أ.د/ علي بن إبراهيم النملة
أ.د/ علي بن إبراهيم النملة

يصل عدد الذين يعملون في بعثات التنصير في كل من آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية إلى أكثر من ستمائة ألف عامل (000, 600)، نصف مليون منهم (000, 500) من الكاثوليك مدعومين من الفاتيكان، ويزيد عدد المدارس التابعة لهم في العالم عن ثمانية وخمسين ألف مدرسة (000, 58)، أما المعاهد فتزيد عن ستة وعشرين ألف معهد (000, 26)، ويزيد مجموع الإعانات التي توزع على هذه المدارس والمعاهد والمستشفيات والمخيمات عن مائة وعشرين مليون دولار في العام الواحد.

 

وغالبية القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية من المنصرين البروتستانت؛ حيث يزيد عددهم عن الخمسين ألفًا (000, 50) وتشكل نسبة المنصرين الكاثوليك القادمين من الولايات المتحدة حوالي 30% من المجموع الكلي، كما تشكل نسبة المنصرين عمومًا القادمين من الولايات المتحدة أكثر من 10% من المجموع الكلي للمنصرين في العالم، والبقية موزعة على أوروبا في الفاتيكان وبريطانيا وفرنسا وهولندا وبعثات محدودة من سويسرا وبلجيكا والسويد والنرويج، وأقلها البعثات الألمانية؛ لقلة عدد المتحدثين بالألمانية في العالم عدا قسط يسير في أمريكا الجنوبية.

 

ونتيجة لهذه البعثات يتوقع أن تصل نسبة نصارى العالم في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى 80% من المجموع الكلي للنصارى في العالم، وذلك في عام 1420هـ – 2000م..ويخطط الفاتيكان إلى تنصير بلاد بعينها مع حلول عام 1420هـ – 2000م.

 

ومن أصعب البيئات التي يطرقها المنصرون البيئات المسلمة التي يكثر فيها عدد المسلمين؛ ولذلك وبعد مائة سنة من جهود التنصير يجتمع زعماء التنصير عام 1935م في القدس في أحد المؤتمرات برئاسة زعيم التنصير في العالم العربي صموئيل (السموءل) زويمر، فيبدون في ذلك المؤتمر يأسهم من تنصير المسلمين؛ إذ لا يقبل عليهم إلا طفل لم ينشأ في بيئة مسلمة، أو جائع يريد أن يسد رمقه، أو شخص ذو مآرب أخرى، فيؤكد لهم (زويمر) أن القصد من تنصير المسلمين ليس إدخالهم في النصرانية/ المسيحية، ولكن يكفي أن يخرجوا من دينهم؛ لذا لا بد من اتباع أسلوب آخر معهم ينصب على تشكيكهم في مبادئهم وقيمهم وقرآنهم وسنة نبيهم، على غرار ما يقوم به المستشرقون منذ عهد غير قريب، ومن جملة ما قال زويمر: “ولكن مهمة التبشير “التنصير” التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية؛ فإن هذا هداية لهم وتكريم، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام؛ ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به في الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعًا كل التهنئة”.

 

ويمضي “زويمر” في التأكيد على التوغل في مجالات التربية والتعليم، وفي مجالات الشباب والمجالات التي تهم المرأة.. هذا وإن كان في خطبة زويمر دلالة ضمنية على عجز التنصير في بلاد المسلمين، إلا أن فيها تأكيدًا على المضي قدمًا في طريق تأييد الخطو الاستعماري في البلاد جميعًا؛ ولذلك يقرر الباحثون عمق الصلة بين الاستعمار والتنصير، وأن كلًّا منهما أعان الآخر عونًا ملموسًا في أدائه مهماته بغض النظر عن أيهما مهَّد للآخر.

 

المستشرقون:

وكما أن هناك علاقة وثيقة الصلة بين الاستعمار والتنصير هناك علاقة وثيقة الصلة أيضًا بين التنصير والاستشراق؛ فطلائع المستشرقين كانوا في مجملهم ممن تخرجوا من مدارس ومعاهد اللاهوت، بل إن الدافع الأساسي للاستشراق هو الدافع الديني/ والتنصير جزء من هذا الدافع، والهدف الأساسي للاستشراق هو الهدف الديني/ والتنصير جزء من هذا الهدف.

ولأن الاستشراق قد ظهر بوجه العلم والبحث العلمي، ولأن المستشرقين لم يبرحوا أماكنهم في بلادهم إلا لضرورة البحث، ترى بعض المطلعين يستبعد أن تكون هناك علاقة قوية بين الاستشراق والتنصير، ويؤيد هذا أن بعض المستشرقين كانوا علمانيين، وبعضهم كانوا – ولا يزالون – من اليهود…وهذا حق، ولكن البقية الباقية – وهي الأغلبية – سعت لتحقيق أهداف التنصير، بل إن هؤلاء المستشرقين العلمانيين واليهود قد خدموا التنصير بطرق غير مباشرة من خلال ما سعوا إلى تحقيقه من أهداف استعمارية، أو سياسية، أو اقتصادية، وربما أهداف علمية جانبهم فيها الصواب، وجانبوه عمدًا..

 

ومن ضمن مجموعة المنصرين كان بعض المستشرقين؛ فزويمر نفسه مستشرق له بحوث ودراسات عليها صبغة العلمية عن العالم الإسلامي، وكان البعض يعمل مستشارًا لهيئات التنصير، كما كانوا يعملون مستشارين لوزارات الحربية والخارجية ووزارات الاستعمار، يقول محمود محمد شاكر في كتابه.. (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا): “وبفضل ملاحظاتهم – المستشرقين – التي زودوا بها رهبان الكنيسة ثارت حمية الرهبان، ونشأت الطائفة التي نذرت نفسها للجهاد في سبيل المسيحية، وللدخول في قلب العالم الإسلامي لكي تحول من تستطيع تحويله عن دينه إلى الملة المسيحية، وأن ينتهي الأمر إلى قهر الإسلام في عقر داره – هكذا ظنوا يومئذ – وهذه الطائفة التي عرفت فيما بعد باسم رجال “التبشير” فهذه “الاستعمار، التنصير، والاستشراق” ثلاثة متعاونة متآزرة متظاهرة، وجميعهم يد واحدة؛ لأنهم إخوة أعيان، أبوهم واحد، وأمهم واحدة، ودينهم واحد، وهدفهم واحد، ووسائلهم واحدة” ص 75 من طبعة دار الهلال 1408هـ.

ولعبدالرحمن حسن الميداني كتاب بعنوان (أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير، الاستشراق، الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه).. وقد لا يعجب البعض هذا العنوان؛ لما يوحي به من احتمالية عدم التجرد، ولكنه كتاب جيد في مجاله.

 

مستقبل التنصير:

والكثير من المتابعين يرون أن عهد الاستعمار قد ولى، وأن زمن الاستشراق قد أعلن أفوله إلا من بقية باقية تصدى لها مفكرو المسلمين وضيقوا عليها الخناق، فما عادت تمارس ما مارسه أسلافها من الطعن المباشر، والحق أن الاستشراق لا يزال قائمًا، ولكنها الوسائل هي التي تغيرت، أما التنصير فإنه يزداد قوة وتصميمًا، ولا بد أن يستمر في الاستعانة بالاستشراق، وربما جعل من ذاته معولًا استعماريًّا يؤكد استمرارية الاستعمار، لكن بصورة أخرى غير الصورة التي كان عليها الاستعمار في القرن الماضي والنصف الأول من القرن الحالي.

ومع التصدي الإسلامي للتنصير وبروز فكرة التبشير المضاد يجد التنصير نفسه في موقف يحتم عليه تطوير وسائله وأساليبه، فيسارع إلى المناطق المنكوبة بسبب الحروب، أو الكوارث الطبيعية، أو المجاعة، أو نحوها، فيقيم مراكزه قبل أن يصل إليها المسلمون في بلاد الإسلام وفي غير بلاد الإسلام، ومع هذا يبقى الاتجاه إلى مراكز الإغاثة الإسلامية بارزًا رغم تفوق مراكز التنصير في الخدمة والإمكانات، مما يؤكد الحاجة إلى التكثيف من مراكز الإغاثة وتطويرها وشموليتها.

 

التنصير في أوروبا:

وليس التنصير موجهًا فقط إلى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل هنالك التنصير المحلي في أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو موجه إلى النصارى واليهود وأصحاب المذاهب الأخرى والعلمانيين، كما أنه موجه إلى الجاليات المسلمة في هذه البلاد من المقيمين فيها، أو من الطلبة والسائحين، وهنالك برامج خاصة للطلبة في الأعياد والمناسبات وفتح الأسر أبوابها لسكن الطلاب والجمعيات الدينية في الجامعات والكليات، بالإضافة إلى برامج الإذاعة والتلفزيون الموجهة، وخاصة منها في المناسبات وأيام الأحد.

وهنالكم أشخاص يجوبون الشوارع ويقرعون الأبواب ممن ينتمون إلى مجموعة (شهود يهوه) وغيرهم، فتراهم يحملون معهم كتابهم ومجموعة من المنشورات يتجولون في المطارات والأسواق المركزية يحاولون إقامة علاقات عمادها النقاش والإقناع، مع عدم استعدادهم لسماع وجهة نظر الآخرين على اعتبار أنهم يرون أنهم على الحق وغيرهم على باطل، ونشاط هؤلاء المحليين لا يقل عن نشاط البعثات في البلاد الأخرى، وإن اختلفت الوسائل..

 

ويعانون أيضًا من عدم إقبال المسلمين على دعوتهم؛ فالمسلمون هناك يشكلون العقبة الكَأْدَاءَ أمامهم، وكثيرًا ما ردوهم ردًّا قائمًا على المناظرة والإقناع، فينسحبون خائفين من أن تنقلب الصورة، وقد حدث أن انقلبت فعلًا، فأسلم منصرون، ولم يتنصر مسلمون، هذا على المستوى الأوروبي والأمريكي.

ولكن علينا نحن المسلمين مواصلة الجهد في صد هذا التيار بالوسائل المتاحة وبالرجال المؤمنين، وتلك نقطة تحتاج إلى وقفة أخرى، كان الله في عون الجميع..