إن ما قام به المسيحيون من هدم متعمد لمختلف المجالات ، والذي تزايد بإصرار أكمه منذ القرن الرابع قد ترك آثارا سلبية ومضلّلة ، لا تزال أصداؤها تتردد وتنعكس على إمكانية الوصول إلى الحقائق التي تم نسجها والتعتيم عليها ، ومن أهم هذه الوثائق التي تمت إبادتها كل ما يمكنه إثبات عمليات التحريف والتبديل التي تمت لاختلاق هذه المسيحية ، التي لا يعرف عنها السيد المسيح شيئا، إضافة إلى غيرها من مجالات الفكر والفلسفة والعلوم والآداب..
ففي عام 448 م قام كل من الإمبراطور تيودوز الثاني في شرق الإمبراطورية الرومانية ، وفالنتينيان الثالث في غربها بإصدار مرسوم يطالب بحرق كل ما كتبه الفيلسوف بورفير (234 – 305 ) أو أي شخص آخر ضد عبادة المسيحيين المقدسة ، لعدم رغبتهما فى أن تؤدى مثل هذه الأعمال إلى غضب الرب أو أن تضير مسامع البشر إذا ما وصلت إليهم ! وارد في :
( Codex Théodosianus, XVI,6,66 ; Codex Justinianus I,1,3 )
وكان قد سبقهما أباطرة آخرون باستبعاد بعض الكتب التي لم تروقهم ، أو تلك التي كان يمكنها كشف ما يقومون به من تحريف وتبديل للنصوص ، إلا أن هدم أعمال بورفير كان يمثل ” جريمة ضد الإنسانية ” على حد تعبير أندريه بيجانيول ، وبذلك بدأ ترسيخ القواعد الإجرامية التي حرمت الإنسانية من أعمال معظم المؤلفين القدامى ، وذلك بحرق الكتب والمخطوطات التي كانت تمثل خطرا على المؤسسة الكنسية ، وعلى ما كانت تنسجه عبر المجامع وتفرضه قهرا عبر المعارك والاغتيالات ؛ لتتواصل عملية تنصير التاريخ والوثائق !
وبينما كانت المؤسسة الكنسية تقوم بنسج هذه المسيحية التي لا علاقة لها بما أتى به السيد المسيح من رسالة تسامح ومحبة وعودة باليهود الذين حادوا إلى رسالة التوحيد جاهدت للاستحواذ على بعض المؤرخين لتقوم من خلالهم بتنصير المجتمع ووثائق التاريخ – بمعنى كتابته وفقا لأهوائها ـ فتم التلاعب في ترجمة أعمال المؤرخ فلافيوس جوزيف إلى اللاتينية بصورة غير أمينة ، وتم إدخال فيها فقرة عن يسوع من بضعة أسطر ، ثبت زيفها لسبب بسيط وهو استمرارية النص الأصلي عند حذفها ! وتم اختصار كتاب ” التاريخ الروماني ” للكاتب ديون كاسيوس واستبعاد الكثير من النص الأصلي ، ولم يبدأ ذلك التلاعب في النصوص بهذه الجرأة الكاسحة إلا عندما أصبحت المسيحية ديانة للدولة عام 391 ، أي في أواخر القرن الرابع.
وهى نفس الفترة التي قام فيها القديس جيروم بدمج وتعديل أكثر من خمسين نسخة مختلفة من الأناجيل ، ليخرج العهد الجديد في شكله الحالي تقريبا، وذلك بأمر من البابا داماز .. والطريف أن هذا القديس جيروم يعترف في المقدمة التي كتبها لهذا العهد الجديد بأنه بدل وعدّل وغيّر في النصوص ، بل ويعلم أنه سوف يُتهم بالغش والتحريف والتزوير إلا أنه لا يعنيه ، فقد قام بذلك بناء على أمر من البابا .. والأكثر طرافة من هذا أنه تم فرض هذا النص على الأتباع على أنه منزّل من عند الله وإن الله هو مؤلفه ! بل ولا زالوا يفرضونه كذلك على الأتباع مع تعديل تبعية التأليف ، في مجمع الفاتيكان الثاني عام 1965 ، بأن الله قد أوحى للحواريين عن طريق الروح القدس !! ويا لها من فريات ..
وفى نفس هذه الفترة أيضا ، أي في أواخر القرن الرابع ، تم اللجوء إلى بعض المؤلفين والاستعانة بهم لصالح العقيدة الوليدة التي كانت تتكون عبر المجامع وفقا للأهواء والأغراض ، بل كثيرا ما جرت المعارك بين هؤلاء “المتطوعين ” لإعادة صياغة التاريخ ، من قبيل تلك المعركة التي دارت بين كل من القديس جيروم (المتوفى عام 420 ) وروفين الأكويلى (المتوفى عام 410 م) ، على الرغم من أنهما كانا يشتهران بالصداقة التي كانت تجمع بينهما !
وقد قام الاثنان بعملية ” تنقية ” لأعمال أوريجين الذي أدانته الكنيسة ، وكانت عبارة عن ألفين عملا – وفقا لخطاب القديس جيروم رقم 33 إلى تلميذته باولا ، وتقلص عدد هذه الأعمال الألفين إلى ثمانمائة عند ترجمتها إلى اللاتينية ! وهى ترجمة عبثية في الكثير من أجزائها ، ويقول روفين في مقدمته لترجمة كتاب “مبحث المبادىء” لأوريجين : إنه اتبع نفس خطوات جيروم في ترجمته لكتاب ” العظات ” ” عندما كان يجد في النص اليوناني أي مقطع فاضح ، كان يمرر عليه المبرد ثم يترجمه بعد تنقيته ، بحيث إن القارئ اللاتيني لا يجد ما ينافى العقيدة أو ما يحيد عنها ” !
ويقول باردنهيوير فى كتابه عن ” أباء الكنيسة ، حياتهم وأعمالهم “(1905): “إن روفين يتعامل مع النص بحرية فائقة سواء من حيث الشكل أو المضمون ” أما جوستاف باردى فيقول : ” يمكننا أن نضع روفين ، دون أن نظلمه ، بين أشهر المزيفين الذين كان هو يدينهم ، اما جيروم ، فقد كان يقوم بالتصويب الأدبي ، بالحذف اللبق والتحريف باسهاب ” (التحريف في المسيحية ، مجلة التاريخ الكنسي، مجلد32 ، عام 1936 ) .
ويواصل جوستاف باردي قائلا : ” إن نماذج التزوير والتحريف تنتشر في القرن الرابع ، ويبدو أن المزيفين والمحرفين قد اكتسبوا مهارة وجرأة مع تزايد أعمالهم الأدبية .. بل لقد وصل التحريف والتزييف إلى درجة أنه أصبح النسق العام : يستخدمه الكاثوليك وخصومهم على السواء لتبادل الاتهامات ” . أما في صفحة 290 فيقول : ” ولا يوجد ما هو أغرب من قصة المجمع المسكوني السادس عام 680 ، فقد كان بالفعل مجمع تجار الأنتيكة والنصوص القديمة ، إذ لم يتحدثوا طوال انعقاده إلا عن النصوص التي تم تحريفها ، وعن الخطابات الوهمية ، والأعمال الافتراضية ، فقد كانوا يقومون بمقابلة النصوص ومضاهاتها ، ويبحثون في الأرشيف ، ويضاهون التوقيعات عليها ، ومنذ الدورة الثالثة في نوفمبر 13 نوفمبر 680 ، أقروا أن كل محاضر المجمع الخامس قد تم تزييفها” !!
ومن القرن الرابع حتى القرن السادس توالت الأعمال التي تدين الوثنيين والكلاسيكيين القدامى ، وفى عام 447 أصدر البابا ليون الأول أوامره بحرق كافة الأعمال التي لا تتمشى مع الحقيقة الصادقة ! أي تلك التي لا تتمشى مع ما تعلنه هي من أقوال وأفعال.. وبذلك استقر مناخ من معاداة الوثنية ويبغض ثقافتها ونصوصها ، خاصة أولئك الأدباء والفلاسفة الذين يمكنهم الكشف عن منابع المسيحية التي ينسجونها ..
وانحصرت الحياة الفكرية والفلسفية في أرفف وأقبية الأديرة التي تولت احتكار المخطوطات ليقوم القساوسة والرهبان بتنقيتها .. ويقول جى ديفيتش : ” إن الرهبان في القرن السادس كانوا في غاية الجهل ، وأبعد ما يكونوا عما نطلق عليه اليوم العلم والدراسة ، فكانت دراسة أعمال الوثنيين في نظرهم أشبه ما تكون بعملية ارتداد عن دينهم ! معتبرين أن الفم الذي يتغنى بالمسيح لا يمكنه أن ينطق العبارات التي أوحى بها الشيطان في تلك المؤلفات ” ..
أما الفيلسوف والمؤرخ نيكولو ماكيافيللى (1469-1527) فيقول في كتابه عن “خطبة حول تيت ليف” ، نقلا عن جان دى سلزبورى كمعلومة مؤكدة : ” إن البابا جريجوار الأكبر (590-604) قد أمر بحرق المكتبة الإمبراطورية في روما” ويعجب ماكيافيللى من “ذلك الدأب العنيد الذي قام به القديس جريجوار الأكبر وغيره من القادة المسيحيين ، ومن تلك المثابرة والإصرار على هدم كل الآثار الوثنية ! إنهم يحرقون أعمال الشعراء والمؤرخين ويحطمون التماثيل واللوحات ، ويبدلون ويحرقون أو يبيدون كل ما يمكنه أن يحتفظ بأي ذكرى من العصور القديمة ، وإن كان في مقدورهم استخدام لغة أخرى لقاموا بإبادة كل شيء حتى أطياف الآداب القديمة وظلالها ” !
وقد عاون على استبعاد الآداب القديمة العديد من المعارك الكنسية والعقائدية الدائرة ، ومنها معركة الأيقونات التي سيطرت على الساحة البيزنطية لأكثر من قرن ، من 726 إلى 843 ، وهى المعركة التي سمحت لهم بهدم أو حرق العديد من المكتبات ؛ لأن كثيرا من النصوص كانت هوامشها مزدانة بالرسومات الفنية ، وقد تولى هذه الحملة ليون الأيصورى أسقف بيزنطة.
ويقول لويس برهييه L Bréhier في كتابه عن ” بيزنطة ” : ” إن ليون الثالث قد أمر بجمع الحطب حول أكاديمية العلوم في القسطنطينية ، وأشعل النار في ثلاثين ألفا من المخطوطات والكتب الفريدة ” وكان الهدف من هذه الحملة ، على الصعيد السياسي ، المساس بالسلطة الإمبراطورية الرومية وكنيستها التي كان رجالها يتكسبون من صنع وبيع الأيقونات والرسومات الدينية !.
كما أدى نقص ورق البردي في تلك الفترة إلى قيام الرهبان والقساوسة بكحت الكتب القديمة وإعادة الكتابة على بردياتها أو جلودها؛ إضافة إلى نفس جهل هؤلاء القساوسة والرهبان الذين كانوا يهملون في المحافظة على الكتب أو صيانتها ، بل كثيرون منهم كانوا يستخدمونها لتغطية الأواني أو لسد فتحات النوافذ ؛ لأن أعمال الوثنيين في نظرهم تلهى الإنسان عن التعبد !
وما من مؤرخ تمكن من دحض ما أورده الكاتب الإيطالي جيوفانى بوكاتشيو (1313-1375) ووصفه لمكتبة دير مونتى كاسّينو التي كانت شبابيكها وأبوابها تقرع في مهب الريح ، بينما يقوم الرهبان بقص أجزاء من المخطوطات وبيعها للنسوة للتبرك بها ، أو يكحتون أجزاء من النص ليكتبوا بعض التعاويذ .. ففي ذلك ” العصر الأسود ” كان الرهبان وحدهم هم الذين يقومون بتنقية النصوص وفقا لأهوائهم ، أو بمعنى أدق ، وفقا لمستوى تفكيرهم وجهلهم ! ذلك لأن القيام بتصويب النصوص وتنقيتها من أية شوائب مخالفة للدين كان في نظرهم بمثابة القيام بعمل ورع ..
ويقول هنري فوسيون (H. Faucillon) الناقد الفرنسي في كتابه المعنون “عام ألف” (1952) : ” يجب علينا أن نتخلى عن تلك الفكرة الخرافية القائلة بأن الرهبان كانوا يسهرون طوال الليل لنقل أعمال المؤلفين القدامى وإنقاذها للأجيال القادمة ، فالكتابات الوحيدة التي اهتموا بنقلها هي أعمال أباء الكنيسة ، وفى القرن العاشر والحادي عشر لم يكن هناك من أعداء للأدباء القدامى وفلاسفتهم إلا أولئك الرهبان ، خاصة من خضع منهم لعملية إصلاح دير كلوني ” ..
ومما تقدم يمكننا إدراك أن السبب الرئيسي في اختفاء أعمال التراث اليوناني واللاتيني في بداية العصور الوسطى لم يكن بسبب غارات البرابرة ، وإنما تلك العقلية الشديدة التعقيد الناجمة عن المسيحية والتي كان كل ما يعنيها هو التعتيم على الأصول التي كان قادتها ينسجونها وفقا لأغراضهم ، ولم يدرك عقلاء الغرب فداحة ما خسره في تلك العصور إلا عندما بدأ البحث عن المخطوطات المتعلقة بهؤلاء الأدباء القدامى.
وفى خطاب لأحد أصدقائه كتب بودجيو عن دير سان جال قائلا : ” اعلم أن الكتب هنا ليست مصانة بالعناية الواجبة لأهميتها ، إنها تقبع في زنزانة رثة مظلمة في أسفل قاع البرج .. إنه مكان لا يجرؤ المرء أن يسجن فيه أحد المجرمين .. وتكفى زيارة أحد هذه “المراحيض” التي يُلقى فيها هؤلاء البرابرة مساجينهم لتلتقي بأعمال أحد مثقفينا الذين اعتقدنا من زمن بعيد أنهم اندثروا ” ..
بينما راح ليوبولد دي ليل يصف الحالة المذرية التي وجد عليها مكتبة دير كوربى في القرن السادس عشر : ” لقد وصل هؤلاء الرهبان إلى درجة من الجهل باعترافهم ، وإن أغلبهم ينسخ دون أن يفقه الكلمات التي يقرأها ، الأمر الذي أدى إلى إهمال وأخطاء ، بل وصل بهم الحال إلى بيع أو إهداء هذه المخطوطات بلا تمييز لأهميتها ” ..
وساد نفس الحال في كافة الأديرة ، وعانت الكتب من نفس المصير .
وعلى مر القرون لا يمكننا إلا الجزم بأن هؤلاء الرهبان والقساوسة قد أبادوا إلى الأبد ما لا يمكن تصوره من تراث فكرى للإنسانية ، فعلى مدى ألف عام من الظلمات الناجمة عن عقلية لا تعرف شيئا عن التسامح تمكنت المؤسسة الكنسية من هدم وتدمير آثار ونتاج فكر الحضارة القديمة ..
ومنذ القرن الرابع عشر بدأت بودر روح فكرية تشق طريقها رغم الظلمات والتعتيم ، ويعد الشاعر بترارك (1304-1374) العدو اللدود للجمود الفكري ، من أول من راح ينقب في المكتبات ، وهو المتطلع إلى المثل العليا من الجمال والصدق ، إذ لم يجدها فيما يحيط به من مناخ قمعي ، وبدأ البحث عن المخطوطات في المراكز الثقافية لأوروبا الغربية ، متوقفا عند كل الأديرة ليجمع المعلومات ، حتى أطلق عليه البعض لقب ” أول صيادي المخطوطات” !
وكان أول ما عثر عليه هي مخطوطة للكاتب تشيتشرونى في بلدة لييج الفرنسية .. وبدأت تظهر مخطوطات لأسماء تم دفنها منذ زمن بعيد ، ومنها “تاريخ القياصرة” وهى مجموعة من الأعمال التي تحكى قصة حياة الأباطرة الرومان منذ الإمبراطور هدريان (117-138) حتى ديوكليسيان في أواخر القرن الثالث الميلادي.
وقد أدى ما أمكن العثور عليه من مخطوطات في تلك الفترة ، إضافة إلى تطور آلة الطباعة منذ عام 1445 ، إلى ابتعاث ما يطلق عليه عصر النهضة ، لتدب الحياة الفكرية والفنية والثقافية ، وتبدأ مسيرتها لإزاحة الظلمات التي فرضها الطغيان الكنسي ، اعتمادا على ما خلفته الحضارة الإسلامية من تقدم وإنجازات فكرية وعلمية وحضارية .
إلا أن المؤسسة الكنسية لم تتحمل فكرة أن ينتشر العلم والبحث العلمي وإمكانية انكشاف أمرها وكل ما مارسته من تعتيم على مر العصور ، ففي عام 1542 قام البابا بولس الثالث بإنشاء المكتب المقدس ، أي محاكم التفتيش الكنسية التي يقع على عاتقها محاربة الهرطقة وكافة الآراء المشكوك فيها من وجهة نظر الكنيسة ، والهرطقة – كما رأينا ، هي كل ما يتعارض مع ما تنسجه ، وظلت تفرضه لمدة قرون .. وامتد نفوذ محاكم التفتيش إلى كل ما امتدت إليه المسيحية من بلدان.
وفى عام 1543 بدأت طباعة كتالوج ” الإندكس ” أي قائمة الكتب التي يمنع الكرسى الرسولى أتباعه من قراءتها ، وبعد عامين ، أي في 1545 ، انعقد مجمع مدينة ترانت ، الذي انتهى عام 1563 ، ويعد بمثابة الرد الكاثوليكي على ثورة الإصلاح البروتستانتية ، ومن ضمن قراراته القمعية : عدم السماح للأتباع بقراءة الكتاب المقدس إلا بمساعدة قس ؛ ليؤكد على ترسيخ عقيدة مساواة المسيح بالله عز و جل ، وحلول المسيح في الخبز والنبيذ الذي يتحول في معدة الأتباع إلى لحم ودم المسيح حقا وفعلا ! وهو ما يوضح مدى الاعتراضات التي كانت تقابلها هذه العقيدة منذ اختلاقها وصياغتها في المجامع الأولى حتى القرن السادس عشر !.
وإذا ما قمنا بحصر ما قامت المؤسسة الكنسية بحرقه وتدميره منذ قرارات الإمبراطور تيودوز الأكبر والأساقفة التابعين له ، لوجدنا أن أول وأهم الأعمال التي تمت إبادتها هي تلك التي كانت تتضمن الصراعات الهامة ضد المسيحية ، وما يتم بها من تحريف وتغيير للنصوص ، ومنها : أعمال سيليوس وبورفير وحاكم بيت عانية والإمبراطور جوليان.
ويوضح الباحث والأستاذ الجامعى الفرنسى لويس روجييه (L. Rougier) في كتابه عن ” سيلسيوس ، أو صراع الحضارة القديمة والمسيحية الأولى” (1925) : ” يمكننا قياس كيف كانت الرقابة الكنسية جذرية ، لا بحرقها كتاب بورفير المعنون “ضد المسيحيين”، الذي اختفى ، وإنما إبادة الردود التي قام بها كل من ميتوديوس الأولمبي و يوسبيوس القيصرى وأبوللينير من لاوديسيا وفيلوستورج ، ولم يبق سوى أربعة مخطوطات من النقد الذي كتبه مكاريوس ماجْنس ، والذي يضم بضعة استشهادات من بورفير ، والمخطوطة التي اطلع عليها فرانسوا دي لا تور ، في القرن السادس عشر، اختفت فيما بين 1552 و1637 .. ومخطوطتان أخريان كان قد أشار إليهما يانوس لاسكاريس فيما بين 1491 و1492 ، إحداها في كوريليانو ، والأخرى في دير مونت ساردو ، لم يتمكن أحد من العثور عليها ، وفى عام 1887 سُمح للعالم الفرنسي بلونديل بنسخ مخطوطة مكاريوس ، وكانت ملكا لأبوستوليدس ، أحد أمناء المكتبة العامة في أثينا ، ووجد أنها مبتورة الأجزاء ، ثُم اختفت من مكتبة أثينا “لأسباب لاهوتية” وفقا للباحث هارناك ” ..
وقد وصف الباحث لابريول (Labriole) كتاب سلسيوس بأنه أول تحقيق متعمق قام به أحد الوثنيين ضد المسيحية ، أما الكاتب إميل بويخ (E. Puech) فيقول : ” إنه أروع وأعنف هجوم من بين كل ما تمت ممارسته من نقد من جانب الوثنيين ضد المسيحية ” .. وإن خرجنا من هذا الاستشهاد بشيء ، فهو استمرار ملاحقة المخطوطات والوثائق التي يمكنها أن تكشف عن حقيقة وخبايا تلك المؤسسة الكنسية.
أما كتاب الإمبراطور جوليان المعنون : “ضد الجليليين” فقد عرف نفس المصير الذي تعرضت له أعمال بورفير ، ويوضح جي ديفيتش قائلا : ” إن هذا الكتاب كان يتداول سرا لمدة ستة قرون تقريبا ، إذا ما استندنا إلى أسماء الذين قاموا بالرد عليه من الكتّاب التابعين للكنيسة ، وحتى هذه الانتقادات قد اختفت ، باستثناء رد سيريل السكندري ، إلا أن كتابات هذا المدافع السكندري والتي تحدث فيها عن حياة يسوع قد اختفت ، بل إن المراسلات الخاصة بالإمبراطور جوليان قد تم استبعاد العديد من الأجزاء منها” ..
ونطالع في كتاب ديفيتش معلومة لها مغزاها ، فإذا ما كانت الرقابة الكنسية قد أبادت كل أعمال النقد للوثائق القديمة فإنها لم تتمكن من محو النصوص العبرية الحاخامية وحرقها بالكامل ، وإنما قامت باستبعاد أجزاء بعينها من التلمود ، وهى ” الأجزاء المتعلقة بالمسيح ، وذلك سواء بأيدي الرقباء الكاثوليك وأعضاء محاكم التفتيش ، أو بأيدي اليهود ، بالضغط عليهم عن طريق رجال محاكم التفتيش”.
وبذلك اختفت أعمال كثيرة لكل من جوست الطبري ، وكان عدوا للمؤرخ فلافيوس جوزيف ، وأعمال أكثر مؤرخي العصر الروماني من أمثال سينيكا وسرفيليوس وروفوس وروستيكوس وأوديفيوس باسوس والعديد غيرهم.
وفى هذا الجو المشحون بعدم التسامح وعدم قبول أية انتقادات جادة إلى درجة حرقها أو إبادتها ، كيف أمكن لتلك النصوص التي كتبها المؤرخون القدامى أن تجتاز حاجز القرارات الإمبراطورية والرقابة الكنسية ؟
ويوضح جي ديفيتس أنهم قد حاولوا في البداية إجراء عملية “توفيق” و”تلفيق” لما يمكن توفيقه ، وذلك بتعديل أو بإدخال إضافات لصالحهم ، كما كانوا يقومون بعمليات تحريف للنص في كل نسخ أعمال القدامى وفقا لخطة معدّة مسبقا ومفروضة من القيادات العليا ، وابتداء من القرن الرابع ، عند انتصار المسيحية بدءوا بتعديل بعض الفقرات ثم يصبح هذا الجزء المعدّل هو الأصل الذي يتم نسخه، وهكذا ..
ويمكن ملاحظة حقيقة أخرى وهى : وجود فجوات هامة في الحوليات الرسمية رقم 5 و 6 ، التي تتناول نهاية عام 29 ميلادية وعام 30 و 31 ، وغياب أي نص متعلق بهذه الفترة تماما ، وهى الأعوام المعاصرة لأحداث أواخر أيام يسوع ، كما هي واردة في الأناجيل ، وخاصة تلك التي من المفترض أن تكون دارت فيها عمليات صلبه وبعثه كما يقولون .. إذ لا توجد لها وثيقة خارج ما كتبوه في الأناجيل ..
ويمكن ملاحظة ذلك أيضا من غياب النصوص المتعلقة بهذه الفترة في أعمال تاسيتوس ، أو من الحالة المذرية التي توجد عليها أعمال فلليوس باتركولوس ، من كثرة ما به من تلاعب بالنص ، فبخلاف ضياع الأجزاء المتعلقة بمحاكمة يسوع وصلبه المزعوم ، فإن ما لم يمكن بتره قد تم تحريفه.
ويؤكد جى ديفيتش أن كل هذا التشويه الملاحظ في النصوص يؤكد فرضية البتر العمدي للنصوص المتعلقة ببداية تكوين المسيحية : “إننا حيال عملية رقابة انتقائية تمت عن طريقين : قيام القساوسة باستبعاد أجزاء للإيحاء بأن الفقرات الضائعة كانت تشهد بوجود يسوع ، في حين أنها كانت لا تتحدث عن هذا الموضوع – سواء لأن يسوع لم يكن موجودا ، أو لأن المعاصرين له لم يضفوا على وجوده أية أهمية ، سواء بقيام القساوسة بإعادة صياغة هذه الأعمال لأن هؤلاء المؤرخين قد أشادوا بصورة أو بأخرى إلى يسوع ، لكنهم كانوا يتناولونه بصورة مخالفة لتلك التي تفرضها الأناجيل.
إن اختفاء مجمل أعمال هؤلاء المؤرخين و”تشذيب” أعمال تاسيتوس وفلليوس باتركولوس كان الغرض منه التعتيم على صياغة وقائع بعينها ، تختلف عن تلك التي يقدمها أنصار يسوع ، وبعبارة أخرى إن الأناجيل تقدم لنا وجهة النظر المسيحية ، في حين أن المؤرخين قد تناولوا أحداث تلك الفترة من خارجها ، فالملاحظ أنه لا سيلسيوس ولا بورفير ولا الإمبراطور جوليان ينكرون مصلوب بيلاطس البنطي : إن ما ينكرونه هو تأليهه وبعثه ، وما ينتقدونه هو ذلك الصخب المفتعل من حوله ، ويعتبرون يسوع شخصية تم تجميعها ” ..
وإذا ما أخذنا سلبيات الموقف الكنسي من خلال هذا الحصاد الشديد الإيجاز لكل ما عانت منه النصوص والأصول ، من عمليات حرق وبتر وتحريف وتبديل، فمن الواضح أن الرقابة الكنسية قد تمت بهدف واضح محدد – كما يحدده الكثير من العلماء الذين تناولوا هذه الجزئية ، هو : إبادة كل ما يمكنه أن يمس كيفية تكوين ونسج نشأة المسيحية.
وإن الاعتراف بالمسيحية كديانة رسمية للدولة الإمبراطورية عام 391 قد أسقط على العصور القديمة وابل من العداء وعدم التسامح الديني الذي لا سابقة له في تاريخ الحضارات !
فلمدة ألف عام تحكم رقباء المؤسسة الكنسية في تغيير معالم التاريخ وتزييفه ، وذلك باستبعاد كافة الأعمال التي تكشف عن الصراعات الداخلية ، وعن الاعتراضات التي واكبت مسيرتها، وأنه قد تم التلاعب حتى في النصوص المتعلقة بالعهد القديم واستبعاد أية إشارة ليسوع بها ، كما قاموا بإبادة أعمال المؤرخين الأساسيين في القرون الأولى ، وما وصلنا منها قد تم التلاعب فيه ، خاصة باستبعاد فترة أعوام من 29 إلى 31 ، التي وُجد بها يسوع ..
مما يكشف عن أن عملية الإقصاء هذه كانت تتم وفقا لبرنامج رقابي شديد يرمى إلى فرض وجهة نظر بعينها دون سواها هي : ما قامت الأيادي العابثة بنسجه عبر المجامع على مر العصور بكل جبروت وتحكّم بكافة الوسائل ، بل في أغلب الأحيان بصورة وحشية لا تعرف شيئا عن الرحمة أو التسامح .