مراحل الكتابة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الغرب
عندما تحدثنا عن الإسلام والغرب اتضح لنا: أن كتَّاب الغرب، حين يكتبون عن الإسلام، يتفاوتون في قيمة الكتابة، ولكن تفاوتهم على حسب البواعث والنيات أضعاف تفاوتهم على حسب الدراية والمعرفة؛ لأنهم طوائف مختلفة لا تتفق في الوجهة ولا في الخلق. فمنهم المبشرون الذين ينحرفون عن الصواب اضطرارًا أو اختيارًا بباعث من التعصب، و(منهم) أناس يخدمون السياسة الغالبة على دولهم. ويكتب عن الإسلام في الغرب طلاب المعرفة من المستشرقين الذين نشؤوا في العصر الحديث بمعزل عن دوائر التبشير، ويكتب عن الإسلام في الغرب أناس يتشيعون له بمقدار ثورتهم على سلطة الدين في بلادهم، ويكتب عن الإسلام في الغرب أناس عرفوا الحق واتبعوه وآمنوا به[1].
وقد مر الحديث عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم في الغرب بأربع مراحل على امتداد الزمان والمكان، قد ذكرناها بشيء من التفصيل عند الحديث عن الإسلام والغرب، ولعلنا نتطرق إليها هنا تارة أخرى بشيء من الإيجاز، مركزين فيها على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، والمراحل الأربع هي:
1 – مرحلة القرون الوسطى: والتي سبق وقسمناها إلى قسمين، هما:
أ – الفكر المسيحي الشرقي:
ويمثلها هنا (تيوفان Theophane le confesseuv) (817م) أحد علماء بيزنطة، والذي كتب في حولياته عن أصول الإسلام وأحداث السيرة، فكان مما كتب عن محمد صلى الله عليه وسلم: “ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم فقيرًا ويتيمًا فقد قرر أن يرتبط بامرأة غنية اسمها خديجة. وبعد أن سيطر عليها وأغراها تزوجها، وفي فلسطين اختلط مع اليهود والنصارى، وبوساطتهم حصل على بعض الكتابات، وأصيب أيضًا بالصرع، ولما علمت زوجته بأنها – وهي امرأة من الطبقة الغنية – قد ارتبطت برجل ليس فقيرًا فقط، ولكنه أيضًا مصاب بالصرع هدأها بقوله: إني أرى ملكًا اسمه جبريل، ولما كنت لا أستطيع تحمل رؤيته فإني أصرع، ولما كان يريد إقناعها، فقد قال لها: بأنها الحقيقة، فبلغت هي النسوة، وانتشر بعد ذلك الخبر إلى الرجال. وفي الختام فإن بدعته حصلت بالحرب على منطقة يثرب؛ لأنه قضى أولًا عشر سنوات ينشر رسالته في السر، ثم بعد ذلك قضى عشر سنوات أخرى ينشرها بالحرب، حتى انتهى أخيرًا إلى الدعوة العلنية وإلى الحكم تسع سنوات”[2].
ولعل أي إنسان قرأ القليل عن محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الشرق أو الغرب، يستطيع أن يرفض – استنادًا إلى وقائع وأسانيد وأحداث موثقة – ما قاله تيوفان، ولقد سبق وذكرنا رفض علماء الغرب لاطلاع محمد صلى الله عليه وسلم على كتب النصارى واليهود، فضلًا عن اختلاطه بهم والمكوث معهم، وكذلك رفضهم باليقين القاطع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان مصابًا بالصرع؛ لأن أعراض الصرع لم تكن هي التي تنتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم عند تلقيه للوحي، وأثبتوا أنه ما كان رجل بهذا الذكاء وتلك الحكمة – وهذا الذي قام به من تأسيس لدولة الإسلام، وبناء جيل من رعاة الأغنام إلى سادة للأقوام؛ ما جعل (مايكل هارت) يتخذه في كتابه على رأس أعظم مائة في التاريخ – ما كان ليصاب بالصرع، وما عرف عنه ذلك أبدًا، هذا بجانب أن مدة الدعوة السرية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم تتجاوز ثلاث سنوات، وأنه لم يدخل يثرب (المدينة) محاربًا، وإنما مهاجرًا هو ومن أسلم من قريش، وأن عمر محمد الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بدأ نزول الوحي إلى وفاته لم يتجاوز ثلاثة وعشرين سنة: ثلاث عشرة في مكة، وعشرة في المدينة، وليس كما ذكر تيوفان!
ب – الفكر المسيحي الغربي:
ويمثل هذا الفكر (إيلوج القرطبي Eloge de Cordoue) الذي اشتهر بكونه الأكثر علمًا بين قساوسة بلاده، والذي لم تخرج كتاباته عن إطار الكذب المحض على النبوة والسيرة والتشريع الإسلامي، فقد تنبأ محمد صلى الله عليه وسلم فيما يقول: “عندما أحس بقرب موته. بأن الملائكة سوف تأتي لتبعثه في اليوم الثالث بعد موته، وبعد نزول روحه إلى جهنم فإن أصحابه قد قاموا ليحرسوا جسده، ولما جاء اليوم الثالث ولم تأتِ الملائكة انصرفوا؛ لاعتقادهم بأنها لن تقترب في حضورهم، وفورًا، وعوضًا عن الملائكة قدمت الكلاب لتنهش جسد النبي، وما بقي منه دفنه المسلمون، ولينتقموا من الكلاب فإنهم أمروا بأن يقتل عدد عظيم منها في كل سنة، فهذه هي معجزات نبي الإسلام”[3].
وهكذا لم يَخْلُ منهج المستشرقين من اختلاق القصص، وكَيْل التهم إلى نبي الإسلام، فما قاله إيلوج لم يقله غيره في الشرق ولا في الغرب، فما هو إلا أسطورة اختلقها لتشويه صورة محمد صلى الله عليه وسلم عند المسيحيين من أهل بلده إسبانيا، مستغلًّا الجهل العام بين المسيحيين الذين لا يجيدون العربية، أو غير المتصلين بالمسلمين.
2 – مرحلة عصر التنوير:
وقد ذكرنا أن في تلك الفترة تغير الفكر الغربي في كتاباته عن الإسلام ورسول الإسلام؛ وذلك نتيجة لإعادة النظر في فهم الإسلام والتعامل معه، وفتح باب للحوار بين المسيحية والإسلام، ومن نماذج هذا التغير:
• ما أثبته (إدوارد جيبون) في كتابه: (اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها)؛ إذ كتب عن أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم ما نصه: “طبقًا لما رواه أصحابه كان محمد صلى الله عليه وسلم يتميز بجمال الخِلقة، وهي نعمة يندر أن يمتهنها إلا من حرم منها. وكان أصحابه تبهرهم هيبته وجلال منظره، وعيناه النافذتان، وابتسامته العذبة، ولحيته المرسلة، ومحياه الذي عبر عن كل خلجة من خلجات نفسه، وحركاته التي أكدت كل لفظ جرى على لسانه، وفي أمور الدنيا العادية اعتصم محمد صلى الله عليه وسلم بآداب قومه، بما فيها من جلال ورزانة، وقد زاد تواضعه وحسن لقائه لفقراء مكة المعدمين من شرف رعايته واحترامه للأغنياء والأقوياء، وأخفت صراحة سلوكه براعة أفكاره، وكان أدبه الجم يرجع إلى صدق شخصيته، أو حبه العام للخير، وكانت له ذاكرة قوية واعية، وكانت دعاباته هينة لطيفة، وخياله ساميًا، وحكمه على الأشياء واضحًا وسريعًا وفاصلًا، وتحلى بشجاعة التفكير والعمل معًا، وعلى الرغم من أن خططه ربما اتسعت بالتدريج مع كل نجاح أصابه، فإن أول فكرة واتته عن رسالته المقدسة تحمل طابع الأصالة والعبقرية الفذة”[4].
وفي حكم (جيبون) النهائي على دعوة وشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم كتب يقول: “ربما كان علي أن أزن أخطاءه وفضائله. ولو كنت أعرف ابن عبدالله معرفة وثيقة لظل الأمر شاقًّا، ولكان النجاح غير مؤكد، فما بالك بعد اثني عشر قرنًا وأنا أتفحص ظله بصعوبة خلال سحب من النور المقدس. ويظهر أن هذا الرجل الذي قام بأعظم ثورة في العالم كان تقيًّا ورعًا، ميالًا إلى التأمل بطبيعته. لقد عاش بريئًا طاهرًا حتى سن الأربعين. إن وحدانية الله التي دعا إليها هي فكرة ملائمة للطبيعة والعقل، وربما علمته محاورة عابرة مع اليهود والنصارى ازدراء الأديان. وقد يحول النشاط الذهني المركز على موضوع واحد الالتزام العام إلى رسالة خاصة، وقد يشعر بأن الأفكار التي تصدر عن الإدراك أو الخيال إن هي إلا وحي من السماء. وعندئذ قد يوصف الشعور الداخلي. بأنه ملك من ملائكة الله. وقد حول ظلم مكة واختيار المدينة المواطن العادي إلى أمير، والبشير المتواضع إلى قائد جيوش، ولكن سيفه أحيط بهالة من القداسة.”[5].
وإن كان عصر التنوير قد اختلف عما قبله من القرون الوسطى، من حيث طريقة عرض الإسلام والكتابة عنه وعن الرسول المكلف به وهو محمد صلى الله عليه وسلم – فإن ذلك العصر لم يخلُ، مثله مثل أي عصر، ممن يكيل الاتهامات للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وإلى ما جاء به، ومثالًا لذلك: الإنجليزي (جورج سيل) الذي ينسب تأليف القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مدعيًا أنه قد احتال به على قومه بمساعدة آخرين، انصب عملهم على التخطيط له[6].
3 – مرحلة القرن التاسع عشر:
وفي هذا القرن نشأت تحولات كبرى في العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي، ففيما يخص النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم من هذا التحول أن أغلبية الدارسين لشخصيته صلى الله عليه وسلم في هذا القرن كانوا يميلون إلى الحكم بصدقه في دعواه (الاتصال بالملأ الأعلى)، ولكنهم حاولوا نفي كونه نبيًّا حقيقيًّا، ومعنى ذلك أنهم لم يتجاوزوا بالصدق الذي قصدوه الصدق النفسي، الذي ليس فيه إلا التأكيد على نفي ضد الصدق عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو الكذب.
والحقيقة أن تقرير الكثير من المستشرقين في هذا القرن لصدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم النفسي كان نتيجة طبيعية لبحثهم في حياته الشخصية وسير دعوته، وهو الأمر الذي نشأت عنه صورة جليلة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم بعد ثبوتها مهرب من تأكيد أحد شيئين:
أ – إما صدقه في ادعائه النبوة، ب – وإما تفسير التناقض الحاصل بين سمو سيرته والقول بكذبه في الوقت نفسه.
وقد اختار الفكر الاستشراقي في القرن التاسع عشر الحل غير الملزم له من الناحية العقدية، فقال جمهور مستشرقيه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم النفسي، والملاحظ أنهم وقفوا في بحثهم لهذه المسألة في منتصف الطريق بين الآراء الغربية القروسطية في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كانت لا ترى فيه أكثر من شخص مدَّع، وبين آراء بعض المستشرقين المعاصرين الذين أثبتوا النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويعود هذا الموقف الوسط الذي وقفه دارسو القرن الذي نبحثه إلى أن دراساتهم قد فرضت عليهم القول بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ارتباطهم العقدي بالمسيحية لم يسمح لهم بالذهاب إلى أبعد من هذا الموقف، وإلا خرجوا عن أديانهم، وهو أمر لم يبدأ في الانتشار بين الغربيين إلا في القرن العشرين.
ويكفينا للدليل على أن تطور الدراسات في السيرة هو السبب في هذه النقلة: أن ننظر في بعض النصوص التي كتبها المستشرقون عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال (كارليل): “من العار أن يصغي أي إنسان من أبناء هذا الجيل إلى وهم القائلين: إن دين الإسلام كذب، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن على حق، لقد آن لنا أن نحارب هذه الادعاءات السخيفة المخجلة؛ فالرسالة التي دعا إليها هذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم ظلت سراجًا منيرًا أربعة عشر قرنًا من الزمان لملايين كثيرة من الناس، فهل من المعقول أن تكون هذه الرسالة أكذوبة كاذب أو خديعة خادع؟ هل رأيتم رجلًا كاذبًا يستطيع أن يخلق دينًا ويتعهده بالنشر بهذه الصورة؟ إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يبني بيتًا من الطوب؛ لجهله بخصائص مواد البناء، وإذا بناه فما ذلك الذي يبنيه إلا كومة من أخلاط هذه المواد، فما بالك بالذي يبني بيتًا دعائمه هذه القرون العديدة، وتسكنه هذه الملايين الكثيرة. وعلى ذلك فمن الخطأ أن نعد محمدًا صلى الله عليه وسلم رجلًا كاذبًا متصنعًا متذرعًا بالحيل والوسائل لغاية أو مطمع. وما الرسالة التي أداها إلا الصدق والحق. وما هو إلا شهاب أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله”، وقد ذهب (كارليل) بعد هذا إلى رد تُهَمٍ أخرى، مثبتًا في الوقت نفسه سمو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ورفيع سلوكه، قال: “ويزعم المتعصبون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد بدعوته غير الشهوة الشخصية والجاه والسلطان. كلا، واسم الله، لقد انطلقت من فؤاد هذا الرجل الكبير النفس، المملوء رحمةً وبرًّا وإحسانًا وخيرًا ونورًا وحكمةً: أفكارٌ غير الطمع الدنيوي، وأهداف سامية غير طلب الجاه والسلطان، ويزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمدًا صلى الله عليه وسلم وأثاره، حُمْقٌ وسخافة وهوس إن رأينا رأيهم، ما حاجة رجل على شاكلته في جميع بلاد العرب وفي تاج قيصر وصولجان كسرى؟ لم يكن كغيره يرضى بالأوضاع الكاذبة، ويسير تبعًا للاعتبارات الباطلة، ولم يقبل أن يتشح بالأكاذيب والأباطيل، لقد كان منفردًا بنفسه العظيمة، وبحقائق الكون والكائنات، لقد كان سر الوجود يسطع أمام عينيه بأهواله ومحاسنه ومخاوفه”[7].
ويقول الكاتب الإنجليزي (بوسورث سميث) في كتابه (محمد والإسلام) الصادر في لندن سنة 1874م – مؤكدًا ما ذهب إليه (كارليل) – وغيره: “إنه من المستحيل لأي شخص درس حياة وشخصية الرسول العربي العظيم، وعرف كيف عاش وكيف تعلم، ألا ينحني احترامًا لهذا الرسول المبجل القوي، الذي هو واحد من أعظم رسل الله، ومهما أقل لكم، فإني سأقول أشياء كثيرة معروفة للجميع، ولكن حينما أعيد قراءاتها أشعر بمزيد من التقدير والإعجاب”[8].
أما الموضوع الذي نال قصب السبق في جملة المباحث التي عرضت لحياة النبي صلى الله عليه وسلم الشخصية فهو: أمرُ زواجه صلى الله عليه وسلم؛ إذ نلاحظ الاندهاش باديًا على المتعاطفين من مستشرقي القرن التاسع عشر، أما بالنسبة للمتحاملين والحاقدين على نبي الإسلام فقد كان زواجه مطية للقول بشهوانيته، وقد تقبَّل الفكر الغربي في هذا الموضوع أكثر الروايات غرابة، بل ذهب يبحث عنها بحثًا حثيثًا، ويخترع التفسيرات والزيادات لتشكيل صورة أكثر إغرابًا[9]، وقد اشتهرت فكرة شهوانية النبي صلى الله عليه وسلم عند مستشرقي القرن التاسع عشر، ولم يتجرد أحدهم لاستجلاء حقيقتها، ولعلنا نجد حقيقة تلك الشبهة والرد عليها في السطور القادمة.
3 – المرحلة المعاصرة:
قد اخترنا من جملة كتابات المستشرقين المعاصرين في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الإنسانية موضوعين مهمين، وهما: آراؤهم في أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وموضوع زواجه.
أ – أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الفكر الاستشراقي المعاصر:
يميل جمهور المستشرقين المعاصرين إلى اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم شخصية فاضلة بأتم معاني الكلمة؛ ولذلك جاءت أوصافهم لأخلاقه معبرة – في غالب الأحيان – عن إعجاب شديد بسلوكه الذي كان يفيض دائمًا، ففي حين كانت التهم تكال إلى نبي الإسلام من هنا وهناك، كما سبق ورأينا من وصفه بالكذب والصرع والشهوانية وادعاء النبوة، كانت هناك رؤية أخرى، وُصِف فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأفضلِ ما يمكن أن يوصف به إنسان، فكان مما جاء عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ما قاله (لويس ماسينون)[10]: “ويبقى الكثير من سر هذه الروح. خافيًا عنا؛ لذا نأخذ بما كشفت ودلت عليه حياته العامة من إرادة بينة وقادرة على السيطرة على الذات، والاعتدال والرقة والحِلم والصبر وبُعد النظر، وكافة الصفات المطلوبة في القائد الحربي ورجل الدولة، تهذبها العقيدة والإيمان العميق”[11].
وإذا كان هذا الكلام فيما يخص حياة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية والحربية، فيشير (بلاشير)[12] إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة قائلًا: “ولا يبدو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، في أي وقت من الأوقات، قد حاول إضفاء الغموض على حياته الخاصة. فإن كلامه وإشاراته وتصرفاته كأب أو كزوج، وتصرفاته باعتباره مؤمنًا، كانت مكشوفة لأتباعه الذين كانوا يتشكلون – عن قناعة – على صورته، وهكذا تحددت ملامح السنة”[13].
ويقول (وات) في وصفه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: “كان محمد صلى الله عليه وسلم ميالًا إلى الكآبة، وكان يعرف كيف يسيطر على عواطفه. وإذا رأى معارضة ما أدار وجهه، فإذا رضي غض بصره. وكان يستطيع أن يكون قاسيًا في بعض الأحيان، ولكنه كان على العموم لطيفًا، وكان ضحكه في معظم الأحيان ابتسامة. ويبدو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يشعر بحنان خاص نحو الأطفال، وكانوا دائمًا يحبونه. وكانت طيبته تشمل الحيوانات، وهذا شيء رائع في العصر الذي كان يعيش فيه في هذا الجزء من العالم”[14].
وما قول (إميل درمنجهم)[15] عنا ببعيد؛ إذ قال واصفًا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم: “لقد أبدى من الكرم وعظمة النفس ما لا تجد مثله في التاريخ إلا نادرًا، وكان يوصي جنوده بأن يرحموا الضعفاء والشيوخ والنساء والأولاد، وكان ينهى عن هدم البيوت، وإهلاك الحرث، وقطع الشجر المثمر”[16].
ونختم بقول (ول ديورانت) في وصف رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: “وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا: إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ؛ فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو، وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانِه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله”[17].
ب – زواجه صلى الله عليه وسلم في الفكر الاستشراقي:
تتعلق مناقشة الفكر الاستشراقي لمسألة الزواج في الإسلام عمومًا، وزواج النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشكل خاص، بموضوعين، هما:
1 – مسألة تعدد الزوجات في الإسلام.
2 – مسألة الزعم بشهوانية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد نخصص الحديث هنا عن شبهة شهوانية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثبتنا عند حديثنا عن المرأة أن تعدد الزوجات هو من الأحكام الشرعية التي اشتركت فيها الديانات التوحيدية الثلاث؛ فقد كان لإبراهيم ويعقوب وموسى عليهم السلام أكثر من زوجة، كما اتخذ داود من النساء الكثير، وجاء عن سليمان أنه اتخذ ألف امرأة ما بين حرة وأمة، ولعل الذين يهاجمون تعدد الزوجات في الإسلام يبيحون تعدد الصديقات والعشيقات والشذوذ، حتى أصبح زواج الشواذ أمرًا متعارفًا عليه وموثقًا من الكنيسة ذاتها. ومعنى هذا أن استهجان الفكر والمجتمع الغربي المعاصر للتعدد ليس إلا تطورًا مَرَضيًّا في الأفكار والبناء المجتمعي.
• شبهة: شهوانية النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
أما بالنسبة للموضوع الثاني، فإننا نلاحظ أن الفكر الاستشراقي قد تراجع تراجعًا شبه كلي عن استخدام زواج النبي صلى الله عليه وسلم المتعدد باعتباره دليلًا على الشهونية، فقال (وات): “لم يكن إذًا في حياة محمد صلى الله عليه وسلم الجنسية على العموم ما يحمل معاصريه على الحكم عليه بأنه لا يتفق مع نبوته. وبالرغم من أن الكتاب المسلمين رووا فيما بعد قصصًا ممتعة حول حساسية محمد صلى الله عليه وسلم أمام النساء. فإنه من الأكيد أنه كان يسيطر تمامًا على عواطفه أمام الجنس اللطيف، وأنه لم يتزوج إلا إذا كان الزواج مستحسنًا سياسيًّا واجتماعيًّا”[18].
ولقد حاول الغرب تشبيه نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم (بالشهواني)، مستدلين على ذلك بزواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، فكان مما قالوا: “وكان الانتقاد الوحيد الذي وجهه معاصرو محمد صلى الله عليه وسلم من المسلمين ضد زواجه من زينب بنت جحش. وكانت ابنة عمته. وتزوجها محمد صلى الله عليه وسلم بالرغم عنها من ربيبه زيد بن حارثة. وهم لم يصدموا من الجانب الشهواني الذي ينم عليه هذا المسلك، كما يصدم أهل أوروبا اليوم، بل كانوا يعارضون هذا الزواج؛ لأنه كان في نظرهم زنا. لما كان لديهم من المبدأ القديم القائل بأن الولد المتبنى كالابن الحقيقي. وكان النقد الموجه لمحمد صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد يعتمد على النظريات الجاهلية التي لا يعترف بها الإسلام، وكان من أهداف محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الزواج أن يقضي على سيطرة هذا الوهم القديم على سلوك الناس”[19].
أما عن قول الله لنبيه في سورة الأحزاب: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ [الأحزاب: 37]، يقول فيه الغزالي: “إنهم يقولون: الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو ميله لزينب؛ أي إن الله – بزعمهم – يعتب عليه عدم التصريح بهذا الميل، ونقول: هل الأصل الخلقي أن الرجل إذا أحب امرأة لغط بين الناس مشهرًا بمن أحب، خصوصًا إذا كان يحب امرأة رجل آخر؟ وهل يلوم الله رجلًا؛ لأنه أحب امرأة آخر فكتم هذا الحب؟ هذا هو السفه”[20].
وخلاصة القول تتضح في قول علي بن الحسين في تفسير تلك الآية: “إن الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد ليشكوها إليه قال: اتق الله، وأمسك عليك زوجك، فقال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه”[21].
وأرجو أن يكون في كلام (لورا فيشيا فاغلير) ما ينهي الكلام عن تلك الفِرية؛ إذ تقول: “لقد أصر أعداء الإسلام على تصوير محمد صلى الله عليه وسلم شخصًا شهوانيًّا. محاولين أن يجدوا في زواجه المتعدد شخصية ضعيفة غير متناغمة مع رسالته، إنهم يرفضون أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه الحقيقة، وهي: أنه طوال سني الشباب التي تكون فيها الغريزة الجنسية أقوى ما تكون، وعلى الرغم من أنه عاش في مجتمع كان الزواج (فيه) باعتباره مؤسسة اجتماعية مفقودًا أو يكاد، وحيث كان تعدد الزوجات هو القاعدة، وحيث كان الطلاق سهلًا إلى أبعد الحدود، لم يتزوج إلا امرأة واحدة ليس غير، خديجة، ولم يتزوج ثانية إلا بعد أن توفيت، وإلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره، لقد كان لكل زواج من زواجاته هذه سبب اجتماعي أو سياسي؛ ذلك أنه قصد إلى تكريم النسوة المتصفات بالتقوى، أو إلى إنشاء علاقات زوجية مع بعض العشائر والقبائل الأخرى ابتغاء شق طريق جديد لانتشار الإسلام، وباستثناء عائشة تزوج محمد صلى الله عليه وسلم من نسوة لم يكنَّ عَذَارَى، ولا شابات، ولا جميلات، فهل كان ذلك شهوانية؟ لقد كان رجلًا لا إلهًا، وقد تكون الرغبة في الولد هي التي دفعته إلى الزواج من جديد. ولكنه التزم دائمًا سبيل المساواة الكاملة نحوهن جميعًا، لقد تصرف متأسيًا بسنة الأنبياء القدامى، مثل موسى وغيره الذين يبدو أن لا أحد من الناس يعترض على زواجهم المتعدد”[22].
فهذا هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ونستحضر قول (جارودي) إذ يقول:” لماذا يقارن معظم الباحثين الغربيين بين النظام الإسلامي كما هو عليه الآن بنظام مسيحي مثالي ليس موجودًا على الإطلاق؟ هؤلاء يسألون بسخرية حمقاء: أين هو الإسلام الذي تنسبون إليه الكمال؟ وإنني أجيب: هاتوا خريطة العالم وقولوا لنا: أين نجد مجتمعًا مسيحيًّا مثاليًّا يطبق المسيحية ونعتبره النموذج الحي للمبادئ والتعاليم؟ وقولوا لنا: لماذا تهاجمون الإسلام؛ لأنه لم يمنع وجود المنازعات بين المسلمين على رغم أنه الدين الذي يقرر أن المسلمين إخوة ويدعو إلى الإصلاح بين الإخوة؟ وإنني أقول: إن المسيحية هي دين التسامح والإخاء والرحمة، فكيف خرج الصليبيون باسم هذا الدين لذبح المسلمين في بلادهم؟ وكيف خرجت الجيوش الاستعمارية من دول مسيحية لغزو العالم الإسلامي الذي لم يبادر بالعدوان؟ وكيف سمح الضمير المسيحي باستغلال الشعوب الإسلامية واستنزاف ثرواتها وهو يدعو إلى العدل والحق؟”.
فمن باب قول الله: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، إن لم يكن لدينا ميل للإذعان بالحق والدخول في الإسلام، فلا ينبغي علينا أن نشهِر أقلامنا وألسنتنا متهكمين على ما نرفضه من الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم تحت مسمى حرية الرأي والفكر والتعبير، فكما نصت القوانين الدولية على تلك الحقوق، فإنها أيضًا قيدتها بعدم التعدي على الآخرين، وفي ذلك جاء نص المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن:
1 – لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة.
2 – لكل إنسان حق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3 – تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة.
وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
(ب) لحماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة.
فما منا من أحد يرتضي أن يسُبَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم أو معلمه أو أباه، وإن كان على غير الجادة، وما منا من أحد يقبل أن تشيع الكراهية والحقد بين الناس وبعضها البعض، بسبب الدِّين أو العِرق أو الجنس أو اللون.
——————————————————————————–
[1] نبوة محمد، ص 120 نقلًا عن (ما يقال عن الإسلام/ للعقاد).
[2] نبوة محمد، ص 40،39 – نقلًا عن (Islam medieval – VON Grunbaum – p 54. 55).
[3] نبوة محمد، ص 44 – نقلًا عن (Islam medieval – VON Grunbaum – p 68).
[4] مؤرخ إنجليزي، يعتبر أعظم المؤرخين الإنجليز في عصره (1737 – 1794).
[5] نبوة محمد، ص 68 – نقلًا عن (اضمحلال الإمبراطورية الرومانية).
[6] المرجع السابق.
[7] نبوة محمد، ص 96 – نقلًا عن (محمد رسول الله/ نصر الدين دينيه).
[8] نبوة محمد، ص 96 نقلًا عن (علماء الغرب يدخلون الإسلام/ محمد حلمي).
[9] نبوة محمد، ص 100.
[10] فرنسي: شغل مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال إفريقيا، وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر.
[11] نبوة محمد، ص 414 – نقلًا عن (ماسينيون، جان موريون: ص 68).
[12] فرنسي، أستاذ العربية في جامعة باريس.
[13] المرجع السابق – نقلًا عن (le probleme de Mahomet – p101.)
[14] المرجع السابق، ص 416 – نقلًا عن (محمد في المدينة) مونتغمري وات.
[15] فرنسي: مدير مكتبة الجزائر، من مؤلفاته: حياة محمد.
[16] قصة الحضارة – المجلد السابع – ص47.
[17] نبوة محمد، ص 415 – نقلًا عن (الإسلام والوجه الآخر للفكر الغربي) عماد الدين خليل.
[18] نبوة محمد، ص 423 – نقلًا عن (محمد في المدينة) مونتغمري وات.
[19] نبوة محمد، ص 425 – نقلًا عن (محمد في المدينة) مونتغمري وات.
[20] نبوة محمد، ص 427 – نقلًا عن (فقه السيرة/ محمد الغزالي).
[21] تفسير ابن كثير.
[22] نبوة محمد، ص 205 – نقلًا عن ( دفاع عن الإسلام/ لورا فيشيا فاغلير).