الشيء على غير حقيقته اعتقادًا من المكلف أنه على حقيقته الشرعية.
حكم من أفطر جاهلاً
إذا أكل الصائم أو شرب أو جامع جاهلاً بتحريم ذلك فإننا نفرق بين حالتين: الأولى: إن كان قريب عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة: بحيث يخفى عليه كون هذا مفطرًا: لم يفطر قياسًا على الناسي. الثاني: إن كان مخالطًا للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر؛ لأنه مقصر. قال السيوطي في الأشباه والنظائر: كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه هذا الجهل في رفع الإثم عنه، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، وهو معرفة الحلال من الحرام كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر. اهـ.
السبب الخامس: الإكراه
تعريفه: هو حمل الغير للمكلف على ما لا يختار ولا يرضاه من قول أو فعل بحيث لو خلي بينه وبين نفسه لم يفعله. حكم من أفطر مكرهًا: فإذا أكره إنسان آخر على الطعام والشراب أو الجماع بأن أدخل الطعام في فمه أو أسقط الماء وغيره في أنفه فنزل إلى جوفه أو ربطت المرأة وجُومعت، أو هدده وأكرهه حتى يأكل أو يشرب بنفسه أو أُكرهت على التمكين من الوطء ففعلت: فالصحيح أن صيام المكره صحيح ولا يبطل، وذلك لأنه مأمور بدفع الضرر عن نفسه، فقياسه على الناسي من باب أولى؛ لأن الناسي ليس مخاطبًا بأمر ولا نهي.
السبب السادس: النقص
تعريفه: هو ضد الكمال، والمراد بالنقص هنا هو نقص العبد عن الوصول إلى مرحلة البلوغ وتمام التكليف بحيث يشق التكليف عليه أو وجود صفة فيه ولو كان مكلفًا يكون التكليف الشرعي بسببها فيه مشقة عليه.
صيام الصبي والمجنون
لا يجب عليهما صيام رمضان ولا يجب عليهما قضاء ما فات قبل البلوغ أو العقل؛ لما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل. [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وإن كان يستحب تعويد الصغار على الصوم لفعل الصحابة ذلك مع صغارهم.
الحائض والنفساء
لا يحل لهما الصوم ويفطران رمضان ويقضيان، فإذا صامتا لم يجزئهما الصوم، فعن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. [متفق عليه]. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم، فذلك من نقصان دينها». [متفق عليه]. فإن كانت صائمة ونزل دم الحيض أو النفاس في أي وقت قبل الغروب، فسد صوم ذلك اليوم، ويجب عليها الإمساك بقية اليوم لحرمته، أما إن كانت حائضًا أو نفساء وطهرت قبل الغروب فيستحب لها الإمساك ولا يجب. أما المستحاضة: فصيامها صحيح، وهي التي ينزل منها الدم في غير وقت الحيض.
الحامل والمرضع
إن خافتا من الصوم على أنفسهما أو على ولدهما أفطرتا وقضتا ولا فدية عليهما. دليله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام». [رواه الترمذي وقال عنه الألباني: حسن صحيح]. وهذا الحديث المتقدم في السفر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «رخص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان الصوم أن يفطرا إن شاءا أو يطعما كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليهما ثم نسخ ذلك في هذه الآية «? ? ? ? ?» وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا كل يوم مسكينًا». [رواه أبو داود وصححه الألباني]. والراجح من أقوال أهل العلم أن الحامل والمرضع تفطران وتقضيان ولا فدية عليهما كالمريض.
السبب السابع: العسر وعموم البلوى
تعريفه: المراد بالعسر هنا هو المشقة التي يعانيها المكلف في تجنب الشيء عند أداء الأمر المكلف به شرعًا على جهة العزيمة. والمراد بعموم البلوى هو شيوع الأمر بين العباد المكلفين بحيث يصير بلاء يصعب على المكلف الاحتراز منه والبعد عنه. اختلف الفقهاء في العلة في ترخيص الإفطار للمسافر هل هي السفر؟ أم هي المشقة؟ فمن ذهب إلى أن العلة هي السفر لم يجزِ لغير المسافر والمريض الإفطار في نهار رمضان ولو شعر بالمشقة، وقالوا: إن العلة هي السفر لأنها وصف ظاهر منضبط بينما المشقة تختلف من شخص إلى آخر، وهي الحكمة وليست العلة. ومن رأى أن المشقة هي العلة أجازوا لكل من يشق عليه الصوم مشقة كبيرة لا يتحملها أن يفطر في رمضان من الأعمال التي لا غنى عنها للناس مثل الخباز الذي يقف أمام الفرن، والحق أن العلة في الإفطار للمسافر هي السفر. من كل ما سبق يتضح مدى كمال الشريعة الإسلامية وأنها شريعة لا تكلف بما لا يطاق، وأن اليسر والسماحة منهج ثابت فيها لا يتغير ولا يتبدل. والله الموفق.