مقدمة هامة في مصادر السيرة النبوية والمغازي
ليس هناك شخصية تاريخية لقيت من اهتمام الدراسين والباحثين قديمًا وحديثًا كما لقيت شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هناك أمة اعتنت بتاريخ وحياة نبيها – بكل تفاصيله ودقائقه – كما اعتنت الأمة الإسلامية.
ويعتبر تدوين السيرة النبوية بمثابة المدخل الرئيس لدراسة التاريخ وتدوينه بصفة عامة، وقد اعتمد العلماء من أجل تدوين مختلف هذه الأحداث والوقائع على قواعد علمية لضبط الروايات والأخبار، وهي نفس القواعد العلمية التي نهجوها في سبيل حفظ باقي المصادر الإسلامية، خاصة أحاديث السنة النبوية؛ كقواعد مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، هذه القواعد التي قُنِّنت أساسًا لحفظ السنة النبوية من الضياع والتحريف هي نفسها التي استثمرت لخدمة السيرة النبوية بصفة خاصة، والتاريخ عمومًا.
وكتابة المغازي والسيرة مظهر من مظاهر جمع الأحاديث النبوية، ونتيجة حتمية اقتضتها هذه العملية، فإذا كان الحديث يهدف أول ما يهدف إلى دراسة أقوال النبي وأفعاله، فإن التاريخ كان يهدف في بداية الأمر إلى دراسة سيرته وأعماله والصحابة والأخبار الغزوات والجهاد، ومن هنا وجدت الصلة الوثيقة بين الاثنين؛ لأنها كانت تتبلور حول الأحاديث التي كان يراعى فيها الدقة كثيرًا وتتصدَّر بالأسانيد التي تحمل معنى التمحيص وإرجاع الروايات إلى مصادرها الأصلية.
ونستطيع القول إذًا: إن كتب المغازي والسيرة هي بداية التأليف العلمي في التاريخ، ومن الخطأ اعتبار رواة السير والمغازي الأوائل مجرد رواة للأخبار؛ لأنهم كانوا مصادر لها؛ لأنهم عايشوا معظم الأحداث وعاينوها.
ونلحظ أن كتابة المغازي والسيرة في دورها الأول، الذي شغل معظم القرن الأول الهجري، قد تمَّت على يد نفر من رجال المدينة مما يسمى بمدرسة المدينة، بعكس الدور الذي مرت به كتابة المغازي والسيرة ابتداءً من القرن الثاني الهجري، التي لم يختص بها كتَّاب من المدينة فحسب، بل شارك فيها رجال من مواطن أخرى، مما عرف بمدرسة البصرة، أو المدرسة العراقية، ويرجع ذلك دون شك إلى أن المدينة كانت تعتبر دار السنَّة التي عاش فيها الصحابة وشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أحاديثه، ورووها للتابعين، فكان حريًّا بفقهائها أن يكونوا رواة الكتابة في المغازي والسيرة، وقد برز من كتاب المغازي والسيرة جيل من رواد الكتابة في هذا المجال، وخلال المقالات القادمة، سنذكر أبرزهم إن شاء الله تعالى.