بيان القرآن لانحرافات اليهود، والرد عليهم (الجزء الثاني)

الاستاذ الدكتورعبد الستار فتح الله سعيد

أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعتي الأزهر وأم القرى (سابقا)

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، النبي الأمين، وعلى آله، وأصحابه، وأزواجه، وأنصاره، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

1- الموقف القرآني الشامل من اليهود بعد الهجرة، ومجاورة المسلمين لهم: ([1])

القرآن الكريم له موقف شامل من بيان انحرافات اليهود، وقد بينا ذلك في المحاضرة السابقة عن موقف القرآن في العهد المكي، لكن لَمَّا هاجر النبي ^ وأصحابه إلى المدينة، أصبحوا أمام اليهود وجهًا لوجه، وكان القرآن الكريم قد زودهم بمعرفة صحيحة عن انحرافات اليهود العاتية، وأنها بمعزل عن خط الوحي والنبوات.

ومن أوضح الكلمات في تقويم اليهود وفهم نفسيتهم وأحوالهم، ما روي عن النبي ^ في مطلع الهجرة، أنه سأل اليهود عن صومهم ليوم عاشوراء؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه من الغرق، فصامه موسى؛ شكرًا، فنحن نصومه، فقال ^: “فنحن أحق وأولى بموسى منكم” فصامه، وأمر بصيامه، رواه مسلم، وفي رواية البخاري أن النبي ^ قال لأصحابة: “أنتم أحق بموسى منهم، فصوموا”.

خصائص النفسية اليهودية:

وهنا أخذ القرآن الكريم يتنزَّل لمواجهه الواقع الجديد، فقد أصبح المسلمون قريبًا من اليهود، وواجهوا دسائسهم ومؤامراتهم، فتنزل القرآن؛ لمتابعة هذا، يرد على دسائسهم، ويكشف أضاليلهم، ويُعري هذه النفسية العاتية تحت أضواء الحقائق الصارمة، ويخاطب الأخلاف منهم بجرائم الأسلاف كأحد جناتها، وحاملي مسئوليتها، ويذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم وكفرانهم بها في كل جيل، بل يرسم القرآن السبيل واضحة لفَهم هؤلاء وكيفية التعامل مع انحرافهم وتحريفاتهم.

وحديث القرآن هنا حديث شامل، وهو أوسع مدًى من يهود الجزيرة العربية أو المعاصرين لنزوله، لقد بدأ -كما قلنا- في العهد المكي قبل الخلاف والاحتكاك، ثم تَتَابع في أثناء الجدل والمعارك، ثم استمر حتى بعد هزيمة اليهود، وإسقاط قوتهم في شبه الجزيرة العربية، نعم، كان القرآن الكريم يتنزل؛ ليعالج أحداث الساعة يومئذٍ مع اليهود، ولكنه مع ذلك وقبله وبعده كان يضع الأسس، ويحدد الخصائص، ويبرز السمات اللصيقة، ويرد المتفرقات إلى أصولها وأسبابها، ويكشفمداخل النفسية اليهودية ومخارجها، ويسوق للناس دلائل حكمه من وقائع التاريخ اليهودي القريب أو البعيد، وأكثره كان قد طُمس وجهلت حوادثه، واختلفت الآراء فيه اختلافًا شديدًا.

وقد تفرد القرآن الكريم بهذا الحديث الشامل، واستخرج -كما قلنا- المقومات الثابتة والمشتركة في أعماق هذه النفسية اليهودية، والتي يمكن بمعرفتها استقراء مكنونات هذه الشخصية المعقدة، وفَهم اتجاهاتها وتحريفها وانحرافها، لا من باب الكهانة والرجم بالغيب، وإنما أخذًا من يقين هذه الحقائق القرآنية التي أنزلت من لدن عالم الغيب والشهادة، وصدق ربنا: ]قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[(الفرقان:6).

2- رأس انحرافهم: الإلحاد المطلق في العقائد، وتنديد القرآن بها

وبالنظر في آيات القرآن الكثيرة، استطعنا أن نستخرج منها جملةً من انحرافات اليهود، وردود القرآن عليهم منها:

الانحراف الأول: الإلحاد المطلق في العقائد:([2])

فإن المسلم يدهش غاية الدهشة حينما يقرأ شيئًا من كتب اليهود الدينية، كأسفار التوراة وما دونها، والتلمود، وغير ذلك؛ إذ يجد فيها تطاولاً خطيرًا على الله -تبارك وتعالى- وعلى ملائكته، وكتبه، ورسله، وعلى سائر عقائد الدين؛ بل يصل الأمر باليهود إلى حدٍّ جسيمٍ من بذاءة القول، وشناعة الاعتقاد، والجرأة الفادحة، ربما لم يصل إليها غلاة الملحدين والمشركين، والقرآن العظيم يفسر لنا هذا الأمر، ويجعله رأس المفاتيح في فهم الشخصية اليهودية، ويفسر لنا به عقدة الضلال العارمة التي لازمت أجيالهم جميعًا.

إن نسيج النفسية اليهودية في ضوء القرآن مصبوغ بلون صارخ من الكفر والإلحاد في كل عقائد الدين، مهما تَوارَى اليهود خلف دعاوَى الإيمان وخدعة التدين.

بداهةً، اليهود هم أبناء سيدنا يعقوب، وهو نبي كريم، وجاءهم أنبياء كثيرون، وكانوا على الدين الحق، وكانوا على التوحيد والإيمان والهُدى، لكنهم انحرفوا انحرافات هائلة عن هذا، لقد رأينا ماذا صنع جيلهم الأول من شناعات الكفر، على حين كان يقودهم أجل أنبيائهم مثل موسى وهارون -عليهما السلام- وإلى يومنا هذا فَهُم أساتذةُ الإلحاد العالمي ومعلِّموه، وناشروه، ودعاته، وفلاسفته المبتكرون، واليهود هم الذين لقنوا الفكر المعاصر كل نظريات الإلحاد والإفساد، كفكرة تطور الأديان، وإنها اختراع بشري، حتى قالوا: إن الله -تبارك وتعالى- هو فكرة اخترعها الإنسان، فالإنسان خالق الفكرة وليس مخلوقًا، بل قالوا في جراءة وقحة عنوانًا لكتاب ألفه يهودي: “إن الله تعالى قد مات” -تعالى ربنا عما يقولون علوًّا كبيرًا.

ويكاد العقل ينكر هذا ويرفضه؛ لِمَا نعلم من كثرة أنبياء بني إسرائيل، وأنه أنزلت على موسى التوراة، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى داود بين ذلك الزبور، لولا أن هذه حقيقة تاريخية متكررة، وثابتة مؤكدة، لا يستطيع اليهود أنفسهم أن ينكروها، ومن كان في شك فليسمع تقرير القرآن العظيم عن اليهود، وهو في ذِروة التحريف، قال تعالى في الكفر والتطاول على الله -عز وجل- يقول عنهم: ]لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[(آل عمران:181) لا ندري كيف يقول ذلك قوم مؤمنون جاءتهم الأنبياء والرسل؛ ليشرحوا لهم العقيدة الصحيحة؟! وقال تعالى: ]وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[(المائدة:64) وقال الله -سبحانه وتعالى: ]وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ الله[(الحشر:2) ويقول ربنا عنهم: ]لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الله[(الحشر:13).

وفي وقاحتهم الدائمة مع رسلهم يقول الله تعالى عنهم: ]لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ[(المائدة:70) ويقول -سبحانه وتعالى: ]أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[(البقرة:87).

ويُلاحظ هنا استعمال أداة العموم والتكرار “كلما” تعبيرًا عن اطِّراد اليهود على التكذيب، وقتل الرسل إذا جاءوهم بما لا تهوى أنفسهم الضالة.

وفي استهانتهم واستخفافهم بالنار، يقول عنهم -سبحانه وتعالى: ]ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ[(آل عمران:24) وهم مع هذا كله يبلغ بهم الافتراء إلى حد احتكار الجنة لأنفسهم كما قال -سبحانه وتعالى: ]وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى[(البقرة:111) وقد رد الله عليهم هذا الزعم بقوله: ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[(البقرة:111) أي: أن كل فريق من اليهود والنصارى يزعم أن الجنة له خاصة.

وفي تطاولهم على الملائكة يقول -سبحانه وتعالى: ]قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ$ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[(البقرة: الآيتين: 97، 98) والكلام هنا مسوق ردًّا على اليهود حينما زعموا أن جبريل عدوٌّ لهم.

أما استخفافهم بالوحي والكتب الإلهية، فهذا دأبهم وغرامهم الدائم، وفي ذلك يقول الله تعالى: ]وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[(آل عمران:78).

فإذا أدَرْنَا هذا المِفتاح في ظلمات النفسية اليهودية، انحلت لنا على الفور طلاسمها وألغازها التي تحير الألباب، حيث كان سِر انحرافهم الأساسي هو اختلال عقيدتهم في كل العصور، فاختل بعدها في نفوسهم وسلوكهم كلُّ شيء، وإذا ظهر السبب بطل العجب من سائر تصرفات اليهود في هذا الباب، والتي بلغوا فيها مبلغًا شنيعًا في مختلف أدوار تاريخهم، حتى فضلوا وثنية قريش على التوحيد الخالص الذي جاء به محمد ^ وحتى حَرَصوا غاية الحرص على فتنة المسلمين، وأن يرجعوهم كفارًا يتخبطون في ظلمات الجاهلية، وهذا أدنأ موقف يقفه أقوام يُفترض فيهم أنهم أهل الكتاب الأول، وأنهم أصحاب الدين، وأتباع الرسالة السماوية.

ولذلك سجل القرآن العظيم هذه المواقف بعبارات قارعة صارمة تتناسب مع ثقل جريمتهم، قال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا$ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله وَمَنْ يَلْعَنِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا[(النساء: الآيتين: 51، 52) ويقول -سبحانه وتعالى: ]وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ  الْحَقُّ[(البقرة:109).

3- قسوة القلب إلى حد الهمجية والوحشية

الانحراف الثاني: قسوة القلوب إلى حد الهمجية والوحشية:([3])

فقد احترفوا الخطايا احترافًا، حتى رَنَتِ الذنوب على قلوبهم فأظلمت وانطمست، ومن ثم اقتحمت كلَّ دروب الكفر، وتهافتت عليه، ثم جعلته دينها وديدنها، وطال عليهم الأمد في هذا الضلال، فتواردته الأجيال، وقام عليه بعد ذلك كل ألوان تحريفاتهم التي حرفوها في كتبهم وفي غيرها.

ولذلك استفاض القرآن العظيم في بيان هذا الجانب، وجاء فيه بقوارع غاية في الإيجاز والإعجاز؛ للفت الأنظار، ولتنبيه المؤمنين إلى حقيقة هذا، قال تعالى: ]فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[(المائدة:13) والقسوة: الصلابة واليبوسة، وهي صفة ملازمة لليهود في بداوتهم وحضارتهم، وإلى يومنا هذا مهما كانت درجتهم من العلم والثقافة، أو الرُّقي المادي، وقد ساق القرآن الكريم أصدق وصف للنفسية اليهودية، وعلى لسان اليهود أنفسهم، وهم أدْرَى بشعابها المظلمة، قال تعالى: ]وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ[(البقرة:88).

والقلب الأغلف: هو المغطى بأغشية ثقيلة، بحيث لا يعِي ولا يفقه ولا ينفذ إليه شيء، إلا ما أُشربه من هواه، بل يصل القرآن الكريم إلى أغوار هذه النفسية الغائرة، فيستخرج لنا من مكنوناتها أنكى درجات القساوة التي تزيد بها على الصخور العاتية جمودًا وتحجُّرًا، فيقول مخاطبًا اليهود خطابًا عامًّا: ]ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله[(البقرة:74) وليست هذه الكلمات البينات مجرد صورة بلاغية مجازية لتصوير المعنى وتقريبه، وإنما هي حقيقة واقعية يشهد على صدقها تاريخ اليهود قديمًا وحديثًا، وكفى بالله شهيدًا.

واليهودي إذا وجد الفرصة، وأمن النقمة، تفجرت قساوة قلبه على حقيقتها، واندلعت على هيئتها التي وصفها الله -عز وجل- عمياء صماء، تستخف بالحق، وتقتل الأنبياء بغير حق، وترجم الآمرين بالقسط من الناس، ولذلك فهذا موقف متكرر مطرد في تاريخهم كما نبه القرآن على ذلك مرارًا، قال تعالى: ]كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ$ وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ[(المائدة:70، 71).

وماذا يُتوقع أو يُنتظر من قوم أقسى قلوبًا من الحجارة، وهم غلف الأفئدة، عُمي وصم منذ آماد طويلة، نسأل الله العافية من مكرهم وتحريفهم؟!

4- احتراف التحريف، والتزييف، والجدل الباطل:

الانحراف الثالث: انحراف التزييف والتحريف والجدل:([4])

فلليهود مقدرة عارمة على تزييف الوقائع، واختلاقها، وعلى تحريف الحقائق عن مواضعها، حتى كأنها حِرفة حياتهم، أو سَجية في تركيبهم الخُلقي والنفسي، لا يستشعرون في مزاولتها ما يستشعره غيرُهم من لوم الضمير وتأنيب النفس؛ إذ اليهود قد ماتت مشاعرهم وقست قلوبهم، وهذا مدخل بالغ الأهمية في فهم تحريفات اليهود وانحرافاتهم، ومن ثَمَّ جلاه القرآن العظيم بيانًا وتعليمًا، وتحذيرًا للمؤمنين إلى يوم القيامة، قال تعالى: ]وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ[(المائدة:13).

فهناك إذًا ارتباط وثيق بين قسوة القلوب وبين هذا التحريف، ويقول تعالى: ]وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ[(المائدة:41) والقرآن العظيم يحرص على بيان درجة التعمد في هذا العمل الخطير، وأنه لا يُجدي معه نذير أو تذكير: ]وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ[(يونس:101)قال تعالى: ]مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَاوَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍوَرَاعِنَا لَياًّ بِأَلْسِنَتِهِمْوَطَعْناً فِي الدِّينِ[(النساء:46).

وإذا بقيت لدى بعض المؤمنين بَقية من حسن الظن باليهود، وطمعوا في تغيير أو تعديل مسلكهم التحريفي الخطير، أو رَجَوْا هدايتهم، فإن القرآن يقطع في صرامة بالغة خيالات هذا الأمل البعيد الوقوع، إن الحقائق أكبر من الأماني، وإن أمل المؤمنين النبيل لن يغير طبائع الحيات أولادَ الأفاعي، وقد نسب هذا القول إلى المسيح عيسى -عليه السلام- وصفًا لليهود، كما جاء في إنجيل مَتَّى إصحاح 23 فقرة 33.

وعلى المؤمنين أن يعرفوا جيدًا طبيعة النفسية اليهودية بعدما تغلغلت فيها الأحقاد إلى الأعماق، وسدت عليها الآفاق، قال تعالى: ]أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[(البقرة:75).

فاليهود يحرفون كل شيء حتى، ولو كان كلام الله -تبارك وتعالى- وهم لا يفعلون ذلك ناسين أو جاهلين، وإنما يزاولون التحريفَ عامدين، عالمين بخطورة وضراوة ما يفعلون، ولذلك أمعن اليهود في الفُحش والافتراء حتى على أئمة الأنبياء قبلهم مثل نوح وإبراهيم ولوط -عليهم السلام- بل وصموا أعلمَ أنبيائهم هم -عليهم الصلاة والسلام- بكل منكر وفاحشة، مثل سيدنا موسى -عليه السلام- وداود وسليمان -صلى الله عليهم أجمعين- وبهذه النفسية الفاحشة حشوا التوراة، وسائر أسفارهم المقدسة بزعمهم حشوها بكل ضلالات الاعتقاد، وشناعات التشريع، وموبقات الأخلاق، وأساطير القصص والأخبار، ونسبوا ذلك كله إلى الوحي والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- حتى يجعلوا ذلك دينًا مقدسًا.

الإسرائيليات:

وبذلك أصبح اليهود عَلَمًا متفردًا في الضلالة والبُهتان، وغدتْ كلمة الإسرائيليات عنوانًا للأكاذيب والمفتريات والأباطيل، ومن العجيب أن يتسربَ كثير من هرائِها إلى ثقافة المسلمين، بل وصل هذا إلى تفسير القرآن العظيم، حتى غص بعض التفسيرات بظلمات هذه الإسرائيليات، وذلك حين غفل بعض المسلمين عن حقيقة النفسية اليهودية، وأبقوا -لحسن الظن- بقيةً في بعض بني إسرائيل، ناسين هذه الوصايا والتحذيرات القرآنية الصريحة الصارمة.

ولقد بلغ اليهود مبلغهم النهائي في الكذب والافتراء، حينما صنعوا كتابهم المشهور التلمود، الذي تتضاءل بجانبه سائر أكاذيبهم في أسفارهم العلنية، والمتأمل في حملة القرآن العظيم على التحريف اليهودي المزعج، يجدها أوسعَ مدًى، وأشمل مدلولًا، وأكثر ردًّا لقضايا تحريفية لَمْ ترد في الأسفار الظاهرة رغم شناعة ما فيها، مما يقطع عند المقارنة والموازنة، بأن القرآن العظيم كان يتصدى لفضح أباطيل كتبهم السرية خاصة التلمود، وللتنديد بمفترياته، وتقريع عُتاته وطواغيته الذين صنعوه بأيديهم، وَلَوَّوْا به ألسنتهم، وزعموه وحيًا من الله تعالى.

ومن ذلك على سبيل المثال:

أولاً: التنديد القرآني البالغ بأصل البدعة الخطيرة التي رُكب عليها التلمودُ اليهودي، من اختراع أسطورة التعاليم السرية، ونسبتها إلى الوحي الإلهي على موسى، ثم بعد ذلك كتبت وعكفوا عليها، وفي ذلك يقول الله تعالى أثناء سرد شناعات اليهود المتكررة: ]وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ$ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ[(البقرة: الآيتين: 78، 79) والآيتان الكريمتان تتحدثان عن أحبار اليهود، فتصف بعضهم بالأمية في الدين، وأن علمهم بالكتاب الإلهي الحقيقي لا يعدو الأماني، وهي الأكاذيب، أو تمنيات النفس وتشهياتها، أو مجرد التلاوة بلا فهم ولا تدبر، ومع ذلك يتجرءون على الله تعالى بالقول في دينه، وهذا الذي أورده القرآن هو ضرب من الإعجاز القرآني، حيث تنطبق هذه الصفات تمام الانطباق على أحبارهم في عصور الشتات والضياع الذي ضُرب عليهم بذنوبهم، والتي كتبوا فيها الكتاب المخترع بأيديهم، ثم نسبوه زورًا إلى الله تعالى.

ثانيًا: يندد القرآن العظيم بكل مفتريات هذا التلمود المخترع، وبوضَّاعيه، ومنفِّذيه، فيقول -سبحانه وتعالى: ]وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ$ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ$ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ[(آل عمران:75-77) إلى آخر الآيات الكريمة.

فالقرآن العظيم ينصف -كعادته- ويقرر أن اليهود منهم الأمين ومنهم الخائن الذي يجحد أمانته، إلا إذا قام صاحبها على رأس اليهودي، ملحًّا ومطالبًا، وهذا الصِّنف موجود في كل الأمم، فما سر تخصيص اليهود؟

هنا يكشف القرآن العظيم سرَّ اليهود الذي يمثل أفظع جناياتهم، والذي انفردوا به من دون الناس، لقد كانت جناية اليهود -دائمًا- أنهم جعلوا الخيانة والقتل والسرقة وسائر الموبقات، جعلوا ذلك دِينًا، ونسبوه إلى الوحي الإلهي، فصارت الجرائم قربات، والمفاسد عبادات، والكبائر والفواحش ضربًا من ضروب التقوى والتدين، أو في أقل الأحوال تصير حلالًا مباحًا لا تثريبَ على اليهودي في ارتكابه؛ لذلك يُورد القران الكريم القاعدة اليهودية التي قالوها: ]لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ[(آل عمران:75 )

والمقصود بالأميين: العرب مطلقًا، أو الأمم جميعًا، ويتبعها بما يبرئ ساحة الوحي من هذا الدنس، فيقول تعالى عقِبها: ]وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[(آل عمران:75) ودعوى سقوط الإثم في أكل مال الأغيار -يعني: الأميين أو الأمميين-  بالباطلهي ضلالة، وعقيدة تلمودية، والتلاعب بالعهد هو دين التلمود ووصاياه الدائمة المظلمة، والإصرار على استخدام الأيمان كذبًا -أي: الحلف- مع الأغيار هو من صلب تعاليم التلمود الحقود، ولذلك بالغت الآية الثالثة في استنكار الأمرين، وتوعدت عليهم بأقصى العقوبات من الله تعالى، قال تعالى: ]أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[(آل عمران:77).

ولذلك تأتي الآية الرابعة هنا، فتطرق على رأس الأفعى من أحبار السوء الذين اختلقوا هذه التعاليم، ونسبوها زيفًا لله رب العالمين، يقول تعالى: ]وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[(آل عمران:78) وينبغي ملاحظة هذا التقرير والتقريع القرآني الصارم في نقد القاعدة الأساسية، التي قامت عليها كل وصايا التحريف والتزييف عند اليهود؛ فالقرآن العظيم يؤكد على الكلمات بطريقة التكرار، والإظهار في مقام الإضمار، ويعيد المعنى المفهوم ضِمنًا باللفظ الصريح؛ قطعًا لأي لبس في الفهم، أو احتمالٍ في البيان، بل دحضًا لأي مماحكة أو جدال في هذا المقام الخطير من أحبار اليهود العتاة، وهم قد تعودوا على ذلك، ومردوا عليه.

إن القضية تتعلق بالدين كله، وبكلمة الوحي العليا إلى البشر جميعًا، وقد لبَّس اليهود على الناس طريقها، وعموا عليهم سبيلها، بل نقضوها نقضًا وبيلًا، وأتَوْا بنقائِضها وأضدادِها، وشرعوا من الدين ما لَمْ يأذَن به الله.

وهل لليهود في ذلك شائبةُ عذرٍ أو تبريرٍ؟

تحرص الآيات السابقة على بيان القاعدة التي صدرت عنها هذه التحريفات عند بني إسرائيل، قال تعالى: ]وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ ونتأمل جيدًا تكرار هذه الجملة في آيات سورة البقرة: 75 ثم 79 بالمعنى ثم آل عمران 75 و78 فكلها تكرر هذه الجملة: ]وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ فهذه خصوصية إسرائيلية ثابتة، يقوم بها خلفاء السامري في كل الأجيال -السامري الذي زيف لهم العقيدة العليا في التوحيد، وصنع لهم العجل- متلبسين بكل صفات العمد والقصد والإصرار، وينسبون أكاذيبهم إلى الله العلي الأعلى، وهم يعلمون الحقيقةَ المخزيةَ، يعلمون أنهم كاذبون، ويحرِّفون ويفترون، ويعلمون أن هذا كله ليس على بشرٍ مثلهم، وإنما هو كذب وافتراء على رب العالمين -سبحانه وتعالى- فهل بقي وراء ذلك شيء؟ وهل وراء ذلك في الطبيعة البشرية انتكاس أو ارتكاس؟

أيضًا هناك الجدل العقيم الذي اشتهر به اليهود، وقد اشتهروا بغاية المهاترة والجدل من قديم، واشتهروا بلجاجة القول، وسوء المراجعات حتى ذهبوا مَثَلًا بين الناس في هذا الباب، وكانت حرفة التزييف فيهم أحدَ الأسباب التي أضرمت فيهم هذه الخصلة الذميمة، وأشعلت أوارها حتى صارت عادتهم الراسخة، فهم يجادلون بالحق أو بالباطل، ويجادلون أنبياءهم وصالحيهم، ويجادلون في أمر الله -عز وجل- وفي كتبه، في كل شيء يجادلون، ومن العجب أنهم ينقادون في السوء، وتقل مجادلتهم لأحبارهم فيه، بل هم كما قال الله تعالى: ]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله[(التوبة:31).

وربوبية الأحبار مقررة في صلب التعاليم التلمودية، ولهذا نجد القرآن العظيم يعبر عن طاعتهم للأحبار في الضلال بصيغة المبالغة، يقول تعالى: ]وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ[(المائدة:41) فهو لَمْ يقل: سامعون، وإنما قال: ]سَمَّاعُونَ[ وهذه صيغة مبالغة؛ للتكثير، وقد أورد القرآن العظيم قصةَ مجادلتهم في البقرة مثلًا على هذا اللجاج العجيب، مع أن موسى -عليه السلام- قد أسند الأمرَ صريحًا إلى الله تعالى، أي: أنه وحي يوحَى، وليس اجتهادًا من النبي الكريم، قال تعالى في هذا: ]وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[(البقرة:67) فبماذا ردوا؟ ]قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ[(البقرة:67).

سر قرآني عجيب:

وقد يعجب الإنسان من تسمية أطول سورة في القرآن، والسورة التي سميت بسنام القرآن، وأولى الزهروين، سميت هذه السورة باسم البقرة، مع أن في السورة ما هو أعجب منها في باب القصص، وما هو أجل منها في باب الأحكام والعقائد، مثل آية الكرسي، وآيات الصيام، والحج، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة طير إبراهيم -عليه السلام- وغير ذلك كثير.

والدلالة هنا قائمة ناهضة تشير إلى حكمة الوحي حتى في اختيار الأسماء، إنها تحذير جهير من اليهود، ومن أفعالهم في التزييف والتحريف على السواء، وإيجاز ذلك:

أ- أراد الله -تبارك وتعالى- أن ينبه المؤمنين إلى أن اليهود قد احترفوا اللجاجة والجدل العقيم من قديم، حتى مع أكبر أنبيائهم موسى -عليهم السلام- فكيف بغيره؟! وهذا تحذير مبين للمؤمنين؛ ليفهموا هذه الشخصية الشوهاء، القائمة على الكذب والافتراء.

ب- أراد القرآن الكريم تنفيرَ المؤمنين من داء بني إسرائيل القديم؛ حتى لا يكونوا مثلهم في المماراة واللجاج الباطل، وخاصةً فيما يتعلق بشريعة الله تعالى التي يجب أن تتلقى بالقبول والإقبال، ولذلك ساق الله تعالى قصةَ البقرة أُمثولة على الجدل والتماحك اليهودي الغريب، ثم ركز أنظار المؤمنين عليها باختيارها دون غيرها؛ لتصبح علمًا على أطول سورة في القرآن، حتى لا تغيب دلالتها عن وعي المؤمنين؛ تحذيرًا أو تنفيرًا.

والله تعالى أعلم بمراده، وأسرار كتابه، ولا علم لنا إلا ما علمه لنا من فضله العظيم.

5- الغدر، ونقض العهود، والحقد، والحسد، والإفساد في الأرض: ([5])

هناك أمر آخر يتعلق بالغدر، ونقض العهود:

ومن هذا الخُلق التحريفي الخطير: أساليبهم في الغدر ونقض العهود تحت أفانين من الخداع والمبررات الكاذبة، وألوان من ضروب التحريف، وليّ الكلم عن مواضعه، وتزييف المعاني والمفاهيم، وفلسفات الاستحلال التي يجيدونها وتجري منهم مجرى الدم، والعهد عند اليهودي ضرورة مرحلية يعقد لأجلها، ثم ينقضه بانتهاء ظروفها ومنفعتها، وبين العقد والنقض يظل اليهودي كالثعلب الجبان يتلفت، ويترقب الفرصة، أو يوجد الفرصة لينقض تحت أماني العقد وغفلة الخصم، والقرآن العظيم يقرر أن هذه خطة يهودية دائمة، فيقول -سبحانه وتعالى- على سبيل الحصر والشمول: ]الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ[(الأنفال:56).

وحتى اللعبة الخطيرة التي يمثلونها دائمًا اليوم وبعد اليوم وقبل ذلك، وهي لعبة الحمائم والصقور -يعني: نوع متشدد، ونوع متساهل- هي لون قديم من خداعهم، ويشير إليها القرآن العظيم بأسلوب التكرار المضطرد كالآية السابقة يقول تعالى: ]أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[(البقرة:100) وقد ظهر مصداق هذا في كل تصرفاتهم القديمة والمعاصرة على سواء، وتواطأت على هذا الدرب أجيالهم، ابتداء من عهودهم مع الله تعالى على يد كبار أنبيائهم، كما قال تعالى: ]وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا$ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ الله[(النساء:154، 155) وكما قال تعالى في سورة البقرة: ]وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ[(البقرة:93).

هذا ابتداءً؛ أما انتهاءً فبما صنعوا مع النبي محمد ^ من غدر ونقض للعهود في أحرج الظروف وأحلك المعارك، كما صنع بنو قريظة يوم الأحزاب، فعُوجلوا بالعذاب كما قال تعالى: ]وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا$ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا[(الأحزاب:26، 27)، فهذه العقوبة الغليظة لا تكون إلا بتحريف وتزييف وغدر هائل، ناهيك عما صنعه اليهود مع غير الأنبياء، ولا زالوا يفعلونه من غير ما خجل، ولا اعتبار للأخلاق والقيم، ولا التزام بشرف الكلمة أو حسن السمعة، تمامًا كما قال القرآن عنهم في تعبيره الجامع: ]وَهُمْ لا يَتَّقُون[(الأنفال:56).

والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة ومشهودة، والبقية آتية لا محالة، وفي هذا بلاغ ومقنع لمن عقل عن الله تعالى وعن كتابه، وأراد أن يتزود بالنور الحقيقي في ظلمات الأحداث بالنسبة لليهود.

ومن يقرأ التلمود الحقود يَعْرِفِ البواعث المحركة والمهيجة لهذا الأسلوب اليهودي المنكر، بل يرى أن هذا الإجرام الخطير هو دين التلمود، يَعِدُ بالثواب الجزيل على فعله، ويتوعد بالإثم والعذاب المهين على تركه.

إن الجوييم – اليهود يسمون الأمم الجوييم، وهم غير اليهود مطلقًا- هم في نظر اليهود كفرة ووثنيون، بل هم بهائم وحمير خُلقت لخدمة الشعب المختار، والناس لم يُعطوا الصورة الإنسانية تكريمًا لهم، وإنما لإيناس السادة من بني إسرائيل، ولهذا دينهم في هذا لا عهد، ولا حرمة لبقية الناس، ولا عقد ولا وفاء، هذه هي عقيدة التلمود التي أشربتها نفسية اليهود، وهذه هي مبررات الإلحاد والإفساد التي أضرم نارها أحبار السوء من أبناء الشياطين -قاتلهم الله تعالى- وسنرى كيف نقض القرآن العظيم دعواهم نقضًا، بل قلبها عليهم قلبًا بذنوبهم، وبرَّأ الوحي الكريم من دنس المفسدين في الأرض، الكافرين بأنعم الله -عز وجل.

6- الاستهانة البالغة بالحرمات، والأخلاق، والشرائع: ([6])

ننتقل إلى عنصر آخر من عناصر انحرافهم، وهو: الاستهانة بالأخلاق، والحرمات، والشرائع:

ولقد أوغل اليهود في ذلك إيغالًا رهيبًا، حتى صاروا أئمته بلا منازع، وعَلَمه المتفرد بين الناس قديمًا وحديثًا على السواء، ولقد نَعَى الله تعالى عليهم هذا المسلك المشين، وعدد دروبه ونواحيه، وحدد وقائعه ومآسيه عبر أجيالهم جميعًا، وسجل عليهم في ذلك خزيًا عظيمًا لم يسجله على أمة قبلهم ولا بعدهم، رغم كثرة أنبيائهم بصورة لم تُعهد فيما سواهم من أمم الأرض.

وقد قدمنا سابقًا من الآيات الكريمة ما يوضح هذا تمام التوضيح، لكننا نذكر هنا أن القرآن الكريم قد سجل عليهم أنه ما موبقة من الكبائر والفواحش إلا وقد شاعت في بني إسرائيل، بل كانوا يتسارعون في ذلك، ويتهافتون عليه كما جاء في كتاب الله تعالى عنهم، ويبلغون فيه حد المبالغة، ليس مجرد ارتكاب الإثم بل حدّ المبالغة والاستغراق بلا حرج من شعور النفس أو سلطان الدين، أو إنكار أهل العلم، بل إن علماءهم هم الذين اختلقوا المبررات الدينية؛ لتأجيج هذه المنكرات، وذلك أمر غريب في الأمم والشعوب.

ولذلك يُعبر القرآن الكريم عن خطايا بني إسرائيل بصيغ المبالغة التي تفيد التكثير، والزيادة في السوء، فيقول تعالى: ]سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ[(المائدة:42) ومع هذه المبالغة المظلمة نجدهم خِفافًا إلى الإثم، طيارين إليه، كلما لاحت لهم بوارقه، كأنهم لا يشبعون ولا يملون، قال تعالى: ]وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ[(المائدة:62).

تأصيل الدنس:

ولقد خطا اليهود خطوتهم المشئومة؛ لتأصيل الدنس، وإسباغ الشرعية الدينية عليه ولو بالحيل والأكاذيب، فكانوا بحق كما وصفهم النبي ^: “لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوامحارم الله بأدنى الحيل”([7]).

ومن أدنى بل أدنأ حيلهم في هذا الباب، ما نسبوه إلى كبار أنبيائهم من غلو في المنكر والفواحش؛ ليجعلوا منهم مبررًا يعللون بهم خطاياهم هم، ويفلسفون به فواحشهم، بل ويضفون به على الرذائل صورةَ الشيوع الإنساني الذي لا ينجو منه أحد من جانب، ثم هو من الجانب الآخر يغري النفس بالتقليد والمحاكاة والاقتداء.

لقد نصب الوحي الإلهي الأنبياء -عليهم السلام- أسوة حسنة للناس، ووصفهم بما هم أهله من الطهارة والسمو والنبل والإحسان، وجاء اليهود -وهم قوم بُهت- فعكسوا على الوحي قضيته، وألصقوا بالأنبياء -عليهم السلام- كل رذيلة؛ ليجعلوا منهم مثالًا يغري بالسوء، ويكتسح في النفس الإنسانية كلَّ عناصر المقاومة، ولا يجعلها تتمالك إلا ريثما تتهالك وتسارع في الخطايا.

سبحانك هذا بهتان عظيم:

وإن المؤمن الذي يقرأ كتب اليهود الدينية، سوف يفاجأ ويفزع ويفجع حين يرى أئمة الهدى وشوامخ النبوة تتهاوى على أيدي اليهود النجسة، وتمرغ في أوحال الخطيئة، ولا يكاد يفلت نبي كريم من هذا المصير المروع الذي افتراه بنو إسرائيل عليهم.

ولنأخذ الأمثلة:

فهذا شيخ الأنبياء، الصبور، الشكور، نوح -عليه السلام- يصورونه سِكيرًا يشرب الخمر، ويتعرى داخل خبائه؛ حتى يَرى عورته أصغر أبنائه، ويخبر أخويه ساخرًا، وما إلى ذلك، وهذا لوط النبي الكريم، الذي أتاه الله حُكمًا وعلمًا كما وصفه القرآن، يحيكون حوله أبشع التهم من مؤامرات ابنتيه عليه حتى سقتاه خمرًا، فصار لا يعقل شيئًا إلى الدرجة التي زنى فيه بابنتيه حتى حملتا منه سفاحًا ^ وبرأه مما قالوا- وهذا نسبوه إليه في الإصحاح التاسع عاشر من سفر التكوين.

أما أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- فيقدمون له صورة كابية نابية، كأنه رجل مادي نَهِم، يتاجر بزوجته الجميلة عند الملوك؛ ليربح ويأكل، تمامًا كما يفعل المرابون اليهود إلى يومنا هذا.

ومن أين لليهود علم هذه الأكاذيب، وهؤلاء جميعًا كانوا قبلهم؟ لقد نسبوا -مع الأسف- ذلك إلى الوحي كذبًا وافتراء، وأثبتوه في كتبهم الدينية.

وبديهي أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بُرآء من هذا الدنس، ولم يجد اليهود إلا أن قدموا صورة أنفسهم هم، وما تشتهيه من الدنايا والرذائل، وجعلوا من هذه الأكاذيب مبررًا ومسوغًا -كما قلنا- وآية ذلك، أن كبار أنبيائهم -أنبياء اليهود أنفسهم الذين كانوا معاصرين لهم- لَمْ يفلتوا من هذا المستنقع اليهودي الدنس، بل أوغلوا بهم في الخطيئة أكثر من غيرهم؛ لتكون القدوة شاخصة، والهدف مباشرًا، والتهافت أسرع، ومن العجيب أنه كلما جلّت وعظمت منزلة النبي فيهم، كان نصيبه من نسبة الفواحش إليه أكثر وأضخم -صلى الله عليهم أجمعين- حتى لا تتماسك نفس على خلق عظيم، وكيف تفعل وأمامها دليلها الناهض من عَربدة الأنبياء -كما زعم اليهود- ومجانة الأولياء على ما قال أحبار السوء -قاتلهم الله.

لقد دنسوا أول شيء سيرة أبيهم يعقوب -عليه السلام- فصوروه سارقًا للنبوة من أخيه، ومستحلًّا استغفال أبيه، والكذب عليه إلى درجة التمثيل الساذج، والتلاعب البين الذي  لا يخرج عن أساطير الصغار وهزل الصبيان، وهذا موجود في (سفر التكوين الإصحاح السابع والعشرين) وما بعده.

أما النبي الصالح داود -عليه السلام- والذي ينشدون مملكتَه اليوم- فقد خصُّوه وأهل بيته جميعًا بأوجع نصيب من التهم، وجعلوا منهم أسرة تعيث في الخطايا والدنس بكل ألوانه الحالكة، فهم يرمونه ابتداء -يرمون داود عليه السلام النبي الصالح الكريم- بالزنى مع امرأة أحد جنوده المجاهدين في سبيل الله حتى حملت منه سفاحًا، ثم يقصون كيف احتال داود على الجندي المجاهد من أجل أن يضاجع زوجته؛ ليُنسب الحمل إليه -إلى الزوج- ولَمَّا أبَى الجندي أن يذهب إلى بيته، ويترك إخوانه المجاهدين، تآمر عليه داود؛ ليستر جريمة الزنى بجريمة قتل المجاهد، ثم يعاقبه الله تعالى -بزعمهم يعاقب داود – فيسلط عليه أبنه “أَبْشَلُوم” فينزع ملكه، ويزني بسراري أبيه أمام جميع إسرائيل، وقبل هذا كان “أبشلوم” قد قتل أخاه “أمنون” ابن داود؛ لأنه زنى بسمار شقيقة “أبشلوم”.

وهذا موجود في (سفر صمويل الثاني، في الإصحاح الحادي عشر) وما بعده.

أما سليمان صاحب الهيكل -الذي يتباكون اليوم من أجله- فقد نسبوا إليه كل خطيئة وفجور -وحاشاه عليه السلام مما تقوَّل المجرمون، وحاشا الأنبياء جميعًا- فهو في زعمهم –أي سليمان- ابن المرأة الزانية بعد أن تزوجها داود، وهو الذي أمالت نساؤه الأجنبيات قلبه وراء آلهة أخرى حتى في العقيدة، وهذا موجود في (سفر الملوك الأول، الإصحاح الحادي عشر).

ثم في خاتمة النقائص جميعًا هو صاحب (نشيد الإنشاد) ذلك الغزل الداعر الذي ينسبونه إلى النبي الطاهر، ويتعبدون بتلاوته كأنه وحي مقدس، وما هو إلا وحي الشيطان نفثه على لسان خليع ماجن من شعراء بني إسرائيل.

هذا كله من باب التزييف والتحريف حتى على الأنبياء عليهم السلام.

دروس من جلال القرآن العظيم:

ولقد جاء القرآن العظيم ينصف الهداة الأساة -عليهم السلام- ويعلمنا زيف بني إسرائيل، وكيف حرفوا وزيفوا إلى أقصى الحدود، ويبرِّئ القرآن ساحةَ النبوة المقدسة من دَنَس الخطيئة، ويرفع الأنبياء جميعًا إلى ما هم خليقون به من ذروة الطهارة بكل معانيها الإنسانية والدينية.

ولنتأمل كل لفظ يشرف به القرآن العظيم أئمة الأنبياء الذين لوثت تاريخهم لوثة بني إسرائيل، ولنسجد إجلالًا لرب هذا القرآن الذي حمى شرف الوحي وجلال النبوة من دجل الأفاكين، وأكرم بيت داود من وهدة العار التي حفرها له السفهاء الألداء من اليهود، يقول الله تعالى في فضل داود -عليه السلام: ]اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ $إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ $ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ$ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ[(ص: 17-20).

أما سليمان -عليه السلام- فيكفي فيه هذا القول القرآني الجامع: ]وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[(ص:30) ويقول -جل شأنه- في آل داود: ]اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ[(سبأ:13).

وهكذا، نجد أن القرآن الكريم يبلغ الذروة العليا في الدفاع عن الأنبياء وبيان فضلهم، وفي هذا بلاغ ومقنع لمن أراد أن يتعلم من القرآن العظيم.

والسؤال هنا: لماذا تصدى القرآن الكريم لهذا الجانب التصحيحي الخطير؟

والجواب في إيجاز:

أولاً: إحقاقًا للحق وإنصافًا لتاريخ أطهر بشر درجوا على الأرض -عليهم السلام- جميعًا.

ثانيًا: ترسيخًا لأصول الأخلاق؛ حتى تثبت معايير الفضائل وتبدو أصالة الحرمات والقيم، ويستشعر الناس جلالها وكراماتها، وأهميتها البالغة.

ثالثًا: دحضًا وإسقاطًا لخطة اليهود في إشاعة الفاحشة، وهدمًا لِمَا أرادوه من تهوين عقدة الفضائل في النفوس البشرية، وما رتبوه على ذلك من إغراء الناس بالرذائل باعتبارها قدرًا مقدورًا، أو جِبلة بشرية من العبث مقاومتها وكبتها، فإن كبار الأنبياء -في زعمهم- لَمْ يمكنهم ذلك، فيأتي القرآن يعكس القضية على اليهود.

وإذا كان اليهود اليوم قد نجحوا في إطلاق السعار الجنسي، والانحلال الشهواني في العالم المعاصر، فما ذلك إلا لغيبة المسلمين عن ساحة الحياة، وحلبة التأثير العالمي، ولا يوجد غير القرآن اليوم شيء يقارع الإعصار، ويكبح هذا الطوفان.

فنسأل الله -عز وجل- أن يوفق المسلمين؛ ليأخذوا بهذا الكتاب العظيم -القرآن- لأنه هو المرشح لإنقاذ البشرية، ولرد الاعتبار للقيم العليا، والأخلاق الأصيلة، والعقائد الكريمة التي شرف الله تعالى بها الإنسان، ورفعه بها عن خِسة المادة المجردة، معبودة بني إسرائيل من قديم.

وتلك -بإذن الله- مهمة عظمى سوف يؤديها القرآن في الأرض اليوم، كما أدَّاها بالأمس، والعاقبة للمتقين.

والله ولي التوفيق.

([1])  راجع: معركة الوجود بين القرآن والتلمود، المرجع السابق، صـ105-110، د: عبد الستار سعيد، الطبعة السادسة 1415هـ، دار النشر والتوزيع الإسلامية، القاهرة، وسيرة الرسول ^، صورة مقتبسة من القرآن الكريم، للشيخ محمد عزة دروزة، مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1367هـ-1948، صـ49 وما بعدها، خاصة الصفحات، 53-56.

([2])  راجع: معركة الوجود بين القرآن والتلمود، المرجع السابق، صـ116 وما بعدها، وسيرة الرسول ^، 2/70 وما بعدها.

([3])  راجع: معركة الوجود بين القرآن والتلمود، المرجع السابق، صـ121 وما بعدها، سيرة الرسول ^، 2/111 وما بعدها.

([4])  راجع: معركة الوجود بين القرآن والتلمود، المرجع السابق، صـ123 وما بعدها، سيرة الرسول ^، 2/65 وما بعدها.

([5])  راجع: معركة الوجود بين القرآن والتلمود، المرجع السابق، صـ134 وما بعدها إلى 148، وسيرة الرسول ^، للشيخ محمد عزة جـ2، صـ65 وما بعدها.

([6])  راجع: معركة الوجود بين القرآن والتلمود، المرجع السابق، صـ 148-160، والإصحاح التاسع من سفر التكوين، في أول التوراة التي بأيدي أهل الكتاب جميعا.

([7])  رواه أبو هريرة، وإسناده جيد كما قال ابن كثير في تفسيره للآية (163) وما بعدها من سورة الأعراف.

الجزء الاول

بيان القرآن لانحرافات النصارى، وطرق الرد عليهم الاستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعتي الأزهر وأم القرى (سابقا)

https://hidayat-alhayara.com/بيان-القرآن-لانحرافات-النصارى،-وطرق-ا/