كتب أديب في جريدة الأهرام الصادرة في صباح ذلك اليوم كلمة بعنوان (يوم شم الدماء – الإنسانية تتألم والآمال تتحطم) جاء في صدرها: سلام على الأيام الغابرة إذا كانت تطوي في ثناياها يوماً ينشره الربيع لشم النسيم واستمتاع البشر بجمال الطبيعة مُكبرين ما فيها من صنع الخلاق العظيم، مبكرين إلى الرياض والحقول والخمائل، مرتقبين حلول هذا القيد الوطني لجلاء الغمرات عن النفوس واستعادة النشاط إلى الجسوم.

 

واليوم يطلع علينا هذا العيد وقد تضرجت وجنتاه بحمرة قانية، ولكنها ليست بحمرة البهجة والغبطة أو الرخاء والسلام، وإنما هي حمرة الدماء تغمر الوجوه كما تغمر القلوب وتحطّم الآمال وتثير الآلام. فلا غرو إذا قلنا إنه يوم شم الدماء لا شم النسيم. وكيف يكون للنسيم هبوب في مهب هذه الحرب الجائحة وما فيها من حوادث فاجعة ومجازر دامية تبعث في الإنسان شعوراً يكاد الناظر يلمسه بيديه وعينيه، ما فيها من الحزن والأسى ما ينطق بأصغرية وأكبرية.. الخ ما كتب وأسهب في وصف شقاء العالم وما يعانيه الناس من بلاء ماحق بسبب هذه الحرب الزبون التي لا يعلم إلا الله أيان مرساها.

 

ومن الغريب أن الناس كلهم أجمعوا على إغفال ما قدمته أيديهم والذي بسببه حقت عليهم كلمة العذاب. فهم يريدون أن يدعهم الله سبحانه يتظالمون ويفسقون ويفعلون ما يشاءون من غير أن يذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.

 

وحتى فريق الكتاب الذين نصبوا أنفسهم لإرشاد الناس وتبصرتهم بعيوبهم سواء المسلمون منهم وغير المسلمين، أغفلوا هذا الأمر وشاركوا الناس في بكائهم ولم يعهوا بتشخيص دائهم، مع أن الكتب السماوية جميعها قصّت من أخبار القرون الماضية ما يكفي للتحذير مما وقعوا فيه ونالهم من جرائه الهلاك والدمار، وأخبرتنا أن إنزال العقوبة المجرمين – بعد إلزامهم الحجة – من سنن الله الكوني التي هي جزء من نظام العالم الأساسي والتي قول الله عنها ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 62].

 

وما كان الله ليذر الناس على ما هم عليه من فساد لم يُرتكب على وجه الأرض مثله منذ أن وقعت فيها أول جريمة إلى اليوم بدون أن يصهرهم بمثل هذه النار المشبوبة ولحمم المصبوبة، فإما أن يقلعوا أو يعودوا في الغابرين.

 

وأشق مهمة أمام الكاتب الناصح هي طريق إيصال ذلك إلى أذهان الناس وإدخاله مكان الاعتقاد من قلوبهم بعد أن ضعف سلطان الدين على هذه القلوب أو زال تماماً، وانصرفت إلى الدنيا وزخارفها وملاهيها هذا الانصراف، وصدفت عن الله وآياته هذا الصدوف. فكلما نصحهم ناصح، أو صاح بهم صائح، أعادوا سيرة قوم نوح من جعل الأصابع في الآذان، واستغشاء الثياب، واللج في الإصرار، والاعتصام بالاستكبار. فهم لا يريدون أن يصدقوا أن هناك علاقة بين مخازيهم وبين ما هو واقع بهم، بل يحاولون دفع هذه الحقيقة بكل ما أوتوا من قوة، وإن في ذلك لهدما للعقيدة لو كانوا يعقلون، وتكذيباً من مدعي الإسلام لنصوص القرآن. فاستمع إليه إذ يقرر هذه القضية في قوة وجلاء مستعرضاً ذنوب الأمم الخالية، ذاكراً لون عقوبتها. وذلك قوله من سورة العنكبوت ﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 31].

 

فقل لي بربك أي وضوح في رد الأسباب إلى مسبباتها بعد هذا الوضوح؟ وأي ارتباط بين مقدمة ونتيجتها مثل هذا الارتباط؟

 

وإنا نعود فنسأل الكاتب الأديب بعد أن نستعدي عليه ضميره: هل حقيقة أن الناس يخرجون في يوم “شم النسيم” “مبكرين إلى الرياض والحقول والخمائل: مكبرين ما فيها من صنع الخلاق العظيم” أو أن أكثرهم يخرج في هذا اليوم على نية معصية الخلاق العظيم؟ والشاهد على ذلك ما يرتكبونه من أعمال هي أقرب إلى أعمال السائمة التي لا تتقيد بعقل ولا حياء ولا شريعة؛ فعند ما تحتل الخمرة مكان التفكير منهم تنطلق شهواتهم من عُقُلها ويختلط النساء بالرجال يتراقصون ويتهارشون يقبض الرجل على أي عضو من أعضاء المرأة شاء؛ لا البنت تخجل من أبيها ولا الزوجة من زوجها ولا الأخت من أخيها!! وكيف يتسرب الخجل إلى وجوه رجال ماتت الغيرة والشهامة فيهم، ونساء على غرار رجالهن فقدن العفة والحياء!!

 

ولو كان ذهاب الناس إلى الحقول والرياض في يوم شم النسيم أو غيره بقصد النزهة البريئة ومشاهدة الزهر على أغصانه والثمر في إبانة والطير واستماع ألحانه لكان ذلك من أحسن العبادات وأجل القربات، فإن فيه التدبر في بديع صنع الله والتفكر في باهر قدرته، فقد ندب إلى ذلك وحث عليه في مواضع كثيرة من كتابه فقال من سورة الأنعام ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99].

 

فقوله تعالى أنظروا إلى ثمره معناه نظر تدبر واتعاظ يكسب الإيمان ويقوي اليقين، ولذلك اختتم الآية بقوله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.

 

نعم لو أن الناس كان انتجاعهم للغياض والبساتين لهذا الغرض الشريف لكانوا من عباد الله المخلصين ولكن الواقع المشاهد غير ذلك، فعيونهم عن هذا الجمال جد عمياء، وقلوبهم عن حكمة الانتفاع به غلفاء، ونفوسهم عن هذا الوعظ الإلهي جامحة، بل عن هواها وشهواتها غير بارحة؛ وهم ينتهزون كل فرصة فيعطونها من اللذائذ ما تشاء!

 

ألا ترى أن الظلام الذي فرضته علينا هذه الظروف القاسية كان من شأنه أن يكون نذيراً لنا بين يدي عذاب شديد فتقابله بالتوبة من الذنوب والرجعى إلى الله، فإننا لا ندري أيفجؤنا القضاء اليوم أو غداً، فنكون من أمرنا على استعداد ولكن شيئاً من ذلك لم يكن بل الأمر استحال إلى الضد، فقد استخدم بعض الفساق هذا النذير العريان في قضاء لباناتهم فصاروا يستترون بالظلام ويرتكبون الآثام، ولعل أولئك لو سقطت على رءوهم قنبلة فخسفت الأرض منن حولهم وأحدثت فجوة فيها لاستعملوها في ارتكاب الفواحش ولكان ذلك نهاية ما استفادوه منها!!. ولقد كان لأولئك سلف بعث الله فيهم الأنبياء مبشرين ومنذرين فما ازدادوا إلا طغياناً وكفراً، فقال واصفاً حالهم ﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ [الأنعام: 111].

 

فإذا تحقق وعيد الله لعباده بعد أن استباحوا محارمه ورتعوا في حماه وقد أنذرهم وحذرهم وآذنهم بإشهار الحرب عليهم إن لم يتوبوا فلا يلومون إلا أنفسهم.

 

وهذا الغم الذي يفري ضلوعهم ويشوي أكبادهم ليس ندماً على ما فات ولكنه حزناً على لذة أفلتت من أيديهم ومتاع حرمتهم إياه هذه الأيام الشداد.

 

فيا أيها الكتاب اتقوا الله ولا تبكوا مع الباكين، بل ليكن جهدكم منصرفاً إلى تفهيم الناس حقيقة ما هم فيه حتى يعلموا أن ما أصابهم نتيجة لازمة لخروجهم عن الجادة، والمنتقم الجبار هو نفسه الغفور الرحيم إذا ما صدقت التوبة وأنابت إليه القلو