حاولَ بعضُ النصارى أن يؤكِّدوا نظريتهم في ألوهيَّة عيسى – عليه السلام – ويؤكِّدوا عقيدتهم في التثليث بما جاء في القرآن الكريم من قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171].
وقالوا: إنَّ القرآن الكريم سَمى عيسى – عليه السلام – كلمة الله ورُوحه، ففيه جزءٌ من الإلهيَّة بناءً على ذلك.
وقالوا: إنَّ القرآن أقرَّ تثليثَهم، وأقرَّ قولَهم بأنَّ عيسى ابن الله، ورُوحه الأقدس بناءً على هذه الآية، ولم ينظروا إلى قوله – تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73].
ولا إلى قوله: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
ثم سدروا في غيِّهم، وجاؤوا إلى شباب المسلمين، وفتياتهم يقدِّمون لهم هذه الآية الأولى بفَهْمهم السقيم، ويبنون عليها أن عيسى – عليه السلام – أفضل من محمد – صلى الله عليه وسلم – فدينُه أفضل، ويجب اتِّباعه ما دام هو أفضل، وألَّف بعضُهم في ذلك كُتيِّبًا صغيرًا بُنِي على المغالطة والوهْم، والجهْل والكفر، وعنونه بقوله: “الله واحد في ثالوث”، إلا أنَّ بعضَ الشباب المسلم الذي لم يحط خبرًا بخَلْق عيسى – عليه السلام – وبمعنى “الكلمة” في القرآن الكريم و”الرُّوح”، كاد أن يتأثَّرَ بهذه المغالطة، ولولا تداركي لهم بفضْل الله ورحمته، لوقعوا في الإلحاد والشك؛ ولذلك فإني أستأذنُ قُرَّاء مجلة التوحيد الأعزَّاء في أنْ أتوقَّفَ معهم شيئًا ما عن متابعة موضوع الإحياء والغزالي؛ ريثما نجلي هذا الأمر، وخاصة أنَّ علماءَنا لم يسبقْ لهم إلا قليلاً تجلية هذا الموضوع، بل وكاد يظنُّ بعضُهم بعيسى – عليه السلام – ما ظنَّت النصارى فيه أو اعتقدته، مثل الإمام الفاضل السيد محمد رشيد رضا في كتابه “الوحي المحمدي”؛ حيث ردَّ معجزات عيسى- عليه السلام – إلى شخْصه وإلى طريقة خلقته التي خُلقَ بها، والتي هي في نظر السيد رشيد رضا حالة خاصَّة بعيسى – عليه السلام – دون بقيَّة البشر وسائر الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام.
ونبدأ ببيان المراد من (الكلمة) في القرآن الكريم، و”بالرُّوح” ونفخها كما وردتا في هذه الآية التي يحتجون بها، فالمراد من الكلمة أو (كلمة الله): هي قوله (كنْ)؛ كما قال – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40].
فإذا كان القرآن قال عن عيسى – عليه السلام – أنه كلمة الله، فلا يعني بذلك أنه جزءٌ منه، وإنما هو أمرُه وخَلقه، وأنه خَلقه كبقيَّة المخلوقات والناس بكلمة (كنْ)، فليس جزءًا منه، فقد أرادَ الله بالكلمة نفْي أن يكونَ ولدًا له؛ لأنَّ الوالد لا يخلق ولده – تعالى الله عما يقولون عُلوًّا كبيرًا – كما أنَّ عيسى – عليه السلام – ليس فريدًا بهذا التصريح في جانبه، فإنَّ القرآن أضافَ الكلمة أيضًا إلى “يحيى” – عليه السلام – وجعَلَه كلمة منه في قوله – تعالى – كاستجابة لنداء “زكريا” وطلبه للولد: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39].
فهذا نبي آخر تحدَّث عنه القرآن بأنَّ الله سيخلقُه بكلمة منه، فالكلمة هي الخَلق وهي الأمرُ كما تقدَّم، وكلُّنا كلمات الله بناءً على ذلك؛ لأننا خُلقْنا بكلمة منه، فخلْقُه كلماته ونعمه على خَلقِه كلماته أيضًا؛ كما جاء في الآية الكريمة: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27]، وفي الآية الأخرى: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109].
أمَّا عن الرُّوح وما جاء بصددها في خَلْق عيسى – عليه السلام – من مثْل قوله – تعالى -: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ﴾ [الأنبياء: 91]، ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ﴾ [التحريم: 12].
فكلُّنا من لدن آدمَ إلى أن تقومَ الساعة نَفْخٌ من رُوح الله؛ كما قال – تعالى – في شأْنِ آدمَ أبي البشر: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 71 – 72].
فآدمُ – عليه السلام – لم يتحوَّل من الطين إلى البشريَّة إلاَّ بالنفْخ من رُوح الله، كما تحوَّل عيسى – عليه السلام – من عالم الأجنَّة إلى عالم البشر بالنفْخ أيضًا، وكما تحوَّل كلُّ إنسان من أبناء آدمَ في تناسلهم العادي؛ كذلك كما جاء في قوله – تعالى -: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة : 7 – 9].
فكل إنسان هنا قد نفَخَ الله فيه أو في أُمِّه، كما نَفَخ في عيسى – عليه السلام – وفي أُمِّه كذلك.
فأيُّ فارقٍ هنا بين خَلق عيسى – عليه السلام – وخَلق آدمَ، وبقيَّة بني آدمَ؟! الكلُّ بشرٌ، والكلُّ كلمة الله ورُوحه نفخَها فيهم، أو منحهم إيَّاها، وهي الحياة ونعمة الحياة وسرُّها، وهي في الناس جميعًا من أمْر الله الذي استأْثَر بعِلمه؛ كما قال: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
فإذا كان عيسى – عليه السلام – قد انفردَ دون بني آدمَ بأنْ جاء من غير أبٍ، فإنَّه في ذلك لم يخرجْ على قاعدة الخَلق التي لا تحيد بالنسبة لله – تعالى – فإنه له مثالات أغربُ منه وهو أبوه آدم؛ حيث جاء من غير أبٍ ولا أُمٍّ؛ ولذلك قاسَه الله على أبيه آدمَ في ذلك؛ حيث قال: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].
فالخَلق عند الله لا يلتزم بقاعدة واحدة، ولا بوتيرة محدودة؛ لأن قدرته – تعالى – لا تحيد، فهو يخلق بأيِّ كيفيَّة؛ إمَّا من العدم، وإمَّا بالتوالُد من أبَوَين، أو دون أبٍ، إلى آخر ما يُلاحظ في عالم المخلوقات، وفي هذا إقامة الأدلة المنتجة والداعية إلى الإيمان على إمكان البعث، وأنَّه بالنسبة لله – تعالى – كالنشأة الأولى، وأنَّ الأمرَ كما يقول – تعالى -: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [لقمان: 28].
فكان عيسى – عليه السلام – من هذا الجانب آية على قدرة الله على البعث؛ كما صرَّحتْ بذلك الآية: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50].
فهذا هو عيسى – عليه السلام – بشرٌ كبقيَّة البشر، وكلمة الله ورُوحه؛ كما أنَّ الناس جميعَهم كلماتٌ لله ورُوح منه، ونبي كبقيَّة الأنبياء والرُّسل.
والله الموفِّق.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/28488/#ixzz61fiLwjQ2