صدفوية نشأة الكون والسببية
أصل العلم الحديث يقوم على العلاقة بين السبب والمؤثر، فرصد الذرات يتم عبر إثبات أثرها ودلائل وجودها، ورصد القوانين يتم عبر الاستدلال بأثرها، ورصد الجاذبية هو رصد لأثرها وليس رصد للجاذبية ذاتها فنحن إلى اليوم لم نرصد جسيم جاذبية واحد graviton ومع ذلك نُسلم يقينًا بوجود الجاذبية، بل كل علوم المايكرو تقوم على رصد الأثر، فلا يوجد شيء في العلم الميكروي يسمى مثلاً مشاهدة الإلكترون، وإنما رصد أثره!
وهنا شاهدان؛
الشاهد الأول: أن السببية أصل العلم وأقوى من البرهان والقانون، فالذي ينكر السببية لمجرد مخالفتها لعقيدته الإلحادية فهو معاند لبديهة عقلية مستقرة في عقول جميع البشر منذ اللحظة الجنينية-إذ ثبت أن الجنين يؤمن بالسببية وهو ما زال في بطن أمه ولو ضغط الطبيب على رحم الأًم أثناء الفحص يعطي الجنين رد فعل حسب مكان الضغط وحسب التأثير فهو يؤمن بوجود سبب ومُسبب-.
الشاهد الثاني: أن الاستدلال بالأثر هو استدلال علمي منطقي يقبله العقل ويقوم بمنزلة البرهان على وجود المؤثر.
والآن لدينا كون مخلوق بمعايرة دقيقة للغاية fine-tuned من اللازمان واللامكان إلى المكان والزمان مع أن قانون العلم يقول بحفظ الطاقة وأن الطاقة لا تُستحدث من العدم، لكن نحن أمام طاقة هائلة أستُحدثت من العدم في لحظة واحدة- فكل طاقة الكون وكل مادة الكون ظهرت في جزء أقل من مليار مليار مليار جزء من الثانية-، ألا يدل ذلك على مُحدث وخالق وصانع، أليست هذه بديهة لا يجد العقل لها ردًا؟
أما القول بالصدفة فهو جهل بأصول الإحتمالات؛ لأن الصدفة لها شرطان لا ينفكان عنها، وهما: الزمان والوجود، فالصدفة تشترط زمان تقوم فيه بإحداث أثرها، وتشترط وجود مادي مكاني تقوم عليه ليُنتج مفعولها، فكيف نقول بدور الصدفة في إيجاد الكون، مع أن كوننا جاء من اللازمان واللامكان؟ كيف يظهر أثر الصدفة دون ظهور الصدفة نفسها؟ كيف تُعطي الصدفة أثرًا قبل وجودها ووجود الزمان ووجود المكان اللذان هما شرطا الصدفة الأساسيان؟
أيضًا للصدفة أركان لا تنفك عنها؛ مثل:
أولاً: العشوائية؛ لكن كوننا مخلوق بمعايرة دقيقة للغاية فيما يعرف بالحد الحرج fine-tuned فالكون وُجد بآلاف الثوابت الفيزيائية التي لو اختل واحد منها بمقدار ضئيل للغاية لما ظهر للوجود معنى.
ثانيًا: اللامعنى؛ بينما المعنى هو الأصل في كل حركة وفعل على الأقل بالنسبة للإنسان الذي يستوعب ذاته، إذ لو لم يكن للوجود معنى فلا معنى للإغتصاب وسيبدو مجرد حركات ديناميكية وانثناء أربطة وشد أوتار لا أكثر !
ثالثًا: اللاقيمة؛ بينما كلنا يبتغي القيمة وتوجهه القيمة حتى الملحد يكرز-يبشر –بكهنوته الإلحادي منطلقًا من وجود قيمة لتكريزه وهدف مرجو منها.
رابعًا: اللاغاية؛ بينما لكل فعل غاية ولو لم يكن لوجودنا غاية، لما كان السعي لإنقاذ الفتاة المُغتصبة في المثال السابق معنى!
خامسًا: اللامعيارية؛ فمعيارية الأخلاق مثلاً مهما صنعها الإنسان أو المجتمع لن تخرج خارج الإطار المادي المنفعي المصلحي، بينما الأخلاق لا مادية، ولو رأى مجموعة من الشباب الفتاة في المثال السابق تُغتصب، وعلموا أن إنقاذهم لتلك الفتاة قد يؤدي إلى مقتلهم، وقاموا بإنقاذها، فهؤلاء في عُرف الإنسانية أبطال يجب أن يُكرموا، بينما ماديًا لا معنى لتصرفهم بل هو تصرف ضد المادة وضد المصلحة الشخصية وهو تصرف غير مقبول، وهذا يؤكد لامادية الأخلاق، وانفصال معنى الإنسان عن هذا العالم المادي، وقيمة الفعل الإنساني وغائية تصرفه ومعنى وجوده؛ وأنه يستمد معناه وقيمته من عالم آخر، وبالتالي هذا مثال على الأقل يوضح مفارقة الإنسان بمفاهيمه وقيمه ومبادئه وأخلاقياته للعالم المادي المجرد، فيؤكد وجود المعنى والقيمة والهدف والغاية، – إذ كيف يستطيع كون خالٍ من الغائية أن يخلق إنسان تُحركه الغائية والهدف؟- ، بل إنه لا يشذ عن الإيمان بغائية التصرف الإنساني إلا الملحد.
إذن ما سبق دلائل مباشرة تدل على وجود الخالق القادر الحكيم الصانع المدبر خالق هذا الوجود، وتدل على معنى وجود الإنسان وغائية وجوده، وقيمة كل أفعاله، وسفاهة القول بالصدفة.