اد/ موريس بوكاي
اد/ موريس بوكاي

عندما نحلل مفهوم نشأة الكون في القرآن الكريم يتبين لنا لأول وهلة مدى التباين بين ذلك المفهوم، وبين ما جاء بالكتب السماوية الأخرى .

ادعاءات مضللة :

وهذه النتيجة – في حد ذاتها – تنفي تمامًا الادعاءات المضللة لمؤلفين غربيين عن التشابه بين القرآن الكريم والكتب السابقة، واتهامهم لمحمد – صلى الله عليه وسلم – باقتباس القرآن الكريم من التوراة والإنجيل.

كذب تلك الادعاءات :

وللتحقق من كذب هذا الادعاء تكفي مقارنة ما جاء بالتوراة من أن الله قد خلق الكون في الستة أيام ثم استراح! في اليوم “السابع” (4)   – بالنص القرآني الحكيم :

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ سورة الأعراف : الآية 54] .

(4) في سفر التكوين: “وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل” (2 / 3) .

 إيضـاح :

وينبغي أن نوضح هنا ما أكده المفَّسرون المعاصرون من أن المقصود بـ “الأيام” هنا ليس واحدها اليوم الأرضي المعروف  (24 ساعة) ؛  بل هو المراحل والدهور (5) .

 (5) يؤكد ذلك ما جاء في القرآن الكريم صراحة في الآيتين :
( أ ) )وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون( [الحج : 47] .
(ب) )تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة( . [المعارج : 4] .
(ج) )يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ    مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون( [السجدة : 5 ] .

وهذه الآيات إشارة إلى ما لم يعرفه البشر من قبل عن نسبية الزمن في الكون، فاليوم “الأرضي” الذي نعرفه إنما تضبطه دورة الأرض حول نفسها كل 24 ساعة، وهو يختلف تماما عن “اليوم” الذي يشهده أي كوكب آخر من كواكب المجموعة الشمسية، كما يتخذ الزمن وتقسيم وحداته (أيامه) في الكون الفسيح دلالات أخرى مغايرة تماما لما تعارفنا عليه على سطح الأرض.

وأهم من ذلك – في نظرى – عند مقارنة القرآن بغيره من الكتب السماوية أنه لم يُصِرّ على ترتيب معين لخلق الأرض قبل السموات؛ كما جاء بالكتب الأخرى؛ بل إن النصوص القرآنية في مجموعها  تــــدل على تزامن نشأة الأرض ونشأة السموات ؛ فأحيانًا يذكر لفظ “السماء” أو “السموات” قبل
لفظ “الأرض” وأحيانًا بعدها في الإشارات القرآنية لنشأة الكون(6) ؛ مثل ما جاء في “سورة طه”:

]تَنْزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا} [طه : 4] ، وما جاء بسورة الزّمر:
]خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقّ} [الزمر : 5 ] .

(6)                       الواقع أن التعبير القرآني مطرد في تقديم “السموات” على “الأرض” وتكرر ذلك في 178 موضعًا في القرآن ، عدا موضعين اقتضاهما سياق المعنى : )يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَات( [إبراهيم : 48] ، وآية [طه : 4] المذكورة التي تنطوى على تثبيت قلب الرسول الكريم بأن وحي القرآن إنما أنزل على هذه الأرض ممن خلقها كما خلق السماوات العلا على امتدادها قبلها. ويتفق ذلك مع الحقيقة الكبرى : أن الأرض ليست مركز الكون – كما ظن الأقدمون – بل هى قطرة في بحر الكون اللانهائي .

وقد أدى ذلك الانفصال إلى نشأة العديد من العوالم المختلفة )الْعَالَمِين( كما يتكرر ذكرها بهذا اللفظ مرارًا مثلما جاء بفاتحة الكتاب :

)الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين((8) [ الفاتحة : 2] .

إشارة إلى مفهوم أساسي في خلق الكون

من ناحية أخرى يشير القرآن إلى مفهوم أساسى في “نشأة الكون” هو: نشأته من “دُخَان”(7)، وابتداؤه من جسم واحد متصل (رَتْق)؛ انفصل بعد ذلك إلى أجزاء (انفتق) وهو ما تشير إليه الآية الكريمة من سورة فُصّلت : (ثم استوى إلى السماء وهى دخان..) [ فصلت : 11]، مع الآية التالية من سورة الأنبياء : )أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا( [ الأنبياء : 30]

(7)             “الدخان” هو خليط من غبار وغاز، ومازال ما لم يتكثف منه – في نجوم أو كواكب – يملأ فضاء “المجرات” .

اتفاق مع المفهوم السائد

ويتفق ذلك كله مع المفهوم السائد : ألا وهو وجود كتلة دخانية أولية واحدة ، ثم انفصالها إلى المجرات ، ثم إلى النجوم ، ثم نشأة الكواكب بانفصالها عن النجوم .

كما يشير القرآن إلى خلق يتوسط السموات والأرض (8) كما جاء في سورة الفرقان: )الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا( [الفرقان : 59] ويبدو لي أن هذا الخلق بينهما قد يشير إلى ما اكتشف مؤخرًا من كتل مادية تسبح في مسارات لا تنتمي إلى أي من الأفلاك المعروفة(9) .

  (8) كما يقرر القرآن بوضوح أن ثمة عوالم من المخلوقات لا نعلمها تنتشر في أرجاء الكون الفسيح ]تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} [الإسراء : 44] . ]ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة} [الشورى : 29]
(9) وربما يشير أيضا إلى ما يسمى “المادة المظلمة” ، التي هي القرين السلبي للمادة .

خلاصة هذا البحث

وفي النهاية يبين لنا هذا العرض : مدى اتفاق المعارف الحديثة وما جاء بالقرآن الكريم، وكلاهما بدوره يختلف تمامًا عما جاء بالتوراة والإنجيل عن مراحل الخلق ، وخاصة ما ذكر فيهما عن خلق الأرض في اليوم الثالث قبل خلق السموات في اليوم الرابع ، على عكس ما نعرفه من أن “الأرض نشأت بالانفصال عن الشمس” (10) ؛ فكيف بالله عليكم يستقيم الادعاء : أن محمدًا – صلى الله عليه وسلم- قد استقى معارفه من تلك الكتب “السماوية” مع ما نعرفه الآن : أن القرآن قد جاء ليصحح ويعدل ما جاء بتلك الكتب ؛ ليصبح مطابقًا للمفاهيم الصحيحة التي ما اكتشفت إلا بعد عصره بقرون ؟

(10) جاء بسفر التكوين : “في البدء خلق الله السموات والأرض، وإذ كانت الأرض مشوشة ومقفرة … وأمر الله ليكن جَلَد يحجز بين مياه ومياه … وسمى الله الجلد سماء”