قوله تعالى: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} ودفع شبهة اتخاذ القبور مساجد

الحقُّ أَبلَج والباطل لَجلَج؛ ودلائل الحقِّ في الآفاق لائحة، وفي الأذهان سانحة، أمَّا الباطل فلا دليلَ له، بل هو شبهاتٌ وخيالات؛ فما مِن دليل يُستدلّ به على باطل إلا ويتصدَّى أهل العلم لبيان وجه الصوابِ فيه، وكيفية إعماله على وجهه الصحيح.

وبالمثال يتَّضح المقال؛ فقد ثبتَ نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم البيِّن الواضح الصريح عن اتِّخاذ المساجد على القبور في جملة من الأحاديث الصحيحة؛ ومنها ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجدَ»، قالت: فلولا ذاك أُبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا([1]). ومعنى قولها رضي الله عنها: (أبرز قبره) أي: لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُتَّخذ عليه الحائل، والمراد: الدفن خارج بيته([2]).

وفيه التصريح بعلة النهي عن اتخاذ القبور مساجد؛ وهي سدُّ ذرائع الشرك؛ يقول العلماء: “إنما نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدَّى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية”([3])، وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحلٌ من ذلك المرض، فخاف أن يُعظَّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى؛ إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم([4]).

ومع وضوح هذا المعنى وضوحَ الشمس في رابعة النهار، فقد استدل بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] كثيرٌ من الروافض والبريلوية والكوثرية والديوبندية وغيرهم على جواز بناء المساجد والقبَب على قبور الأولياء والتبرك بآثارهم بالصلاة في تلك المساجد([5])، وفي وقتنا المعاصر استدل بها بعضهم على استحباب الصلاة في المساجد التي يوجد بها أضرحة الأولياءِ والصالحين([6])، وفيما يلي مناقشة استدلالهم بالآية الكريمة.

كيف فهم السلف الآية الكريمة؟

قال تعالى: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} والمعنى: تنازع المعاصرون لأصحاب الكهف في شأنهم؛ فبعضهم يقول: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} أي: سُدُّوا عليهم باب الكهف؛ لئلا يخرجوا منه، أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم، وقال الغالبون على أمرهم: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} أي: مَعبدًا يكون مباركًا لمجاورته هؤلاء الصالحين، وهذا كان شائعًا فيمن كان قبلنا([7])، ولهذا يقول سعيد بن جبير: بنى عليهم الملك بيعة([8]).

ولكي يتضح الأمر على وجهه الصحيح لا بد من الإجابة على سؤالين يتبادران إلى الذهن:

الأول: مَن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم؟!

والثاني: هل فعلهم هذا ممدوح أو مذموم؟!

الجواب على السؤال الأول:

لم يُبيِّن الله تعالى لنا هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم، وهل هم كفار أو مسلمون؟ وقد حكى ابن جرير الطبري القولين في الآية([9])، والظاهر من سياق الآية الكريمة دال على أن الذين غلبوا على أمرهم هم أصحاب النفوذ والغلبة؛ ويؤيِّده قول قتادة بن دعامة: “إنهم الولاة”([10])، وكذا قال ابن قتيبة: “يعني: المطاعين والرؤساء”([11])، يقول الحافظ ابن كثير: “الظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ”([12]).

والجواب على السؤال الثاني:

رجَّح القرطبي والقاسمي والأمين الشنقيطي([13]) وغيرهم: أن هؤلاء الذين اتخذوا عليهم مسجدًا مذمومون على ذلك، يقول القرطبي في تفسير الآية: “وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة، فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز”([14])، ويقول الشيخ رشيد رضا: “ويظهر لي أن الذين غلبوا على أمرهم هم أهل الشرك؛ لأن أهل التوحيد لا يتخذون المساجد عند قبور الأنبياء والصالحين؛ لأن الله حرم ذلك، ولعن فاعله على لسان نبيه”([15]).

ويؤكد ذلك: بيان السنة النبوية:

الأصل أنه لا تعارض البتة بين القرآن والسنة؛ فكلاهما وحي من عند الله تعالى؛ لذلك فإن العلماء فهموا من الآية الكريمة: أن اتخاذ القبور مساجد هو من فعل أهل الغلبة والقهر واتباع الهوى؛ يقول الحافظ ابن رجب: “وقد دلَّ القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث([16])، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}، فجعل اتخاذَ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنَده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى”([17]).

موافقة جملة الأحاديث الواردة في هذا المعنى للآية الكريمة:

جاءت جملة من الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم بناء المساجد على القبور، ومنها:
عن عائشة أم المؤمنين، أن أم حبيبة وأم سلمة -رضي الله عنهن- ذكرتا كنيسة رأينَها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»([18]).

وقد ترجَم القاضي عياض لهذا الحديث: “باب النهى عن بناء المساجد على القبور”([19])، وفيه ردّ صريح على من زعم أن معنى اتخاذ القبور مساجد: السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها([20]).
وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذِّر ما صنعوا([21]).

يقول ابن عبد البر: “وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذِّر أصحابه وسائرَ أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلُّوا إلى قبور أنبيائهم واتَّخذوها قبلة ومسجدًا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه؛ خشية عليهم امتثال طرقهم”([22]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([23])، والمعنى: لعنهم، وقيل: قتلهم وأهلكهم([24]).

ماذا لو كان عملهم كان محمودًا؟

وعلى التنزل والتسليم جدلًا بأن عمل الذين غلبوا على أمرهم كان محمودًا؛ فإنه يكون من قبيل شرع من قبلنا، وقد تنوَّعت أنظار الأصوليين في كونه شرعًا لنا أو لا؟ وأشهرها قولان:

الأول: أنه يكون شرعًا لنا ما لم يرد شرعُنا بنسخه.

الثاني: أنه لا يكون شرعًا لنا إلا بدليل([25]).

وعلى كلا القولين فليس فعلُهم مما يبنى عليه حكم شرعي، ولهذا يقول ابن كثير: “وهذا كان شائعًا فيمن كان قبلنا، فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذِّر ما فعلوا”([26]). فاتخاذ القبور مساجدَ ليس هو من شريعة الإسلام، بل من عمل اليهود، وقد لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك([27]).

فاللهم ارزقنا فهم كتابك والعمل به، وجنبنا الزلل واتباع الهوى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529).

([2]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 200).

([3]) شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 13).

([4]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 532).

([5]) ينظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية لمحمد أشرف الأفغاني (3/ 1650).

([6]) ممن أفتى بهذا د. علي جمعة مستدلًا بالآية الكريمة، ضمن موسوعة الفتاوى الإسلامية الصادرة عن دار الإفتاء المصرية (28/ 232، 33/ 221).

([7]) ينظر: البداية والنهاية لابن كثير (2/ 138).

([8]) ينظر: زاد المسير في علم التفسير (3/ 74).

([9]) تفسير الطبري (17/ 640).

([10]) ينظر: تفسير ابن عطية (3/ 507).

([11]) غريب القرآن (ص: 226).

([12]) تفسير ابن كثير (5/ 147).

([13]) تفسير القرطبي (10/ 379)، ومحاسن التأويل للقاسمي (7/ 16)، وأضواء البيان (3/ 251).

([14]) تفسير القرطبي (10/ 379).

([15]) مجلة المنار (28/ 439).

([16]) يعني الحديثَ الذي أوردناه في أول المقالة.

([17]) فتح الباري (3/ 193).

([18]) أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528).

([19]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 450).

([20]) بعض كلام د. علي جمعة في فتواه، وقد سبق ذكر المرجع.

([21]) أخرجه البخاري (435)، ومسلم (531).

([22]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (5/ 45).

([23]) أخرجه البخاري (437)، ومسلم (530).

([24]) ينظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 452).

([25]) ينظر: روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة (1/ 457)، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية (ص: 193).

([26]) البداية والنهاية (2/ 138).

([27]) ينظر: فتح الباري لابن رجب (3/ 193).