الدين والتدين (1)
د. محمد حسين الذهبي
مفهوم الدين:
لفظ الدين يطلق في اللغة العربية على معان متعددة: فيطلق تارة ويراد منه الجزاء، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4] أي يوم الجزاء، وهو يوم القيامة. ويطلق تارة ثانية ويراد منه الحكم والسلطان، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 76] أي في حكمه وسلطانه. ويطلق ثالثة ويراد منه العادة والشأن، ومنه قول الشاعر:
تقول وقد درأت لها وضيني… أهذا دينه أبدا وديني؟
أي شأنه وشأني.
ويطلق رابعة ويراد منه الطاعة والانقياد، يقال: دان له دينا وديانة: أي خضع، وذل، وأطاع.
ويطلق خامسة ويراد منه ما يتدين به الإنسان، يقال: دان بكذا، أي اتخذه دينا وتعبد به [1].
وكلامنا في هذا البحث عن الدين بالمعنى الأخير، وهو ما يتدين به الإنسان، ولا شك أنه بهذا المعنى يدخل في مفهومه المعنى الذي قبله مباشرة، وهو الخضوع والذل والطاعة؛ لأن من دان بدين يخضع لتعاليمه، وينقاد لها، ولا يحيد عنها، كما أنه ليس بعيدًا عن سائر المعاني الأخرى؛ لأنها كلها تدور حول معنى واحد، هو الانقياد والخضوع لسلطان معين.
أما الدين في نظر علماء الأديان، فقد عرفه بعضهم بأنه: ” وضع إلهي سائق لذوي العقول – باختيارهم إياه – إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال ” [2].
ومعنى هذا، أن لفظ الدين عند هؤلاء، لا يتناول إلا الأديان السماوية: كاليهودية والمسيحية والإسلام، أما غيرها من الأديان التي اصطلح عليها بعض الناس دون أن يكون لها صلة بالسماء، فليست دينا في نظرهم.
ويرى فريق آخر من العلماء: أن الدين هو ” عبارة عن الإيمان والعبادة مهما كانا، فإيمان الوثنيين دين. أو هو عبارة عن الإيمان بقوة أو قوات سائدة تحكم الأرض، وعن عبادة تلك القوة أو القوات، فيقال: دين حق، ودين باطل ” [3].
ومعنى هذا: أن الدين عند هؤلاء يشمل الأديان السماوية وغيرها من الأديان التي هي من صنع البشر، ولا تمت إلى الله بسبب، وقد يشهد لهذا، أن الله سمى الديانات غير الحقة دينا فقال: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾ [آل عمران: 85]، وقال: فيما أمر به نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله لكفار قريش: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين ﴾ [الكافرون: 6]. والواقع أنه لا خلاف بين الفريقين: فالفريق الأول نظر نظرة خاصة، والفريق الثاني نظر نظرة عامة، ونحن في بحثنا عن الدين والتدين كظاهرة اجتماعية لا نقصد المعنى الخاص، لا موسعًا بحيث يشمل الأديان السماوية كلها، ولا مضيقًا بحيث يقتصر على الإسلام وحده، وإنما نقصد المعنى العام الذي يشمل الأديان كلها: سماويها وأرضيها.
مفهوم التدين:
أما التدين، فهو التمسك بعقيدة معينة، يلتزمها الإنسان في سلوكه، فلا يؤمن إلا بها، ولا يخضع إلا لها، ولا يأخذ إلا بتعاليمها، ولا يحيد عن سننها وهديها. ويتفاوت الناس في ذلك قوةً وضعفًا، حتى إذا ما بلغ الضعف غايته، عُدَّ ذلك خروجًا عن الدين وتمردًا عليه.
الدين والتدين كظاهرة اجتماعية:
وظاهرة الدين والتدين، وجدت في المجتمعات الإنسانية من أول وجود الإنسان، وبقيت إلى يومنا هذا، وستبقى بعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإذا أردنا أن نعرف كيف بدأت هذه الظاهرة؟ وكيف تطورت؟ وإلى أي وضع انتهت؟ فلست أجد خيرًا – في هذا الباب – من كلمة أنقلها عن رسالة التوحيد، للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، لتنير أمامنا الطريق لمعرفة هذا كله، ولتكون ركيزة نعتمد عليها في تجلية هذا الموضوع وتوضيحه.
قال -رحمه الله-: ” كل إنسان – مهما علا فكره وقوي عقله، أو ضعفت فطنته وانحطت فطرته – يجد من نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته وقوة من أنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تصرفه وتصرف ما هو فيه من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرق إليها إرادة المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة، ومن عقلها أخرى، ولا سبيل لها إلا الطريق التي حددت لنوعها، وهي طريق النظر، فذهب كل في طلبها وراء رائد الفكر: فمنهم من تأولها ببعض الحيوانات، لكثرة نفعها، أو شدة ضررها، ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب لظهور أثرها، ومنهم من حجبته الأشجار والأحجار لاعتبارات له فيها، ومنهم من تبدت له آثار قوى مختلفة في أنواع متفرقة تتماثل في أفراد كل نوع، وتتخالف بتخالف الأنواع، فجعل لكل نوع إلها “.
” ولكن كلما رق الوجدان، ولطفت الأذهان، ونفذت البصائر، ارتفع الفكر وجلت النتائج، فوصل من بلغ به علمه المنازل من ذلك إلى معرفة هذه القدرة الباهرة، واهتدى إلى أنها قدرة واجب الوجود، غير أن من أسرار الجبروت ما غمض عليه فلم يسلم من الخبط فيه، ثم لم يكن له من الميزة الفائقة في قومه ما يحملهم على الاهتداء بهديه، فبقي الخلاف ذائعًا، والرشد ضائعًا “.
” اتفق الناس في الإذعان لما فاق قدرهم، وعلا متناول استطاعتهم، لكنهم اختلفوا في فهم ما تلجئهم الفطرة إلى الإذعان له اختلافًا كان أشد أثرًا في التقاطع بينهم، وإثارة أعاصير الشقاق فيهم، مع اختلافهم في فهم النافع والضار لغلبة الشهوات عليهم “.
“إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح من تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل – مثلا – من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف به على نحو ما سبق، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه – مع ذلك الشعور – عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده “.
” أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم هو كذلك، لولا ما آتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه “.
” الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلا مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويسامي بقوته ما يعظم أن يسامي من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى عرض له أمر ما لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه، ذلك لسر عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين “.
” من ذلك الضعف قِيد إلى هداه، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته.. فأقام [الله] [4] له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك – زيادة في الإقناع – بآيات باهرات، تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل، فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه، يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة عن الأذهان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون”[5].
معنى هذا باختصار:
أولًا: أن ظاهرة الدين والتدين ظاهرة عامة تشترك فيها كل الجماعات البشرية على مدى تاريخها الطويل، وعلى اختلاف ما بينها من بداوة وحضارة، وتخلف وارتقاء.
ثانيًا: أن مبعث هذه الظاهرة، إحساس كل فرد في جماعة بأن هناك قدرة أو قُدرًا تتصرف فيه وفيما حوله تصرفًا يلفت النظر ويبهر العقل، فيستشعر من نفسه ميلا قويًا لمعرفة مصدر هذه القدرة التي لها عليه وعلى غيره هذا الأثر العجيب.
ثالثًا: أن العقول حينما تبحث عن الحقيقة دون أن يكون لها مدد من السماء، لا يمكن أن تتفق على شيء واحد تؤمن به وتخضع له، وإنما تتشعب بها السبل، فإذا هي مختلفة في ذلك اختلافًا كبيرًا: هناك عقول مشت على فطرتها فوصلت إلى معرفة الله، وهناك عقول مشت على غير فطرتها فنظرت نظرة ساذجة إلى ما حولها من مصادر القوة والتأثير فيها أو فيما يحيط بها، فإذا بجماعة تعبد الشمس وأخرى تعبد القمر، وثالثة تعبد النار، ورابعة تعبد الشجر، وخامسة تعبد البقر.. وغير هؤلاء كثيرون يعبدون آلهة شتى، وكلها مخلوقات لله، لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا.
رابعًا: أن هذه العقول التي وصلت بفطرتها إلى الحقيقة الحقة وهي الله، لا تستطيع – مهما سمت وارتقت – أن تستقل استقلالًا تامًا بمعرفة كل ما يتصل بالله، وما غيبه عنها من عالم الآخرة التي نوقن أنه نهاية المطاف بعد هذه الحياة الدنيا، كما أنها لا تستقل بمعرفة الخير والشر، وما يجب أن يلتزم به الإنسان في حياته الدنيا: من عبادات، ومعاملات، وأخلاق، حتى لا يضل ولا يشقى.
خامسًا: لما تقدم، اقتضت حكمة الله -تعالى- ورحمته بعباده، أن يرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين، يدعونهم إلى الدين الحق، وإلى الطريق المستقيم.
هؤلاء الرسل بالنسبة لأممهم – كما يقول الأستاذ الإمام – بمنزلة العقول من الأشخاص [6]، وأزيد على هذا فأقول: إنها العقول الهادية التي لا تضل، والواعية التي لا تغفل، لأنها عقول أعدها الله وهيأها لتخليص البشرية من أباطيلها وأوهامها، وإنقاذها من شرورها وآثامها، وهدايتها إلى ما فيه خيرها وسعادتها.
ولكن على أية صورة بدأت العقيدة الدينية؟ هل بدأت ساذجة فكانت خرافة ووثنية؟ أو بدأت واعية مدركة للحقيقة الإلهية؟
لقد افترق الباحثون في تاريخ الأديان في ذلك إلى فريقين:
♦ فريق منهم ” يذهب إلى أن الدين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعته.
هذه النظرية نادى بها أنصار مذهب (التطور التقدمي أو التصاعدي) الذي ساد في أوربا في القرن التاسع عشر في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عدد من العلماء [7] “.
♦ وفريق آخر ” يقرر بالطرق العلمية بطلان هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشر، مستدلا بأنها لم تنفك عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، فتكون الوثنيات إن هي إلا أعراض طارئة، أو أمراض متطفلة بجانب هذه العقيدة العالمية الخالدة.
وهذه هي نظرية (فطرية التوحيد وأصالته) التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإنسان، وعلم النفس [8] “.
ولا نريد أن نطيل بذكر مناقشة هذا المذهب أو ذاك، فقد تولى هذه المناقشة أستاذنا الفاضل المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه “الدين” (ص103 – 108) بأسلوب شيق ومنطق بارع. وكلمة الفصل في هذا الموضوع هي قوله في نهاية المطاف:
” هكذا عجزت وسائل العلوم أن تقدم لنا بيانًا شافيًا يطمئن إليه القلب عن ديانة الإنسان الأول. أما من أحب أن يسترشد بنصوص الكتب السماوية، فإنه سوف يجد فيها ما يشد أزر القائلين بأولية العقيدة الإلهية الصحيحة، لا في الغريزة فحسب ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30] بل في التطور الزماني كذلك، فهذه النصوص تنادي بأن الناس بدأوا حياتهم مستقيمين على الحق، مؤتلفين عليه، وأن الانحراف والاختلاف إنما جاء عرضًا طارئًا بعد ذلك ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾ [يونس: 19]، وأن استمرار هذا الاختلاف واتساع شقته إنما كان بتأثير الوراثة، وتلقين كل جيل عقيدته للناشئين فيه « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » [9] إلى ذلك كله فإن الكتب السماوية متفقة على أن الجماعة الإنسانية الأولى لم تترك وشأنها، تستلهم غرائزها وحدها بغير مرشد ومذكر، بل تعهدتها السماء بنور الوحي من أول يوم، فكان أبو البشر هو أول الأفذاذ الملهمين، وأول المؤمنين الموحدين، وأول المتضرعين الأوابين [10].
وإذا كانت النتيجة هي أن الديانات السماوية هي الأصل، وأن لها السبق في الوجود الديني، وأن ما اعتراها من شوب أو خلل وما زاحمها من ديانات وضعية باطلة، إنما هو محض شذوذ وانحراف صدر عن فئات ضالة مضلة.. إذا كانت النتيجة هي هذا، فلنا أن نتساءل:
هل بدأت هذه الديانات السماوية واستمرت تتنزل ديانة إثر ديانة على نمط واحد، ثم انتهت وهي على هذا النمط دون تغير ولا تطور؟
أو أنها بدأت على نمط خاص، ثم تطورت إلى أنماط مختلفة، ثم انتهت بنمط آخر هو نسيج وحده؟
الواقع أن الأديان السماوية كلها جاءت متفقة ومختلفة: متفقة في أصولها، مختلفة في فروعها، كلها يتفق على الجوهر والحقيقة.. على أصول العقيدة، وأصول الشريعة: فهي جميعًا تدعو إلى الإيمان بالله وحده، والإيمان بكل ما جاء عنه، والأخذ بكل ما يصل بالإنسان إلى الخير ويباعد بينه وبين الشر.
والقرآن الكريم يصرح بوحدة الديانات السماوية كلها في الأصل والجوهر، فيقول: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
أما فروع الشرائع وتفاصيلها، وصورها وطقوسها، فتختلف فيها الديانات السماوية اختلافًا ظاهرًا؛ فمثلا فريضة الصلاة، جاءت بها كل الشرائع السماوية، ولكنها تختلف صورها من شريعة إلى شريعة: فهي في الشريعة الإسلامية قيام، وقراءة، وركوع، وسجود على كيفية معروفة، وفي الشريعة المسيحية ترانيم وتراتيل تتلى على هيئة خاصة.
ومثلا فريضة الصيام: جاءت بها كل الشرائع السماوية، كما يصرح بذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ﴾ [البقرة: 183]، ولكنها تختلف صورتها من شريعة إلى شريعة، فالصوم في الشريعة الإسلامية: إمساك عن الطعام والشراب والنساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي الشريعة المسيحية: إمساك عن أكل كل ذي روح من الحيوان وما يتولد منه في وقت معين.
وهكذا تختلف الشرائع السماوية في أمور كثيرة كلها فرعية غير أصلية وذلك في الحقيقة – كما أوضحناه – اختلاف في الأسلوب والمنهج لا في الجوهر والهدف، وقد جاء ذلك صريحًا في قوله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].
أما لماذا اتحدت الشرائع السماوية في أصولها واختلفت في فروعها؟ فذلك لأن الأصول ثابتة لا تتغير بحال من الأحوال، فالله – سبحانه – هو الله بذاته وصفاته لا يتغير ولا يتحول أبدا، والرسل – في كل أمة – هم الرسل بما يجب لهم وما يجوز في حقهم، والكتب المنزلة – على مدى تاريخ الرسالات – هي الكتب المنزلة بما لها من قداسة وتعظيم، وكل ما جاء عن الله حق ثابت، وصدق لا ينقض، وأصول الأخلاق، والعبادات، والمعاملات، أدب متبع وطاعة ملتزمة، ولا يحيد عن ذلك إلا ضال هالك.
أما الفروع: فهي التي يعتريها التغيير والتبديل، ويتناولها التعديل والتطوير، لأنها ليست أكثر من تطبيق للأصول في صور شتى، ولا بد لهذه الصور أن تختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلفين واستعدادهم، وما يحيط بهم من عوامل وظروف كثيرًا ما يكون لها دخل في التكاليف: فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم طبيعة قوم آخرين.
وإذا نحن تتبعنا الأطوار التي مرت بها البشرية في مراحلها المختلفة، نجد أنها أشبه ما تكون بالأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته، فهو يبدأ بمرحلة الطفولة، ثم يتدرج في مراحل أخرى، ينمو فيها جسمه وعقله حتى يصل إلى مرحلة الرجولة الكاملة والنضج التام.
والبشرية في أول مراحلها بدأت كالطفل: فيها ما فيه من الضعف وعدم الاحتمال، فكان لا بد لها في هذه المرحلة من غذاء روحي يتناسب مع طبيعتها وقدرتها على تقبل هذا الغذاء وهضمه، ثم هي بعد ذلك تمر – متدرجة في مراتب الكمال – بمراحل متتابعة، كل مرحلة تزيد فيها عن سابقتها نموًا وقدرة وتقبلا، وهي في كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى نوع من الغذاء الروحي يتناسب مع ما هي عليه من درجة النمو والقدرة والتقبل… وأخيرًا تبلغ البشرية تمام نضجها وغاية رشدها فتحتاج في هذه المرحلة الأخيرة إلى غذاء روحي يلائمها كمًّا ونضجًا.
هذا الغذاء الروحي الذي أمد الله به البشرية في أطوارها ومراحلها المختلفة هو الدين، وحملة هذا الدين إلى البشرية هم الأنبياء والمرسلون، ومجموعة هذه الرسل – كما صورهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حديث له – بناة بيت واحد يؤسس سابقهم للاحقهم، ويشيد لاحقهم على أساس سابقهم”[11]. صورهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا في حديث له فقال: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟!. قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» [12].
ومعنى هذا: أن الديانات السماوية تكون في مجموعها صرحًا واحدًا، اشترك الأنبياء جميعًا في بنائه، فما من نبي بعث إلا وقد وضع فيه لبنة، حتى إذا شارف البنيان النهاية ولم يبق منه إلا موضع لبنة بها يتم صلاحه ويكمل حسنه، بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم مبشرًا بالإسلام وداعيًا له، فكان -عليه الصلاة والسلام – بما جاء به من الدين الإسلامي – اللبنة المتممة للبناء، المكملة لحسنه وجماله، وبه أتم الله صرح الديانات التي تعاقبت جيلا بعد جيل.
وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بدين أعلى ما يكون هداية وإرشادًا، وأسمى ما يكون تشريعًا وتبصيرًا، وختم الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الرسالات، وجعلها للناس كافة ولم تكن لقومه خاصة.
ولكن لم كانت رسالة محمد هي خاتم الرسالات؟ ولم كانت للناس كافة ولم تكن لقومه خاصة؟
نجيب على ذلك فنقول: أما لم كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسالات؟
فذلك أمر بدهي وطبعي، فما دمنا قد عرفنا أن الإسلام قد بلغ الغاية في هدايته وتشريعه، ضرورة أنه جاء لإسعاد البشرية في أرقى مراحلها وأوج كمالها، فأي شيء يرجى للبشرية بعد ذلك؟. أي شئ يرجى لها بعد الكمال الذي لا كمال بعده؟… لا شيء إلا أن تمشي البشرية معتصمة به إلى نهايتها إذ ليس بعد الكمال غاية، ولا بعد بلوغ المنتهى نهاية، والله تعالى يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وفي تقرير أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين يقول الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين ﴾ [الأحزاب: 40]. ويقول -عليه الصلاة والسلام-: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي» [13].
وأما لم كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، بل وللإنس والجن جميعًا؟
فذلك لعدة أمور:
أولا: أن الإسلام جاء دينًا وسطًا بين غيره من الأديان السماوية، فيه من كل دين أيسره وأحسنه، وأكثره ملائمة وتمشيًا مع الطبائع المختلفة لبني الإنسان، فمثلا عقوبة القتل العمد في الشريعة اليهودية القصاص ولا بد، وفي الشريعة المسيحية العفو، وأكاد أقول ولا بد، فجاءت شريعة الإسلام تخير ولي الدم بين القصاص والعفو، وكان هذا أمرًا وسطًا، يتمشى مع الطبائع المختلفة: فمن طبائع الناس طبائع لا يشفي غلها إلا القصاص، ومنها طبائع هينة لينة، تميل إلى التسامح وتأخذ بالعفو، وفي شريعة الإسلام ما يساير طبيعة هؤلاء وأولئك.
ومثلا: الزواج، أطلقته الشريعة اليهودية، ولم تقيده التوراة بعدد معين من النساء، وقصرته الشريعة المسيحية على امرأة واحدة، لأن الأصل فيها هو التبتل، فإذا كان ولا بد فزوجة واحدة تكفي. أما الشريعة الإسلامية، فقد جاءت بتشريع وسط بين هذا وذاك، تشريع يرضي رغبة من يريد التعدد، ولكن بحدود وقيود، فأباحت له أن يجمع بين أربع زوجات ولا يزيد، بشرط أن يعدل بينهن ولا يجور، وقصرت من لا يأمن على نفسه الجور على زوجة واحدة فقط.
ولقد يشهد لوسطية الإسلام في تشريعه قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، وقوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس ﴾ [آل عمران: 10]، مع ما استقر في العقول من أن خير الأمور أوسطها.
ثانيًا: أن البشرية – كما قلنا – قد بلغت رشدها فأصبحت تقاد بالعقل وحده، ولم يعد ينفع معها مجرد الخوارق والقوارع الملجئة أو شبه الملجئة، فجاء الإسلام دينًا منطقيًّا، رفع من قيمة العقل، وأعطى للإنسان الحرية التامة في التأمل والتدبر في كل ما يكلف به، فلا يؤمن بعقيدة يدعى إليها إلا بعد تروٍ واقتناع، ولا يتبع تشريعًا يشرع له إلا بعد نظر يهديه إلى سلامة التشريع واستناده إلى المنطق السليم والدليل القويم، ثم هو بعد ذلك يذم التقليد وينعي على المقلدين لآبائهم وأحبارهم ورهبانهم، فيقول عز من قائل: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170]، ويقول عن بعض أهل الكتاب: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه ﴾ [التوبة: 31] ولا يعني باتخاذهم أربابًا إلا طاعتهم طاعة عمياء والتسليم لهم في كل ما يأمرونهم به ويوجهونهم إليه، فكأنهم – في نظرهم – آلهة تأمر فتطاع، لأنها تصيب دائمًا ولا تخطئ.
وليس من شك في أن دينًا هذا شأنه وذلك منهجه، يصلح لكل جيل وقبيل من لدن نزوله وإلى أن تقوم الساعة.
ثالثا: أن الدين الإسلامي دين واسع الأفق، وفيه من المرونة واليسر ما يجعله صالحًا لكل الجامعات الإنسانية على اختلاف ألوانها، وأجناسها وبيئتها، وظروفها ” فهو يتسع للحرية الفكرية العاقلة، ولا يقف – فيما وراء عقائده الأصلية وأصول تشريعه – على لون واحد من التفكير، أو منهج واحد من التشريع، وهو بتلك الحرية يساير جميع أنواع الثقافات الصحيحة، والحضارات النافعة، التي يتفتق عنها العقل البشري في صلاح البشرية وتقدمها مهما ارتقى العقل ونمت الحياة ” [14].
وعلى الجملة فالإسلام – كما يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة -: ” دين العقل، فما من أمر جاء به إلا كان موافقًا للعقل يدركه ويصدقه.. سئل أعرابي: لماذا آمنت بمحمد؟ فقال: ما رأيت محمدًا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول: لا تفعل، وما رأيت محمدًا يقول في أمر: لا تفعل، والعقل يقول: افعل… وإن النظم التي سنها الإسلام لا تزال برونقها وصفائها أعدل من كل ما اهتدى إليه العقل البشري من نظم، سواء أكان ذلك في نظام الحكم، أم في نظام المال، أم في نظام الأسرة… فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يصلح لحكم الإنسانية، وفيه علاج أدوائها” [15].
ومما يشهد للدين الإسلامي بأنه دين عام للثقلين جميعًا قوله تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 152]، وقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقوله على لسان نبيه: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ ﴾ [الأنعام: 19].
هذا، ولا ينبغي أن يفهم بحال من الأحوال، أن قولنا عن الإسلام: إنه أرقى الأديان السماوية وأسماها، وأكملها وأوفاها، وأن تشريعاته وتوجيهاته قد بلغت القمة التي لم تبلغها شريعة من قبل، فيه انتقاص لغيره من الشرائع السماوية، معاذ الله أن يكون ذلك قصدنا، فليس مؤمنًا ولا مسلمًا من ينتقص شريعة سماوية أنزلها الله على رسول من رسله، الله تعالى: يخاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]، ويقول مثنيًا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى من اتبعه من المؤمنين: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
والذي يجب أن يفهم: هو أن كل شريعة من الشرائع السماوية تعتبر في وقتها – بالنسبة لأتباعها – في منتهى الكمال؛ لأنه لا يصدر عن الله تعالى إلا الكمال المطلق، ولأن كل شريعة – كما قلنا – جاءت مطابقة لحاجات المخاطبين بها، ولو أنها انحطت عن مستواها، لعد ذلك قصورا فيها، لأنها تكون دون الحاجة، كما أنها لو ارتفعت إلى مستوى شريعة تجيء بعدها لعد ذلك مجافيًا للحكمة والصواب، لأنها تكون فوق الحاجة، والحكمة كل الحكمة هو الملاءمة بين احتياجات كل أمة وما يشرع لها، كما يلائم الطبيب الماهر بين علة المريض وما يصف له من دواء.
المصدر:
مجلة البحوث الإسلامية – العدد الأول رجب 1395هـ
[1]انظر مادة (دين) في القاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
[2]دائرة المعارف للبستاني مادة (دين).
[3]المرجع السابق.
[4] زدنا على النص لفظ الجلالة ليستقيم الكلام بعد حذف بعض عبارات رأينا إمكان الاستغناء عنها.
[5] رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص 80 – 83.
[6] رسالة التوحيد ص 91.
[7] الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 102.
[8] المرجع السابق.
[9] صحيح البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين جـ3 ص 491.
[10] الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 108.
[11] الإسلام عقيدة وشريعة للمرحوم الأستاذ الشيخ محمود شلتوت ص 37.
[12] رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
[13] رواه الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه.
[14] الإسلام عقيدة وشريعة ص 11 مع تصرف يسير في عبارة الأصل.
[15] المجتمع الإنساني في ظل الإسلام للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/135993/#ixzz64Nw8jOVA