تبدأ القصة بتقرير حقيقة هي الأكثر ترددًا في أحداث التاريخ البشري كله، حقيقة أن الله تعالى أرسل النور لأهل الأرض بآياته مع رسله وأنبيائه؛ ليخرج الناس من الظلم والظلمات، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ولكن كما جرت العادة وتجري يكون هناك دائمًا مَن يتسيَّدون ويتصيَّدون في الظلام، ويتغذون على حيوات الناس وآمالهم، يخدعوهم بوجوه براقة مستعارة، وهي في الحقيقة وجوه الذئاب والخفافيش، وفي كل حال، فالظلام يحميهم، وأي محاولة لنشر النور هي في الحقيقة كشف وإهلاك لهم، ولذلك فهم أحرص الناس على محاربة نور السماء، ولكن مهما كانت صولة الباطل، فلا بد من انهزامها بيد عدالة السماء التي تدافع عن نورها بكل سبيل – بالحكمة والموعظة الحسنة – فإن لم يجد فبالسيف والنار والهلاك للمفسدين؛ يقول الله سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [غافر: 21، 22].

يقول تعالى ذكره: أو لم يسر هؤلاء المقيمون على شركهم بالله، المكذبون رسوله من قريش (ومن غيرهم إلى يوم القيامة) – في البلاد، ﴿ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ يقول: فيرون ما الذي كان خاتمة أمم الذين كانوا من قبلهم من الأمم الذين سلكوا سبيلهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، ﴿ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾، يقول: كانت تلك الأمم الذين كانوا من قبلهم أشد منهم بطشًا، وأبقى في الأرض آثارًا، فلم تنفعهم شدة قواهم، وعظم أجسامهم؛ إذ جاءهم أمر الله، وأخذهم بما أجرموا من معاصيه، واكتسبوا من الآثام، ولكنه أباد جمعهم، وصارت مساكنهم خاوية منهم بما ظلموا.

﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾، يقول: وما كان لهم من عذاب الله إذ جاءهم، من واقٍ يقيهم، فيدفعه عنهم، وهذا الذي فعل الله بهؤلاء الأمم الذين من قبل مشركي قريش من إهلاكهم بذنوبهم، فقد كانت تأتيهم رسل الله إليهم بالبينات، يعني بالآيات الدالات على حقيقة ما تدعوهم إليه من توحيد الله، والانتهاء إلى طاعته، ﴿ فَكَفَرُوا ﴾، يقول: فأنكروا رسالتها، وجحدوا توحيد الله، وأبوا أن يطيعوا الله، ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ﴾، يقول: فأخذهم الله بعذابه فأهلكهم، ﴿ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، يقول: إن الله ذو قوة لا يقهره شيء، ولا يغلبه، ولا يعجزه شيء أراده، شديد عقابه بمن عاقب من خلقه، وهذا وعيد من الله مشركي قريش، (وغيرهم إلى يوم القيامة)، المكذبين رسوله محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، يقول لهم جلّ ثناؤه: فاحذروا أيها القوم أن تسلكوا سبيلهم في تكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وجحود توحيد الله، ومخالفة أمره ونهيه، فيسلك بكم في تعجيل الهلاك لكم مسلَكَهم، ثم يقول تعالى ذكره مُسَلِّيًا نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وكل من حمل لواء دعوته من أُمته)، عما كان يلقى من مشركي قومه من قريش، (وكل من عادى دعوة الحق إلى قيام الساعة)، بإعلامه ما لقي موسى ممن أرسل إليه من التكذيب، ومخيره أنه معليه عليهم، وجاعل دائرة السَّوْء على مَن حاده وشاقَّه، كسنته في موسى صلوات الله عليه؛ إذ أعلاه، وأهلك عدوه فرعون، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنا ﴾: يعني بأدلته، ﴿ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ يقول: وحججه المبينة لمن يراها أنها حجة محققة ما يدعو إليه موسى: ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾، يقول: فقال هؤلاء الذين أرسل إليهم موسى لموسى: هو ساحر يسحر العصا، فيرى الناظر إليها أنها حية تسعى، ﴿ كَذَّابٌ ﴾ يقول: يكذب على الله، ويزعم أنه أرسله إلى الناس رسولاً، فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحق من عندنا، وذلك مجيئه إياهم بتوحيد الله، والعمل بطاعته، مع إقامة الحجة عليهم، بأن الله ابتعثه إليهم بالدعاء إلى ذلك، ﴿ قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالله، ﴿ مَعَهُ ﴾ من بني إسرائيل، ﴿ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ﴾، يقول: واستبقوا نساءهم للخدمة.

﴿ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ﴾، يقول: وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جور عن سبيل الحق، وصد عن قصد المحجة، وأخذ على غير هدى؛ أي: إن هذا الكيد والحرب الشنعاء على المؤمنين، إنما هي للإبقاء على الضلال، والظلم، والظلماء، واستعباد الخلق لأجل شهواتهم، وأهل الضلال في كل زمان يسمون حروبهم تلك على النور بأسماء، وهم اليوم يسمونها الحرب على الإرهاب، والحرب لتحرير الشعوب، والحرب من أجل الحرية، وما هي إلا حريةٌ لشهواتهم وسيادتهم، تعيث في الأرض الفساد!

يقول تعالى ذكره: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ﴾ لملئه: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾ الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فيمنعه منا.

﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ﴾ يقول: إني أخاف أن يُغيِّر دينكم الذي أنتم عليه بسحره.

(وما خوفه – كما قلنا – إلا على الظلام الذي نسجه وأمثاله على الناس سنين ليستعبدوهم، وهم يخشون – أشد ما يخشون – نور الإسلام يفضحهم، ويُحرر الناس من عبوديتهم، وهم يحاربون ذلك بالكذب والتلبيس والإعلام الفاجر الداعر، ويتهمون النور بالفساد، وكما تقول العرب: رمتني بدائها وانسلَّت، وأي عقلٍ يقبل أن النور هو الفساد، والظلمة هداية، فكيف تحكمون؟!

عن قتادة قال: ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ﴾: أي أمركم الذي أنتم عليه، ﴿ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ﴾، والفساد عنده أن يعمل بطاعة الله، ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27]، يقول تعالى ذكره: وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت أيها القوم بربي وربكم من كل متكبر عليه، تكبَّر عن توحيده، والإقرار بألوهيته وطاعته، لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص موسى صلوات الله وسلامه عليه الاستعاذة بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب؛ لأن من لم يؤمن بيوم الحساب مصدقًا، لم يكن للثواب على الإحسان راجيًا، ولا للعقاب على الإساءة، وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفًا، ولذلك كان استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة، وقوله: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾، اختلف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن، فقال بعضهم: كان من قوم فرعون، غير أنه كان قد آمن بموسى، وكان يُسِر إيمانه من فرعون وقومه خوفًا على نفسه، عن السدي: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، قال: هو ابن عم فرعون، ويقال: هو الذي نجا مع موسى، فمن قال هذا القول، وتأوَّل هذا التأويل، كان الوقف صوابًا إذا أراد القارئ الوقف على قوله: ﴿ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾؛ لأن ذلك خبر متناهٍ قد تَمَّ.

وقال آخرون: بل كان الرجل إسرائيليًّا، ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون.

والصواب على هذا القول لمن أراد الوقف أن يجعل وقفه على قوله: ﴿ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾؛ لأن قوله: ﴿ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ صلة لقوله: ﴿ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾، فتمامه قوله: ﴿ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾، (قلت: هذا من بديع بلاغة القرآن وعجائبه، فإن كون الرجل من آل فرعون، أو من قوم موسى يكتم إيمانه من آل فرعون خوفًا، لا يهم، وإنما يهم إيمانه، وتقدير تمام الكلام بهذا الوقف أو ذاك، هو إعجاز على إعجاز). قال الطبري رحمه الله تعالى: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، القول الذي قاله السديّ من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون، قد أصغى (فرعون) لكلامه، واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله، وقيله – (أي قول هذا الرجل المؤمن) – ما قاله، وقال له: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، ولو كان إسرائيليًّا، لكان حريًّا أن يعاجل (فرعون) هذا القائل له ولملئه ما قال بالعقوبة على قوله؛ لأنه لم يكن يستنصح بني إسرائيل – (أي يطلب النصح منهم) – لاعتداده إياهم أعداءً له، فكيف بقوله ونهيه عن قتل موسى لو وجد إليه سبيلاً؟! ولكنه لما كان من ملأ قومه، استمع قوله، وكفَّ عما كان همَّ به في موسى.

(قلت: وهذا واللهِ تحقيق العلماء وفِقههم، يؤتيه الله من يشاء).

وقوله تعالى: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28]، يقول: أتقتلون أيها القوم موسى لأن يقول ربي الله؟ فإن في موضع نصب لما وصفت (مفعول لأجله)، ﴿ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾، يقول: وقد جاءكم بالآيات الواضحات على حقيقة ما يقول من ذلك، وتلك البينات من الآيات يده وعصاه، وقوله: ﴿ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ﴾، يقول: وإن يك موسى كاذبًا في قيله: إن الله أرسله إليك يأمركم بعبادته، وترك دينكم الذي أنتم عليه، فإنما إثم كذبه عليه دونكم، ﴿ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾، يقول: وإن يك صادقًا في قيله ذلك، أصابكم الذي وعدكم من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله، فتزيدوا ربكم بذلك إلى سخطه عليكم بكفركم سخطًا.

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾، يقول: إن الله لا يوفق للحقّ من هو متعد إلى فعل ما ليس له فعله، كذاب عليه يكذب، ويقول عليه الباطل وغير الحقّ، وقد اختلف أهل التأويل في معنى الإسراف الذي ذكره المؤمن في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني به الشرك، وأراد: إن الله لا يهدي من هو مشرك به مفتر عليه، والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هذا المؤمن أنه عمّ بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾، والشرك من الإسراف، وسفك الدم بغير حقّ من الإسراف، وقد كان مجتمعًا في فرعون الأمران كلاهما، فالحقّ أن يعم ذلك كما أخبر جلّ ثناؤه عن قائله أنه عمَّ القول بذلك؛ يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ ﴾؛ يعني: أرض مصر، يقول: لكم السلطان اليوم والملك ظاهرين أنتم على بني إسرائيل في أرض مصر.

﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ ﴾، يقول: فمن يدفع عنا بأس الله وسطوته إن حلَّ بنا، وعقوبته إن جاءتنا؛ قال فرعون ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى ﴾، يقول: قال فرعون مجيبًا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: ما رأيكم أيها الناس من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحًا وصوابًا، ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، يقول: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصواب في أمر موسى وقتله، فإنكم إن لم تقتلوه بدَّل دينكم، وأظهر في أرضكم الفساد، (قلت: إنه لمن غاية الطرافة أن يدَّعي هذا المجرم وكل مجرم أنه صاحب نظرية وجيهةٍ في إجرامه، بل منهج هداية، ولكنها الهداية الى الغواية، الهداية التي تحارب النور، وتلك دعوى كل مفسد في الأرض، يدَّعي الإصلاح، وحمل لواء الحرية، والأحلام الوردية، هؤلاء الذين يتاجرون بعقول الناس، وقلوبهم، وأرواحهم، يتلاعبون بهم تلاعب الصبيان بالكرة، بلا أي وخزة ضمير، ولا إنسانية، أسائل أمريكا: أين تحرير الشعوب من إبادة أكثر من مليوني شخص في العراق، ومثلهم في أفغانستان، وتدمير سبع عشرة مدينة تدميرًا كاملاً من أصل بضع وعشرين في كوريا الشمالية، وكذلك هيروشيما، ونجازاكي، والقنبلة النووية التي أهلكت ما يقارب المليون نفسٍ في ساعة واحدة، واستعمال الأسلحة الفسفورية والمشوِّهة المحرَّمة دوليًّا في العراق وأفغانستان، وفلسطين والشيشان وغيرها؟! أين الحرية من الأطفال المشوهين مُدمَّري الحياة، بسبب عبثهم بالأسلحة المدمِّرة الفتاكة؟! أين الحرية والعدل من جياع الأرض الذين دفعوا فاتورة الأسلحة التي يشتريها حسالة الأرض بتأجيج الرجل الأبيض في كل مناطق التوتر في العالم؛ ليحاربوا بعضهم البعض؛ فيموت من يموت، ويجوع من يجوع، ويتمتع الرجل الأبيض المفسد بدماء الضحايا؟! أليس الإسلام هو المخلِّص الحق، والمنقذ من هذا التيه؟!

وكل دعاوى المفسدين بالإصلاح لا تساوى حتى المناقشة: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 11 – 13]، يقول الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ [غافر: 30، 31]، يقول تعالى ذكره: وقال المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: يا قوم إني أخاف عليكم بقتلكم موسى إن قتلتموه مثل يوم الأحزاب الذين تحزَّبوا على رسل الله نوح وهود وصالح، فأهلكهم الله بتجرُّئهم عليه، فيهلككم كما أهلكهم، وقوله: ﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾، يقول: يفعل ذلك بكم فيهلككم مثل سنته في قوم نوح وعاد وثمود وفعله بهم، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾؛ يعني قوم إبراهيم، وقوم لوط، وهم أيضًا من الأحزاب، وقوله: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: وما أهلك الله هذه الأحزاب من هذه الأمم ظلمًا منه لهم بغير جرم اجترموه بينهم وبينه؛ لأنه لا يريد ظلم عباده، ولا يشاؤه، ولكنه أهلكهم بإجرامهم وكفرهم به، وخلافهم أمره؛ يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه: ﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾ بقتلكم موسى إن قتلتموه عقاب الله ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾؛ قال ابن زيد في قوله: ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾، قال: يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار، ثم قال بإسناده عن أبي هريرة: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: “يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَفَزِعَ أهْلُ السَّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ الله، وَيَأْمُرُهُ الله أنْ يُدِيمَهَا وَيُطَوِّلَهَا فَلا يَفْتَرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللهُ: ﴿ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ﴾، فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبَالَ فَتَكُونَ سَرَابًا، فَتُرَجُّ الأرْضُ بأهْلِها رَجًّا، وَهِيَ التي يَقُولُ اللهُ: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴾، فَتَكُونُ كالسَّفِينَة المُرْتَعَةِ فِي البَحْرِ تَضرِبُها الأمْوَاجُ تَكْفَأُ بأهْلِهَا، أوْ كالقِنْدِيلِ المُعَلَّقِ بالعَرْشِ تَرُجُّهُ الأرْوَاحُ، فَتَمِيدُ النَّاسَ عَلى ظَهْرِها، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حتى تأتي الأقْطارَ، فَتَلَقَّاها المَلائِكَةُ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَها، فَتَرْجِعَ وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ الله: ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾”.

فعلى هذا التأويل معنى الكلام: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضًا من فزع نفخة الفزع، فمعنى الكلام: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضًا؛ إما من هول ما قد عاينوا من عظيم سلطان الله، وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم، وإما لتذكير بعضُهم البعض إنجاز الله إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا، واستغاثة من بعضهم ببعض، مما لقي من عظيم البلاء فيه.

وقوله: ﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾، فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (يَوْمَ يُوَلُّونَ هارِبينَ فِي الأرْضِ حِذَارَ عَذَابِ اللهِ وَعِقابِهِ عِنْدَ مُعَايَنَتِهم جَهَنَّمَ).

قال مجاهد: قوله: ﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾، أي: فارين غير معجزين، ما لكم من الله مانع يمنعكم، وناصر ينصركم.

قوله: ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾، يقول: ومن يخذله الله فلم يوفّقه لرشده، فما له من موفق يوفّقه له؛ ا. هـ[2].

أقول: لقد اضطلع هذا الرجل المؤمن من آل فرعون بواجبات إيمانه أتم اضطلاع، وأثبت مقتضيات رجولته أقوى إثبات، فاستحق بذلك أن يصير مثلاً قرآنيًّا يُحتذى، ونموذجًا يُدرس في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم للرجال والأبطال.

إن الرجل هنا انطلق من رحم الفساد والضلال؛ ليُعلي كلمة الحق، ويدافع عنها بكل ما أُوتي من فصاحة وبلاغة، وفَهمٍ دقيق وعميق للقضية التي يناضل من أجلها، لقد رسخ في قلب الرجل إيمانه الذي تدلنا الآيات الكريمات أنه كمَّله بالعلم، والتدبر، والفهم العميق للواقع المحيط، وطبيعة المخاطبين بالدعوة إلى الحق، وكذا طبيعة الحرب على هذا الحق، ثم إن الرجل استغل موقعه في صنع القرار والنصيحة في ملك فرعون، استغل ذلك في خدمة دينه وعقيدته بلسانٍ فصيحٍ، وحججٍ قويةٍ، وإصرارٍ بالغٍ على الدفاع عن دعوة الحق ورموزها، هذه الصفات التي تمتع بها هذا الداعية الفذ من الإيمان بالحق، والفهم الدقيق العميق لقضية الحق، والقدرة على قول هذا الحق، واستغلال المواقف والمواقع لإعلاء كلمته، والإحاطة التامة بواقع الحرب على الحق وأهله، وينضاف إليها الفصاحة والبلاغة، وامتلاك لغة العصر في ترسيخ كلمة الحق، هذه الملكات هي ما يعلمنا القرآن الرائع بآياته العظام في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لنكون أهلاً لحمل لواء هذا الدين ونشر النور الذي أتى به.

إن مؤمن آل فرعون لم يلبث أن وجد فرصة ينشر بها دينه، ففعل دون تردد وبكل قوة وبيان، وهذا الإيمان بالقضية والاستماتة في سبيلها، هو بالحقيقة أشد ما نحتاجه اليوم في زمن خارت فيه العزائم، وقلَّ الرجال، فهل المؤمنون اليوم أقل من مؤمن آل فرعون إيمانًا، أم أنهم حقيقةً يدَّعون الإيمان؟! وَفِي حَدِيثِ حَارِثَةَ الْمَشْهُورِ – وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلَةٍ، وَرُوِيَ مُتَّصِلًا، وَالْمُرْسَلُ أَصَحُّ – أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: “كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا، قَالَ: أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ”[3].

——————————————————————————–

[1] جاء في القاموس الوسط بالتحريك من كل شيء أعدله يقول ربنا: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]؛ أي عدلاً في الأمم وأقومها، والوسط بالتسكين يفيد الظرفية، وقيل: كل ما ينفع بدلاً من (بين)، وخاصة إذا كان بين أشياء مختلطة، ووسط الشيء بالتحريك أيضًا هو ما بين طرفيه؛ ا. هـ، بتصرف من القاموس المحيط، مادة (وسط)، وهي فائدة لغوية.

[2] تفسير الطبري جامع البيان، 21 /371- 383، تحقيق أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة ط الأولى2000 م، بتصرف يسير وحذف، وتعليقات بين القوسين.

[3] من جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 /128، وقد أخرجه: الطبراني في “الكبير” (3367)، والبيهقي في “شُعب الإيمان” (10591)، من حديث الحارث بن مالك، به مرفوعًا، وأخرجه: البزار (32)، والبيهقي في “شُعب الإيمان” (10590) من حديث أنس بن مالك، به مرفوعًا، وهو ضعيف الإسناد.