الشيخ عائض القرني
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة (المعصوم يضحك)، محمد صلى الله عليه وسلم يضحك، نعيش معه هذا اليوم ضاحكاً، كما عشنا معه أياماً، وهو باكٍ متأثر خاشع لله – عزَّ وجلَّ.
من الذي أضحكه صلى الله عليه وسلم إنه الله الواحد الأحد.
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ [النجم: 43].
وما له لا يضحك صلى الله عليه وسلم ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح.
لقد عشنا معه صلى الله عليه وسلم في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه، وينجرح فؤاده ونعيش معه اليوم وهو يهش للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم.
إن مدرسة التصوف تملي على منسوبيها ألا يضحكوا، يقول أحدهم: ما ضحكت منذ أربعين سنة. لكن الإمام الأعظم، والقائد الأكمل يضحك في مواطن من حياته.
وضحكه صلى الله عليه وسلم له مقاصد، ضحك نافع، يربي بالبسمة، ويدرس بالضحك، ويعلم بالمزحة. فتعالوا نستمع إلى أحاديثه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك:
ضَحِكَتْ لَكَ الأَيَّامُ يَا عَلَمَ الْهُدَى
وَاسْتَبْشَرَتْ بِقُدُومِكَ الأَعْوَامُ
وَتَوَقَّفَ التَّارِيخُ عِنْدَكَ مُذْعِناً
تُمْلِي عَلَيْهِ وَصَحْبُك الأَقْلامُ
اضْحَكْ لأَنَّكَ جِئْتَ بُشْرَى لِلْوَرَى
فِي رَاحَتَيْكَ السِّلْمُ وَالإِسْلامُ
اضْحَكْ فَبَعْثتُكَ الصُّعُودُ وَفَجْرُهَا
مِيلادُ جِيلٍ مَا عَلَيْهِ ظَلامُ
روى أحمد في “المسند” بسند صحيح، والبيهقي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب حماراً له يدعى يعفور، رسنه من ليف، ثم قال: ((اركب يا معاذ))؛ فقلت: سر يا رسول الله؛ فقال: ((اركب))؛ فردفته.
وعليكم أن تستحضروا هذه الصورة؛ من هو الراكب؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرج البشرية من ظلمات الشرك، إلى نور التوحيد، يركب الحمار، ويردف خلفه تلميذاً نجيباً من تلامذته.
قال معاذ: فردفته، فصرع الحمار بنا!
سقط الحمار، وسقط النبي صلى الله عليه وسلم وسقط معاذ رضي الله عنه فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال معاذ: فقام النبي صلى الله عليه وسلم يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً.
قام يضحك، رسالته مليئة بالبسمة، والبشرى، والرحمة لكل إنسان، يفيض على محبيه بشاشة، ويقربهم من السعادة بكل صورها، يقول جرير بن عبد الله: والله ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي.
قال معاذ: فقام النبي صلى الله عليه وسلم يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً، ثم فعل ذلك الثانية، والثالثة، فركب، وسار بنا الحمار، فأخلف يده، فضرب ظهري بسوط معه أو عصا ثم قال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟)) فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)). قال: ثم سار ما شاء الله، ثم أخلف يده، فضرب ظهري، فقال: ((يا معاذ، يا ابن أم معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة))[1].
أيها الناس:
إن هذا الإنسان، الذي حرم على نفسه وأطفاله وأهله البسمة والضحكة، معتذراً بمشاغل الحياة وآلام الدهر، نقول له: إن من كان يحمل هموم البشرية كلها، ويحمل رسالة أبت السماوات والأرض والجبال حملها، محمد – عليه الصلاة والسلام – ومع ذلك كان يضحك.
كان في يوم أحد، والجيوش ملتحمة، والسيوف تتنزل بالرؤوس والجماجم، والرماح تسيل بالدماء، والموت في كل مكان، كان يضحك.
تَمُرُّ بِكَ الأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدَبِ نَثْرَةً
كَمَا نَثَرْتَ فَوْقَ الْعَرُوسِ الدَّرَاهِمُ
ويضحك صلى الله عليه وسلم مرة أخرى؛ روى الترمذي، وأبو داود، بأسانيد صحيحة، عن علي بن ربيعة قال: شهدت عليّاً، وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال:﴿ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ [الزخرف: 13-14]. ثم قال الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل يا أمير المؤمنين، من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت:
يا رسول الله، من أي شيء ضحكت؟ قال: ((إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري))[2].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يضحك، لأن هذه الأمة تعرف ربها، وتتوجه إليه بالدعاء ليغفر ذنوبها، فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم رحمة لهذه الأمة، وفرحاً لأن الله عزَّ وجلَّ يغفر الذنوب لكل من استغفر وتاب.
ويضحك صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في صحيح مسلم، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل مقبل بوجهه إلى النار[3] فيقول: أي رب، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها[4]، وأحرقني ذكاؤها[5]، فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول: الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني غير الذي أعطيتك، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك!
فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك، فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انفهقت[6] له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخلني الجنة فيقول الله – تبارك وتعالى – له: ((أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت، ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: أي رب، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله – تبارك وتعالى – منه، فإذا ضحك الله منه، قال: ادخل الجنة، فإذا دخلها، قال الله له: تمنه، فيسأل ربه ويتمنى حتى أن الله ليذكره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله – تعالى -: ذلك لك ومثله معه.
قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه[7]!!
أيها الناس:
هذه عقيدة ربانية ينبغي الإيمان بها، يضحك الرب – تبارك وتعالى – وإذا ضحك، أذن لهذا العبد في دخول الجنة، وأعطاه مثل أعظم ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أمثاله، وهذا أدنى أهل الجنة منزلة، كما قال الناظم.
أَقَلهُم من ملكا من الدنيا ملك
وعشرة أمثالها بِدون شَكٍّ
لكنما موطنُ سوطٍ فيها
خيرٌ من الدنْيَا وَمَا عَلَيهَا
وإنما ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من طمع العبد، ومن نقضه لميثاقه مع ربه، ومن رحمة أرحم الراحمين.
ويضحك الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، يأتيه حَبْر من أحبار يهود فيقول له: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر، تصديقاً له، ثم قرأ ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [8] [الزمر: 67].
وإنما ضحك عليه الصلاة والسلام لأمور:
منها: أن القرآن صدق ما قاله هذا الحبر من أمور القيامة.
ومنها: أن اليهود يعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ما أخبر به، ثم يكذبون على الله، ويكذبون رسوله – صلى الله عليه وسلم.
ومنها: التعجب من قدرة الباري تبارك وتعالى.
ومنها: أن العبد مهما بلغت عبوديته لله تعالى فإنه لا يستطيع أن يوفي الله عزَّ وجلَّ حقه، وغير ذلك من المعاني.
هذه وقفات، رأينا فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، والضحك في حياته صلى الله عليه وسلم كان له مغزى وهدف، لا كضحك السفهاء الفارغين، الذين يعيشون على هامش الحياة، ولكنه ضحك المعلم الحكيم، الذي يرشد الناس إلى الخير، ولو عن طريق الضحكة والبسمة.
يذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل على أم حرام بنت ملحان[9]، فتطعمه، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي، عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج[10] البحر، ملوكاً على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة – يشك الراوي.
يضحك النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، لأنه رأى البشرى، رأى تلامذته وأتباعه وكتيبته، سيركبون البحار والمحيطات؛ غزاة في سبيل الله، ينشرون لا إله إلا الله في الآفاق، ويعبرون بها حدود الزمان والمكان.
يضحك صلى الله عليه وسلم لأن الإسلام سوف ينتشر ويظهر، وينفذ إلى القفار والصحاري، ويصل إلى عبَّاد البقر والشجر والنار والطوطم والصنم.
فقالت المرأة: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، كما قال في الأولى، قالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين.
فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية[11]، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت[12].
كُنَّا جِبَالاً فِي الْجِبَالِ وَرُبَّمَا
صِرْنَا عَلَى مَوْجِ الْبِحَارِ بِحَارا
فِي مَعَبَدِ الإِفْرِنْجِ كَانَ أَذَانُنَا
قَبْلَ الْكَتَائِبِ يَفْتَحُ الأَمْصَارا
لَنْ تَنْسَ إِفْرِيقْيَا وَلا صَحرَاؤهَا
سَجَدَاتِنَا وَالأَرْضَ تَقْذِفُ نَارَا
ماتت هذه المرأة الصالحة، وهي تجاهد في سبيل الله، فكانت شهيدة ودفنت هناك في أرض غريبة.
عباد الله:
هذه مواطن نعيشها مع إمامنا صلى الله عليه وسلم حتى يعرف الناس، أن من صفحاته عليه الصلاة والسلام صفحة؛ فيها الضحك، وفيها الدعابة، وفيها المزاح، ومسامرة الأهل وملاطفة الناس.
وهذه الصفحة لا بد أن يعرفها الناس، وأن يتكلم عنها العلماء والدعاة، حتى تعرف البشرية، أن في ديننا فسحة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المعلم المعصوم، والهادي الكريم، والرسول العظيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي هذا السياق، وفي هذا الباب، معنا حديث صحيح متصل، أخرجه الإمام البخاري،في باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، من كتاب الرقاق، ذكر مجاهد أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل.
ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل. ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي.
عرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمل سرّاً من الأسرار، عرف أن له حاجة، فتهلل في وجهه متبسماً.
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً ♦♦♦ كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الذَّيِ أَنْتَ سَائِلُهُ
فقال: ((يا أبا هر))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، ومضى، فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الحق أهل الصفة فادعهم لي)). قال: – أي أبو هريرة – وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل، ولا مال، ولا على أحدٍ، إذا أتته صدقة، بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذ أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أن أصيب من هذه اللبن شربة، أتقوى بها، ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم))، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح، فأعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح، فأعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلم، فأخذ القدح، فوضعه على يده، فنظر إليَّ فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب))، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا الذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة[13].
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتبسم، لأنه يعلم ما يدور في نفس أبي هريرة، لقد تعرض لأبي بكر وعمر من أجل أن يشبع فما شبع، ثم تعرض للرسول صلى الله عليه وسلم فأدخله البيت، ورأى اللبن وقلته، ثم هو يأمره بأن ينادي أهل الصفة، فتتداعى كل هذه المعاني، أمام عينه صلى الله عليه وسلم فيتبسم، ولكنه يريد أن يعلم أبا هريرة، ويعلم الأمة من ورائه مبدأ الإيثار، وتفقد الآخرين، والسؤال عن المساكين، فكان ضحكه ومداعبته، سلوى للمحرومين، وتسلية للمظلومين، وتصبيراً للمعدمين.
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُم ♦♦♦ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
إن قوماً عاشوا معه، رأوا ابتسامته، وتحيته، ويسره، وسهولته، فتمنوا أن يفقدوا الآباء والأمهات والأبناء والأنفس، ولا يشاك هو صلى الله عليه وسلم بشوكة.
إن جيلاً رباه المصطفى صلى الله عليه وسلم على هذه المعالم، وهذه التعاليم، لجدير بأن يفتح المعمورة، وتدين له الدنيا كلها.
وإذا قارنا بين هذه الصور المشرقة، وبين صور طغاة الأرض، فترى الواحد منهم عليه من الكبر والجبروت والظلمة، ما يجعله بغيضاً إلى النفوس، حتى أن الأجنة في البطون لتلعنهم.
ترى أحدهم ودماء الأجيال تتقاطر من يديه، لا يتكلم معه أحد إلا رمزاً، الجماجم تتناثر عن يمينه وشماله، البشر عنده في مسلخ العبيد، يتعامل مع الأجيال، كما يتعامل مع البهائم، قوائم من طغاة البشر، يقتلون ويذبحون على مر التاريخ.
لقد رأينا ورأيتم كثيرا من هؤلاء الطغاة الفجرة، وقد قيل عنهم: إنه ما رئي أحدهم متبسماً قط، فهؤلاء نحاكمهم إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، ونأتي بهم ونوقفهم أمام التاريخ، تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم ونسألهم أن يتقوا الله عزَّ وجلَّ في أنفسهم، وفي رعاياهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم يضحك.
أيها الناس:
صلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك عليه، ما تغاير الليل والنهار، وما فاحت الأزهار وما تدفقت الأنهار، وما لعلعت على الغصون الأطيار، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه أحمد في المسند (5/ 238) وقوله: أتدري ما حق الله على العباد.. إلخ، متفق عليه، أخرجه البخاري (8/ 164)، ومسلم (1/ 58)، حديث رقم (30).
[2] أخرجه أبو داود (3/ 34)، حديث رقم (2602)، والترمذي (5/ 467)، حديث رقم (3446) وقال: حديث حسن صحيح.
[3] هذا الرجل من أهل التوحيد، إلا أن له ذنوباً استوجبت تعذيبه ما شاء الله، ثم يدخل الجنة.
[4] قشبني ريحها: أي أهلكني وأذاني.
[5] ذكاؤها: لهبها وشدة اشتعالها.
[6] انفهقت: انفتحت واتسعت.
[7] أخرجه البخاري (8/ 179-181)، ومسلم (1/ 163-167)، حديث رقم (182)، (1/ 173)، حديث رقم (186).
[8] أخرجه البخاري (8/ 202)، ومسلم (4/ 2147، 2148)، حديث رقم (2786).
[9] اتفق العلماء على أنها كانت محرماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[10] ثبخ البحر: ظهره ووسطه.
[11] قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار: إن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وفيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرص، فصرعت عن دابتها هناك، فتوفيت ودفنت هناك، وعلى هذا يكون قوله: في زمن معاوية، في زمن غزوة البحر، لا في زمن خلافته.
[12] أخرجه البخاري (7/ 140، 141)، ومسلم (3/ 1518، 1519)، حديث رقم (1912).
[13] أخرجه البخاري (7/ 179، 180).
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/1073/#ixzz61nYiflwZ