شيخي
• ما أجمل تلك الأيام الذاهبة حين كنت أقرأ فيها على الأستاذ الشيخ أحمد حفو (شرح الآجرومية في النحو)، بقرب مسجده في تلك القرية النائية عن مدينتنا، والتي تسمى قرية أهل سابك الشرفاء، حيث الأطفال يلعبون بالكرة في مرح وسرور تحت وهج شمس ربيعية دافئة، تذكَّرت الآن تلك اللحظات فابتسمت بعمق وكأنني أنظر إلى ذلك الشيخ وهو يعبث بلحيته المسترسلة المصبوغة بالحناء، وهو يقول لي: أعرب: جاء زيد راكبًا.

نصيحة
• قال لي الأستاذ (أحمد حفو) في بداية تعلمي للكتابة بعدما قرأت عليه مقالةً؛ لكي ينبهني على أخطائي النحْوية والإملائية فيها إن وُجدت، ويرشدني إلى أقوم طريق حينها، وكانت تلك المقالة في الرد على امرأة ألَّفت كتابًا تسيء فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجدني غضبان آسفًا، والشرر يتطاير من بين السطور كأنها حُمم نارية لا تُبقي ولا تذر، قال: يا ولدي (ربيع) أنصحك ألا تكتب شيئًا وأنت غاضب؛ لكي تكون حجتك داحضةً، وأسلوبك بعيدًا عن التشنجات، ليس من أجل سواد عيون من ترُد عليهم، ولكن من أجل القرَّاء الذين ترتاح نفوسهم للكلام اللين، والحُجة القوية المبنية على كتاب الله وسنة رسوله، ولا تنسَ ما قاله المصطفى: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه))، أو كلام هذا معناه، فوالله ما نفعني الله بشيء في عالم الكتابة كما نفعني بهذه الوصية الذهبية، فقد أصبحت أقرأ كثيرًا من الهراء خلال مطالعتي، وعندما أريد الرد على أحدهم أنتظرني حتى أكون في كامل وعيي وهدوئي واتزاني؛ لكي لا يَحُول الغضب بيني وبين إنصاف غريمي.

نضج
• سبحان مبدل الأحوال ومقلب القلوب! قبل عشر سنوات كنت أتعصب لبعض المسائل العلمية ولا أتنازل عنها ولو بجدع الأنف، بل كنت أعتقد اعتقادًا جازمًا أنه الحق المبين الذي لا يجوز لي أن أحيد عنه قِيد أنملة! بل كان يذهب بي الغلو في كثير من المرات أن أفارق وأهجر بعض الرفاق والأصدقاء الذين كانوا يقولون بخلاف ما أعتقد! وهأنذا اليوم صرت لا أقيم لتلك المسائل وزنًا أو أدنى اهتمام كما كنت في ذلك الزمان، وكم أَسْخَر من نفسي الآن وأنا أتذكر تلك الأيام – لا سقاها الله – التي يمكن أن أسميها: أيام المراهقة العلمية.

ورحم الله أبا حنيفة النعمان حين قال لتلميذه أبي يوسف بعدما رآه حريصًا على كتابة كل ما يقول: “ويحك يا أبا يوسف، لا تكتب كل ما أقول، فقد أقول القول اليوم وأرجع عنه غدًا”.

طفولتي
• كلما قمت بجولتي المسائية، أُعرِّج على الحي الذي قضيت فيه شطرًا من طفولتي الناعمة، لأَشَمَّ عطر تلك الأيام الخوالي التي عانقت نزقي وإزعاجي، محاولاً تذكُّر أصدقائي الصغار الأشاوس الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهدؤون، وبالنهار هم يتحلقون حول كرة مهترئة يشتركون في شرائها كل شهر! أتسلق جدران البيوت الحزينة بعينيَّ الحائرتين، متمنيًا لو أستطيع زيارة البيت الذي كانت تحتضنني جدرانه البالية مع إخوتي الأربعة!

همة
• ذات صباح استيقظت على صوت بائع متجول، يذرع أرض الأزقة والدروب جيئة وذَهابًا، لا يكل ولا يمل، يدفع عربته المتآكلة ببطء، يطلق لحنجرته حرية الإعلان عن بضاعته المتميزة التي لا تشبهها بضاعة! دفعني الفضول لأطل عليه من نافذة غرفتي التي ترزح تحت برد صباحي عنيف، رأيت كهلاً أشيب الرأس، وجهه الأبيض يصرخ بالنشاط والحيوية، وابتسامة العزيمة والهمة العالية لا تفارق مُحيَّاه، يمتشق محفظةً متوسطة الحجم يجمع فيها أرزاق أولاده، ونساء متحلقات حول عربته تبدو على وجوههن آثار النعمة، يثرثرن معه حول بضاعته، أقفلت النافذة وقلبي مفعم بالرضا عن هذا الرجل الذي بدا لي أنموذجًا بارزًا للصمود أمام رياح الفقر المتعجرفة.

كـارثة
• قبل سنوات قال لي أحدهم وهو يجادلني: إن ابن تيمية كان وهابيًّا، من الفرقة الوهابية! فقلت له: طيب، في أي سنة مات ابن تيمية؟ فحملق فيَّ بِحَيْرة وكأنني سألته عن شيء نكرٍ، ثم قال: لا أعرف.

قلت: طيب، والشيخ محمد بن عبدالوهاب في أي قرن عاش؟ قال بغضب: لا أعرف ولا يهمني أن أعرف، قلت له: هدئ من روعك يا أخي، فأنت تحكم على نفسك بالجهل من حيث لا تشعر، قال: ماذا تقصد؟ قلت له: أنت تتكلم في أشياء بينك وبينها من البعد كما بين السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، بل سامحني إن صارحتك أن قولك هذا يدل على أنك ببغاء تردد كلام غيرك دون أن تميز جيده من رديئه، فشيخ الإسلام ابن تيمية عاش في القرن السابع وتوفي سنة 728 هـ، بينما الشيخ محمد بن عبدالوهاب قد عاش بعده في أواخر القرن الثاني عشر، وتوفي سنة 1206 هـ، بمعنى أن ابن تيمية سبقه بخمسة قرون تقريبًا، فما معنى قولك: ابن تيمية كان وهابيًّا؟! فبُهت صاحبنا ولم يحر جوابًا، وكأن سلكًا كهربائيًّا مسه فأرداه قتيلاً!

حوار
• قال لي صاحبي وهو يحاورني ويمازحني: كفاك من السهر، فقد صرت تبالغ في ذلك، واعتزل هذه الكتب والمؤلفات التي تقبع تحت رحمتها صباح مساء، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم، وكُلْ جيدًا، فقد أصبحت نحيف الجسم، يابس البنية، لسان حالك:

كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ لولا مخاطبتي إياك لم تَرَني

فقلت له: أنا لا يهمني إلا الفكر الذي أحمله، والمضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، واللسان الذي يمكِّنني من ترجمة ما في الفؤاد، والحمد لله الذي شرفنا بالأصغرين: القلب واللسان، وفضَّلنا على سائر الحيوان بنعمتي العقل والبيان.

يا خادمَ الجسم كم تشقى بخدمته أتَطْلُبُ الربح مما فيه خسرانُ؟ أقبِلْ على النفس واستكملْ فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ

أنا لا يهمني يا صاحِ أن أتفقأ شحمًا، وأتزود لحمًا، بل أن يرزقني الله علمًا وأدبًا وفهمًا، وتقول العرب: أقلل طعامًا تحمد منامًا، وكانت تعيِّر بعضها بكثرة الأكل، قال شاعرهم:

لست بأكَّال كأكل العبد ولا بنوَّام كنوم الفهد

وقال الآخر:

وإنك إن أعطيت بطنك همَّه وفرجَك نالاَ منتهى الذمِّ أجمعَا

فما كان من صاحبي إلا أن استل ابتسامةً طفولية جميلة قائلاً: والله لقد أوتيت جدلاً!

لا أعلم!
• لا أعلم متى وكيف ولمَ!

فقط أعلم أن قلبي دق بعنف، في تلك الساعة الخارجة عن سيطرة إحساسي بالزمان والمكان، وهي تنظر إليَّ ببراءة الأطفال، وعفوية الرسوم المتحركة، يملؤها الخجل، وتداعب وجنتَيْها أشعة الشمس الربيعية، إذ كنا نتبادل النظرات تحت قبة السماء الصافية، هذه النظرات الشرعية التي ستكون فيما بعد سببًا في العيش تحت سقف واحد، وتكون ثمارها ثلاث ثمار يانعة: عبدالرحمن، هند، أسامة.

هند
• ابنتي هند تدمن النظر في كتبها، وتحب الكتابة والرسم، وتروم مجالستي دومًا في غرفة المكتبة، تلوذ بصمت عجيب كصمت الحكماء، سواء معي أو مع غيري من أهل الدار، أراها تُحسِن فن الإصغاء وهي في هذه السن (ست سنوات)، وأقرأ في عينيها ذكاءً حادًّا لا أجده عند أخيها عبدالرحمن الذي يكبرها بأربع سنوات، ولا عند أحد من أبناء وبنات العائلة، أسألها بين الفينة والأخرى: ماذا ستكونين في مستقبل الأيام يا هند؟ فتقول لي بعدما تطرق حياءً: طبيبة! فأعلق عليها مداعبًا:

قل للطبيب تخطفتْه يد الردى مَن يا طبيبُ بطِبِّه أرداكا

فلا تجد جوابًا إلا ابتسامة رائعة تنطلق من وجهها، الذي يوزِّع الفرح والسرور على أعماقي وقلبي الذي يحبها حبًّا لو قُسِّمَ على أهل الأرض لَوَسِعَهم، ولوضع حدًّا ونهاية لهذه الحروب البشرية الوحشية التي تكتسح العالم!

يتبع إن شاء الله.