الدعوة إلى الله
المفهوم والفضائل
الحمد لله.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله تعالى حقَّ تَقواه، فمَن اتقى الله حماه ووقاه، وبلَّغه من الخير مأمولَه ومُناه.
أيها المؤمنون:
لئن تسابَق الناس إلى حُطام الدنيا الزائل، وتفاخَر العديد منهم بما يحوزه من المتاع القليل، ولئن شَمَخَتْ أنوف على عباد الله، مُتعالية بأموالها ومناصبها، مُغترَّة بحسَبها ونسَبها – فإنَّ لعباد الله المتقين وظائفَ لا يُعلى عليها، ومِنَحًا لا يُوصَل إليها بالادِّعاء ولا بالأَمانيِّ، إنها وظائف شريفة، قد شَرُفت بشرف موضوعها، وازْدانَت بما فيها من الخير والنفع للناس.
إنها وظيفة عَمِل بها أشرف الخلْق وأكملهم نبيُّنا محمد، والْتَحَق بركابها مَن سبَقه من الأنبياء والرُّسل، ألَم يقل ربُّنا – تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45 – 46].
﴿ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ [الرعد: 36].
بل أُمِر بها نبيُّنا؛ ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125].
ألَم يُبيِّن ربُّنا الوظيفة الكُبرى لأنبيائه ورُسله حين قال: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
وقال – سبحانه -: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
إنها وظيفة شَرُفتْ بها هذه الأمة المحمديَّة؛ ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
والقيام بها تحقيق لأمر الله تعالى القائل: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
فما دامَت هذه وظيفة الأنبياء والرُّسل، أفلا تستحقُّ أن يقول الله تعالى عنها مُبيِّنًا عظيمَ قدرها وشرَف القائم بها: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].
وفي الدعوة إلى الله تعالى رحمة بالأُمة ونشرٌ للفضائل والمكارم، وفيها من الأجور ما الله تعالى به عليم، فمن أحبَّ أن يشاركَ الناس في أعمالهم الصالحة، ويكونَ له مثل أجورهم، فعليه بالدعوة إلى الله تعالى؛ فعن أبي مسعود: ((مَن دلَّ على خير فله مثل أجْر فاعله))؛ أخرَجه مسلم.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور مَن تَبِعه، لا يَنقص ذلك من أجورهم شيئًا))؛ مسلم.
وحين يُقسم نبيُّنا بربِّه على أمرٍ، فهو علامة على أهميَّته، ولفْتٌ للأنظار إليه؛ يقول – صلى الله عليه وسلم – لعليِّ بن أبي طالب – حين بعثه داعيًا ومقاتلاً لليهود في سبيل الله تعالى -: ((انفُذ على رِسْلك حتى تنزلَ بساحتهم، ثم ادْعُهم إلى الإسلام، وأخبِرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى، فوالله لأن يهديَ الله بك رجلاً واحدًا، خيرٌ لك من حُمر النَّعم))؛ متفق عليه.
فانظروا – رحمكم الله – مقدار الأجر الذي يحوزه مَن هدى الله تعالى على يديه أحدًا من الناس، والمؤمن يحب لعباد الله الخير والرَّشاد انطلاقًا من قوله: ((لا يؤمن أحدُكم؛ حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه))؛ متفق عليه.
وتعالوا بنا – يا عباد الله – نتلمَّس مفهوم الدعوة إلى الله تعالى؛ إذ البعض من الناس يقصر مفهوم الدعوة إلى الله على المواعظ والخُطَب التي تُلقى على مسامع الناس بين الفترة والأخرى، ويظن هؤلاء أنَّ من شرط الدعوة إلى الله أن يكون الداعية غزيرَ العلم، طليقَ اللسان، فصيحًا مؤثِّرًا، وأنَّ من لَم يكن بهذه المواصفات، فليس خليقًا بوظيفة الدعوة إلى الله تعالى، وقسم آخر يربط الدعوة إلى الله تعالى بموظَّفين معيَّنين أُوكِل إليهم القيام بهذه المهمَّة، والباقون لا مجال لهم في هذا العمل الخَيِّر، وهذه مفاهيم خاطئة؛ لو قصَرنا الدعوة إلى الله تعالى عليها لفات الكثيرَ منَّا خيرٌ كثير، وشرفٌ أكيد، وأجْر جزيل، أمَّا الدعوة في لغة العرب، فتُطلق على معانٍ منها النداء، والدعاء إلى شيء: حثٌّ على قصْده، ومن معانيها: المحاولة القوليَّة أو الفعليَّة لإمالة الناس إلى مذهبٍ أو مِلَّة، أو إقناعهم بفكرة أو مبدأ، وسُمِّي الداعي إلى الخير داعيًا إلى الله تعالى للاختصاص؛ قال الإمام ابن القيِّم – رحمه الله تعالى -: “الدعاة جمع داعٍ، وإضافتهم إلى الله للاختصاص؛ أي: الدعاة المخصوصون به، الذين يدعون إلى دينه وعبادته، ومعرفته ومحبَّته، وهؤلاء هم خواصُّ خَلْق الله، وأفضلهم عند الله منزلةً، وأعلاهم قدرًا”.
نخلُص من هذا – يا عباد الله – أنَّ الداعية إلى الله تعالى هو مَن يحاول هداية الناس، ودعوتهم إلى الإسلام، وتطبيق تعاليمه، ويبذل جهدَه في دَلالتهم إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وذلك بالقول والفعل، وبكلِّ ما يؤدي إلى هذا الغرض المنشود.
وكلُّ واحد منا مؤهَّل لأن يزاولَ الدعوة إلى الله تعالى، وكلٌّ بحسب ما أعطاه الله تعالى من العلم والقدرة؛ استمعوا إلى قول نبيِّكم – صلى الله عليه وسلم -: ((بلِّغوا عني ولو آية))؛ أخرجه البخاري، ولو آية واحدة يا عباد الله، ومَن منَّا يعجِز عن تبليغ آية من كتاب الله؟!
وقد ذكَر أهل العلم أنَّ الدعوة إلى الله تعالى فرْضُ كفاية، إن قام به مَن يكفي، وإلاَّ أثِمَ الجميع؛ وذلك للنصوص الصريحة في ذلك، من مثل: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 104].
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125].
وما عساه أن يقال في هذا الزمان الذي أحاط بالأُمة فيه من أنواع الفتن والشُّبهات والشهوات، ما لا يعلمه إلاَّ الله تعالى، في ظلِّ غفلة الكثير ممن أعطاهم الله تعالى القدرة على القيام بوظيفة الدعوة إلى الله تعالى؛ بالعلم أو بالمال، أو بالجهد والوقت؛ ذكر الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – أنَّ الدعوة إلى الله تعالى في هذا الزمان فرْضُ عينٍ؛ أي: يجب على كلِّ مسلم أن يقومَ بواجب الدعوة إلى الله تعالى بحسب قُدرته، فيا تُرى: هل نعزم على القيام بهذا الواجب، أم نتقاعس عنه وكأن المخاطَب غيرنا؟ وهل نَزهد في هذا الأجر المترتِّب على السعي في هداية الناس وإرشادهم؟
والحمد لله ربِّ العالمين.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/60036/#ixzz618PQycrb