الانتهازية المادية التطورية

 كان هتلر تطوريًا فجًا؛ فقد كتب آلان بولوك  Bullock – وهو أشهر مؤرخي الحقبة النازية -كتب يقول: ” كان هتلر ماديًا قاسيًا وكان يرى أن المسيحية تقف في وجه قوانين الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.”

Bullock wrote that Hitler was a rationalist and materialist, who saw Christianity as a religion “fit for slaves”, and against the natural law of selection and survival of the fittest.

Alan Bullock; Hitler, a Study in Tyranny; HarperPerennial Edition 1991; p219

 

حارب هتلر من أجل الانتخاب الطبيعي، وحـاول أن يجعل منه أيديولوجيـة ألمـانيا في القرون العشرة القادمة – الرايخ الثالث -، ومن أجل هذا المبدأ قام هتلر بتأسيس فرقة إبادة الأقليات Einsatzgruppen، حيث تتم إبادة الأقليات عديمة الجدوى في ألمانيا، وكان يتم تجريد الضحايا من أية أدوات نافعة مثل حشوات الأسنان الذهبية ، ثم يقوم الضحايا بحفر القبور بأيديهم ثم يُقتلون وهم واقفون في وسط القبر بمنتهى الترشيـد والعقلانيـة المادية العلمانية .

 

وفي 14 يوليو 1933 أصدر هتلر قراراً بتعقيم 400 ألف شاب عن طريق تمريرهم على ترددات عالية من أشعة إكس، حتى يفقدوا القُدرة على الإنجـاب، فهؤلاء الشباب كانوا مصابين بأمراض نفسية، وعُصابية كثيرة ربمـا تضر الأجنة .

 

وهنا يظن كثيرٌ من العرب أن مشكلة هتلر كانت مع اليهود، وهذا خطـأ جوهري في استيعاب رؤيته للإنسـان والإنسانية .. كان هتلر يرى أن الألمان هم أرقى الأجناس، وأن اليهود أحد الأقليات التي تؤثِر على نقاء العِرق الألماني النقي –رؤية داروينية-، لكنهم ليسوا الوحيدين في الصورة فهناك الكثير من الأعراق التي اختلطت بالألمان، ولذا لم يقم هتلر بإبادة اليهود فقط، وإنما أباد السلافيين والغجر والأقزام والمعاقين وأصحاب الأمراض النفسية وأصحاب الأمراض المزمنة، وعدم شهرة هذه الأقليات بسبب عدم وجود لوبي غربي يطالب بحقوقهم بعكس الحال مع اليهود!

 

وبذلك أصبح هتلر من أوائل الذين يقومون بتطبيق الانتخاب الطبيعي عمليـاً، ومن أوائل الشخصيـات التي استوعبت الداروينية بصورتهـا الحقيقية .

http://en.wikipedia.org/wiki/Untermensch

 

ولذا يمكن اعتبار معسكرات الاعتقال النازية، حيث يتم إحراق كل الأقليات والأثنيات، هي أول مراكز الانتخاب الطبيعي التي يؤسِس لها الإنسان المعاصر الهوموسابين homo-sapiens، حيث يُحرق في هذه المراكز عديمي النفع على حد تعبير هتلر حين قام باحتلال بولندا، وبالفعل تم رسميًا قتل 5.3 مليون بولندي لهذا السبب.

 

كان هتلر بنموذجه النازي الصورة المثالية للمادية العلمانية التي دعت لها نظرية الانتخاب الطبيعي .

وقام هتلر بتقرير مشروع T4، وهو المختص بعمليات القتل الرحيم Euthenesia، أو القتل العقلاني حيث يتم التخلص من المعاقين، وأصحاب الأمراض النفسية، وأصحاب الأمراض المزمنة، عن طريق القتل المباشر.

 

وقام الدكتور [بوخنوالد] bboukhnouald، بعمل تجارب طبية على المعتقلين، مثل تعريضهم لغُرف تفريغ الهواء، لمعرفة كم يستطيع الانسان أن يمكث حتى يموت، وتعريضهم لغازات سامة لمعرفة مدى فاعليتها والتركيزات المطلوبة، والقيام بعمليات جراحية بدون تخدير لمعرفة درجات الألم ومسارات الأعصاب، وقد وفرَّت الفترة النازية كمية عملاقة من المعلومات الطبية في كافة المجالات .

 

وكان الدكتور [راشر] يُعرِّض مرضاه للتجميد لمعرفة الفترة التي بعدها يموت الانسان، ودرجة التجمد الكافية للموت، وكان أُسلوب العمل هو تجميد السجناء تدريجيًا مع متابعة النبض والتنفس والحرارة وضغط الدم، بانتظام وقد مات أغلب من تمت التجارب عليهم، والباقون أُصيبوا بلوثات عقلية وتمت إبادتهم بعد ذلك .

وكما قال [بريمو ليفي] Primo Levi، فإن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد، الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جُثتي توأمين قُتلا في نفس اللحظة .

http://en.wikipedia.org/wiki/Primo_Levi

 

كما ُأجريت في ألمانيا النازية تجارب زرع الغرغرينة في الجروح، والحقن بالميكروبات، لمعرفة الأسرع فتكا .

http://en.wikipedia.org/wiki/Nazi_crimes_against_the_Polish_nation

 

لقد كان أدولف هتلر ماديـاً، يؤمن بمقررات الداروينية، والانتخـاب الطبيعي، والبقاء للأصلح، وقامت الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها 50 مليون نسمة، من أجل تطبيق هذه الفكرة .

 

ومن هتلر إلى ماو تسي تونج Mao Zedong قائد الصين خلال الفترة من عام 1949 حتى وفاته عام 1976 لم تختلف الصورة كثيرًا إلا في عدد المذابح ومبرراتها المادية!

وقد قتل ماو تسي تونج ما بين عامي 1949- 1975 حوالي 26 مليون مسلم صيني – الأتراك الأيغور-، وفي عام 1964 نشر ماو تهديداته قائلاً : ” جميع الحيوانات السُفلية سوف تُعدم .”

وبهذا كان ماو يُخرج معارضيه مِن الإنسانية وكان يعتبر كُل من وقف ضد الثورة خطًأ تطوريًا .

يقول James Revee Rusey  : ” بالنسبة لمـاو فإن أعداء الشعب ليسوا بشرًا وليس لهم أدنى حق بالمعاملة الإنسانية.”

China and Charles Darwin, James Revee Rusey, p.456

 

وماو تسي تونج يصنفه النقاد على أنه أكبر مجرم في تاريخ الجنس البشري على الإطلاق، فقد قتل من 40-70 مليون نسمة بسبب سياسات التجويع والعمل القسري والإعدامات والإبادة الشمولية وقتل الأثنيات والعرقيات المختلفة، وما كان ماو تسي تونج ليتيح لنفسه فعل ذلك دون رؤية تطورية مادية للوجود من حوله!

http://www.hawaii.edu/powerkills/NOTE2.HTM

Modern China: The Fall and Rise of a Great Power, 1850 to the Present. Ecco Press. p. 351.

 

وقد أعلن ماو تسي تونج في 16 مايو من عام 1966 مشروع الثورة الثقافية الكبرى Great Proletarian Cultural Revolution .

وفكرة الثورة الثقافية الكبرى ليست نشر الثقافة كما يوحي العنوان وإنما العكس من ذلك تمامًا فالفكرة هي قتل المثقفين فعليًا ، فالمفترض أن تبقى البلاد في ثورة دائمة  وصراع مستمر –وهذه هي النظرة الداروينية لوجود الكائنات الحية على الأرض- فأراد ماو تسي تونج تطبيق ذلك عمليًا.

Feigon, Lee (2002). Mao: A Reinterpretation. Chicago: Ivan R. Dee.

 

وقد رأى كبار أعمدة الحكومة الصينية في ذلك الوقت ليو شاي تشي Liu Shaoqi ودينج زياو بينج Deng Xiaoping أن ما يفعله ماو بالشعب يوجب عزله فورًا وإعطاؤه أي منصب صوري لأنه سيُدخل البلاد على حافة الهلاك، بسبب قراراته.

Gao, Mobo (2008). The Battle for China’s Past: Mao and the Cultural Revolution. London: Pluto Press.

 

لكن قرارات ماو كانت أسرع من تدابير ليو ودينج، فقد أطلق ماوتسي تونج أوامره لتلاميذ المدارس وطلبة الجامعات أن يقيموا محاكم خاصة لأساتذة الجامعات والمدرسين، فسادت الفوضى في البلاد، وعم الخراب وأُقيمت المحاكم في الشوارع واضطهد الملايين بما فيهم الفيلسوف العظيم وتشن يون Chen Yuen وأُغلقت المدارس وطُلب من المثقفين أن يذهبوا إلى الريف حتى يقوم الفلاحين بتعليمهم!

 

أدت الثورة الثقافية إلى فوضى اجتماعية واقتصادية عارمة ودُمرت حياة الملايين، ودخلت الثورة الثقافية في كل شيء في المجتمع الصيني وأصبح الصراع على أشده داخل الأسرة الواحدة، وتصارع الإبن مع أبيه والتلميذ قتل أستاذه والمثقفين أُحيلوا إلى الريف لإعادة تأهيلهم على يد الفلاحين الأميين وقدرت الإحصاءات أن قتلى هذه المرحلة كانوا بالملايين.

http://necrometrics.com/20c5m.htm#Mao

 

وقد كان ماو تسي تونج يفخر دومًا أنه قاتل العلماء، وقد قال يومًا ما في اجتماع لكوادر الحزب عام 1958: “لقد تفوقنا على تشين شي هوانغ Qin Shi Huang –امبراطوار صيني قديم اشتهر بدفن العلماء أحياء- في محاربته للعلماء والمثقفين، لقد دفن تشين شي هوانغ 460 عالم وهم أحياء، أما انا فقد دفنت 4600 عالم وهم أحياء، إنكم أيها المثقفون تنسبوني باستمرار إلى تشين شي هوانغ، إنكم مخطئون! لقد تفوقت على تشين شي هوانغ بمائة ضعف.”

During a speech to party cadre in 1958, Mao said he had far outdone Qin Shi Huang in his policy against intellectuals: “He buried 460 scholars alive; we have buried forty-six thousand scholars alive … You [intellectuals] revile us for being Qin Shi Huangs. You are wrong. We have surpassed Qin Shi Huang a hundredfold.

 

Mao Zedong sixiang wan sui! (1969), p. 195. Referenced in Governing China: From Revolution to Reform (Second Edition) by Kenneth Lieberthal. W.W. Norton & Co., 2003. p. 71.

 

إن هذا النمط من الصراع التطوري الذي لا يرحم يستحيل تطبيقه على الإنسان فالإنسان له شخصيته المستقلة، وهو لا يسير في هذا العالم كابن للطبيعة بل كمغترب عنها، فالإنسان ضد القولبـة والتشكيل والتسوية العـامة التي يفرضها نمط الرؤية الإلحادية للإنسان.

فالإنسان سيظل يبحث عن الحُريـة والشخصية المستقلة والفرديـة ولو على حسـاب المُتع واللذات ؛لأنه وساعتها فقط سيشعر أنه إنسان، فالحريـة الشخصيـة والمسئولية الفردية هما أهم سمات الإنسان، وهما مناط تكليف الإنسان على الأرض .. ، فإما أن يكون الإنسان إنساناً حُـرًا مؤاخذًا أو لا إنسان مسير تحكمه حتميات مادية فجة بلا معيارية ولا معنى!

 

وربما لولا إصلاحات ليو شاي تشي Liu Shaoqi ودينج زياو بينج Deng Xiaoping لما وصلت الصين إلى ما وصلت إليه الآن، ولأصبحت حقبة ماو تسي تونج نهاية فعلية للصين، ومن عجيب ما يُذكر أن هذا الأخير دينج زياو بينج Deng Xiaoping كان يحاول إصلاح ما يفسده ماو أولاً باول قدر الإمكان، وكان يرفض الرؤية الحتمية التطورية الدوغمائية التي يتبناها ماو، وقال كلمته الشهيرة عام 1961: “لا يهم أن تكون القطة بيضاء أو سوداء المهم أن تصطاد الفأر.”

“it doesn’t matter whether a cat is black or white, if it catches mice it is a good cat”

فليس مُهمًا دوغما تطورية صارمة المهم تحقيق التقدم!

وكانت هذه العبارة صادمة لماو تسي تونج فقد جُن جنونه وطرد دينج زياو بينج ونفاه وتعقبه في كل مكان!

إلا أن دينج زياو بينج عاد للصين بعد وفاة ماو تسي تونج وقاد البلاد من عام 1978 إلى عام 1992 وأحدث نهضة الصين الكبرى وتجاوز جنون ماو التطوري الإقصائي وتعاطى مع الجميع وأصلح ما أفسده ماو!

 

هذه كانت نبذة يسيرة ولمحات قصيرة عن أيام مع الملحدين التطوريين حين أصبحت في أيديهم القوة والسلطة فأفسدوا في الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، لأنهم لم يكونوا يرون للإنسان قيمة ولا لحياته غاية، وهكذا كل بعيد عن الله وعن معنى الوجود يفقد الإتجاه ويريد لو دمر كل شيء لمصلحته هو فقط {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} ﴿٢٠٥﴾ سورة البقرة.

فالذين نسوا الله أنساهم أنفسهم { نسوا الله فأنساهم أنفسهم } ﴿١٩﴾ سورة الحشر.