(أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص)
ا.د/ عبد الحليم عويس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
(أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص)
هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي ، يكنى أبا عبد الله ، أسلم قبل فتح مكة بستة أشهر ( ) أي في السنة السابعة للهجرة.
لم يكن عمرو بن العاص من السابقين إلى الإسلام ، لكنه كان من الذين اختارهم الله لتوبته، فأصبح مسلماً وقائداً مجاهداً ..
ومن عجب أن إسلامه بدأ على يد النجاشي حاكم الحبشة الذي يعرف عَمرْاً ، وأخبره أنه – أي محمداً – رسول الله حقاً ، فسأله عمرو : “أو كذلك؟” فردَّ النجاشي: “نعم فأطعني يا عمرو واتبعه ؛ فإنه والله لعلى الحق ، وليظهرنّ على مَنْ خالفه” …
وقبيل فتح مكة ذهب عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ليعلنا إسلامهما ، فلم يكد الرسول يراهما حتى قال لأصحابه : “لقد رمتكم مكة بفلذات أكبادها” .
وتقدم خالد فبايع ، ثم قال عمرو : “إني أبايع على أن يغفر الله لي ما تقدم من ذنبي” ، فأجبه الرسول : ” يا عمرو بايع فإن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله” .
ويحمل أهل مصر كل الإعزاز لمحرر مصر (عمرو بن العاص) ، وكان عمرو حريصاً على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة مع الرومان ليظل القتال محصوراً بينه وبين جنود الرومان المحتلين ، فيقول للزعماء النصارى وكبار أساقفتهم “إن الله بعث محمداً بالحق ، وأمره به ، وإنه قد أدى رسالته ، ومضى بعد أن تركنا على الواضحة – أي الطريق الواضح المستقيم – وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس ، فنحن ندعوكم إلى الإسلام ، فمن أجابنا فهو منَّا ، له ما لنا وعليه ما علينا ، ومَنْ لم يجبنا إلى الإسلام عرضنا عليه الجزية وبذلنا له الحماية والمنفعة .
ولقد أخبرنا نبينا أن مصر ستفتح علينا وأوصانا بأهلها خيراً فقال : “ستفتح عليكم مصر بعدي ، فاستوصوا بقبطها خيراً ؛ فإن لهم ذمة ورحماً” ( ) ، ولما فرغ عمرو من كلماته صاح الأساقفة والرهبان : “إنَّ الرحم التي أوصاكم بها نبيكم لهي بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء” .
كان كل من تعامل مع عمرو بن العاص يقدر مواهبه …. وحتى الخليفة عمر كان يقدر هذه المواهب ؛ فعندما قيل لعمر إن على رأس جيوش الروم أرطبون أي قائداً أو أميراً من الشجعان، فكان جواب عمر :
“لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فلننظر عمَّ ستخرج الأمور”(تاريخ الطبري4/57).
فانفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب عمرو بن العاص.
ونحن نستطيع أن نقول (إذا كنا منصفين) إن هناك عصراً في تاريخ مصر الإسلامية يصح لنا أن نقول عنه إنه عصر عمرو بن العاص ، فهذه الشخصية كانت مزيجاً من العظمة ، فهو عدد من الرجال في رجل واحد ، وهو مجموعة من المواهب المتكاملة تصلح كل واحدة منها مستقلة ؛ لكي يتسم بها عظيم من العظماء ، وقد يختلف المؤرخون في تحليل شخصيته؛ لكنهم لا يختلفون عن أن عمرو بن العاص رجل حر الفكر ينبع قراره من اقتناعه ، هكذا كان شأنه قبل الإسلام وحين أسلم وبعد الإسلام أيضاً ، وهو رجل يقبل أن يكون محكوماً ، لكنَّ في شخصيته شيئاً يطاول به الحاكمين ، فتبقى له المكانة المهيبة ، ويبقى له الرأي الذي يساعده دهاؤه على تنفيذه مهما كان موقعه …
هكذا كان موقع عمرو بن العاص من عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) ، ثم كان هذا موقع ابن العاص من معاوية بي أبي سفيان (رضي الله عن الجميع).
ـ وفي العهدين كان ابن العاص والياً لهذا وذاك، لكن كلا الرجلين كانا يعرفان لعمرو مكانته… وأنه والٍ من طرازٍ خاص.
ـ ونحن نستطيع أن نقول : إن عمرو بن العاص بن وائل بن هشام … بن غالب القرشي هو فاتح مصر ، وأن نسبته في الفتح مع تقديرنا الكبير لشخصية عمر بن الخطاب هي أكبر نسبة حظى بها قائد في عصر الفتوحات.
ولم يكن عمرو بالرجل الذي يستسلم في هذا الموقع الخطير الذي يُطل على عدد من البحار، كما أنه بوابة إفريقيا ، ولهذا أخذ زمام المبادرة فأتم فتح السواحل المصرية كلها خلال عام واحد ، وهو عام (22هـ / 642م) ، ثم تقدم لفتح إقليم برقة الذي يلي مصر غرباً ويخضع للدولة الرومانية ، وبالتالي قد يعود الروم منه إلى استرداد مصر ، وقد فتح عمرو برقة بسهولة، وصار إلى مدينة طرابلس في السنة نفسها ، وكانت بها حامية كبيرة من الروم فضرب عليها العرب الحصار حتى أوشك جيش الروم أن يهلك من الحصار والجوع ، وتمكن عمرو بجنوده من دخول طرابلس الغرب ، ثم فتح مدينة سبرة (زرارة) حالياً، واستخلف على تلك النواحي عقبة بن نافع وعاد إلى مصر ليكمل مسيرته في تعْريب البلاد ، وتحضيرها، وتأمينها من حدودها الأخرى.
ـ وكل هذه الفتوحات كانت لتأمين مصر … وللوقوف ضد أطماع الدولة الرومانية.
ـ كان عمرو بن العاص حاد الذكاء قوى البديهة عميق الرؤية ، بالغ الجرأة مقداماً، وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة ، أدركت الوفاةُ عمرو بن العاص بمصر( ) ؛ حيث كان والياً عليها ، وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال ( ) “كنت أول أمري كافراً ، وكنت أشد الناس على رسول الله ، فلو مت يومئذ لوجبت لي النار ، ثم بايعت رسول الله ، فما كان في الناس أحد أحب إليَّ منه ولا أجل في عيني منه إجلالاً ، فلو مت يومئذ لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة، ثم بليت بعد ذلك بالسلطان ، وبأشياء لا أدري أهي لي أم عليّ ( ) ، ثم رفع بصره إلى السماء في ضراعة مناجياً ربه الرحيم العظيم قائلاً : “اللهم لا برىء فأعتذر ، ولا عزيز فأنتصر ، وإلا تدركني رحمتك أكن من الهالكين” ( ) .
وظلَّ في ضراعته وابتهالاته حتى صعدت روحه ، وكانت آخر كلماته : “لا إله إلا الله محمد رسول الله” ( ) .
وتحت ثرى مصر التي عرَّفها عمرو طريق الإسلام ثَوى رفاته وأرضاه ، وجزاه عن مصر والمصرين خير الجزاء.