إن إبراهيم كان أمة (طريق الدعاة)
الصفات التي اتصف بها الخليل إبراهيم – عليه الصلاة والسلام –
مع أهله وأسرته
من الصفات التي اتَّصف بها الخليل إبراهيم – عليه السلام – مع أهل بيته: حرصُه الدائم على أن يَسلك أهلُه مسلكَه في طاعته لله – عز وجل.
ويظهر ذلك في آيات كثيرة في القرآن الكريم، ومنها:
• وصيَّته لبَنِيه أن يتمسَّكوا بالإسلام؛ قال تعالى:
﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132].
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: “أي: أحسِنوا في هذه الحياة، والزَموا هذا؛ ليَرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المؤمن يموت غالبًا على ما كان عليه، وقد أجرى الله عادته بأن من قصَد الخير، وُفِّق له ويُسِّر عليه، ومن نوى صالحًا، ثبَت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح: ((إن الرجل لَيَعملُ بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراعٌ، فيَسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن الرجل لَيَعملُ بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باعٌ أو ذراع، فيَسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها))؛ لأنه قد جاء في بعض الروايات لهذا الحديث: ((لَيَعملُ بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس))، وقد قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 – 10]”.
وهكذا ظهر في هذه الآية حرصُه على بَنيه أن يتمسَّكوا بالإسلام، ويشكروا هذه النعمةَ العظيمة.
• دعوتُه لأبيه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ قال تعالى:
﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 41 – 45].
يقول صاحب الظلال:
بهذا اللطف في الخطاب يتوجَّه إبراهيمُ إلى أبيه يحاول أن يَهديه إلى الخير الذى هداه الله إيَّاه وهداه إليه، وهو يتحبَّب إليه ويخاطبه: “يا أبتِ”، ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحبِّ الألفاظ وأرقِّها، لا تصل إلى القلب المُشرك الجاسي، فإذا أبو إبراهيمَ يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46].
ولكن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – لم يَغضب، ولم يَفقد برَّه وعطفه وأدبه مع أبيه؛ ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [مريم: 47].
وما زال يستغفر له، حتى قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].
هكذا يجب على كلِّ مسلم أن يدعوَ أهله وأُسرته إلى طاعة الله – عز وجل – وهكذا وصَّى اللهُ في قرآنه والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في سُنته، أن يطلب الإنسان الهداية لنفسه ولأهل بيته؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
يقول صاحب الظلال:
“هذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق: شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله، وفي أوَّلهم الذريةُ والأزواج؛ فهم أقرب الناس تَبِعَةً، وهم أول أمانة يُسأل عنها الرجال”.
قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صَباحة ولا جمالاً، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين.
وسُئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال:
أن يُري الله العبدَ المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعةَ الله، لا والله لا شيء أقرَّ لعين المسلم من أن يرى والدًا، أو ولدًا، أو أخًا، أو حميمًا مطيعًا لله – عز وجل.
وقال أسلم: يسألون الله تعالى لأزواجهم وذريَّاتهم أن يَهديهم للإسلام.
وعلى هذا حثَّنَا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – على حُسن التربية والرعاية والتعهُّد من ولي الأمر لأُسرته ولأهل بيته.
فقد ذكر الإمام النووي – رحمه الله – في كتابه القيِّم “رياض الصالحين” بابًا من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في وجوب أمره أهلَه وأولاده المميزين، وسائرَ مَن في رعيَّته بطاعة الله، ونَهيهم عن المخالفة، وتأديبهم ومنْعهم من ارتكاب منهيٍّ عنه، وبدأ الباب بقوله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6].
وذكَر مجموعة من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنها:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: أخذ الحسن بن علي تمرةً من تَمر الصدقة، فجعلها في فِيه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كِخْ، كِخْ، ارمِ بها؛ أمَا علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟))؛ متفق عليه، وفي رواية: ((أنَّا لا تَحِل لنا الصدقة)).
وفي حديث آخر:
عن أبي حفص عمر بن أبي سلَمة عبدالله بن عبدالأسد، ربيب رسول الله – صلى لله عليه وسلم – قال: كنتُ غلامًا في حَجْرِ النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانت يدي تَطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك))، فما زالت تلك طِعمتي بعدُ؛ متفق عليه.
وفي حديث آخر:
عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمِعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيَّته: الإمامُ راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيَّته، والمرأةُ راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادمُ راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته))؛ متفق عليه.
وفي حديث آخر:
عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده – رضي الله عنهم – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضْرِبوهم عليها وهم أبناء عشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع))؛ حديث حسن.
ومن الصفات التي اتصف بها الخليل مع أهله أيضًا؛ التربية على الاستجابة لله ولرسوله:
وهذا ما أشارت إليه آيات القرآن في قصة الذبيح إسماعيل – عليه الصلاة والسلام – قال تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 100- 106].
ومع ذلك فقد أسلما في ثقة وطُمَأنينة ورضًا وتسليمٍ وتنفيذ، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعرَ التي لا يصنعها إلا الإيمانُ العظيم، وهذه هي نتيجة التربية على طاعة الله – عز وجل – وهذا هو أثرها: التسليم لله في كلِّ وقت من الأوقات، وليست هذه الطاعة من الابن فقط، ولكن انظُرْ إلى الأم كيف تربَّت على طاعة الله – عز وجل – قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].
وقد روى الإمام البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: أول ما اتَّخذ النساء المِنْطَق من قِبَلِ أم اسماعيل، اتَّخذت مِنْطقًا؛ لتُعفِّي أثرها على سارةَ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي تُرضعه، حتى وضعهما عند البيت، عند دَوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسِقاء فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا، فتَبِعتْه أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركُنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرَك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعنا، ثم رجَعت، فانطَلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يَرونه، استقبل بوجهه البيتَ ثم دعا بهذه الدعوات، فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ [إبراهيم: 37].
وهكذا ربَّى إبراهيم أهلَه على الحب والطاعة لله – عز وجل – وهذه هي الصفات التي اتَّصف بها إبراهيم في بيته ومع أهله: الدعوة إلى الله بالحب والرحمة والعطف، فكان – صلى الله عليه وسلم – أُمَّة، وكان بيته قدوةً لكل البيوت، فاللهمَّ أصلِح بيوتنا على الإيمان والطاعة لك.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/46468/#ixzz65LUIorrA