عناصر الخطبة

1/أهمية بعث مآثر رموز الأمة وعلمائها

2/نشأة الإمام البخاري وطلبه للعلم

3/ثناء العلماء على الإمام البخاري

4/خطورة الطعن في كتب السُّنة

5/دعوة إلى قراءة ومدارسة كتب السنة.

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

 

أما بعد: إن أمةً لا تُبرِز سِيَر رموزها, لهي أمةٌ مبتوتة عن ماضيها, وحَرِيةٌ أن تُقَصِّر في غدها, وأمةُ الإسلام أغنى الأمم تاريخاً, وأوسع الأمم قدواتٍ ورموزًا, فما دُوِّنَ تاريخٌ كما دُوّن تاريخها، وما سُطِّرت مآثرُ وأخبارُ أشخاصٍ كما لهم, ولو عكف المسلمون على بعث مآثر رموزهم لكان في ذلك أعظمَ توجيه لجيل اليوم.

 

عودةٌ أخرى للسِّيَر وأخبار الرعيل الأول, وحديث اليوم هو إمام ارتبط اسمه باسم الحديث, وعَلمٍ يعرفه كل مسلم, اشتهر اسمه بارتباطه بأصح كتاب بعد كتاب الله.

 

إنه حديث عن الإمام العالم سيد المحدثين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري, بلدته بخارى, وهي اليوم جزء من دولة أوزبكستان.

 

إذن فهو غير عربي في الأصل, ولكن الأنساب لا تقدس أحداً, إنما يقدس المرء عمله وصلاحه وأثره.

 

عاش البخاريُ اليتم في صباه, فقد مات أبوه وهو صغير، مات بعدما كان مدرسة في الورع, حتى قال عن نفسه: عند وفاته: “لا أعلم في مالي درهمًا من حرامٍ ولا شبهةٍ“؛
فلا عجب أن يكون نتاج هذه العفّة في المأكل أعظم عون على نشأة الابن وصلاحه.

 

نشأ البخاري في حِجْر أمِّه الصالحة، وقيل: إنه كُفَّ بصره في صباه, فما زالت أمه تدعو الله حتى رأت يوماً في المنام من يقول لها: “يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك“، فأصبح وقد ردَّ الله له بصره.

 

انطلق الابن بعدها إلى حِلَق العلم ومن ورائه أُمُّه تدعو له وتوجّهه وتكفيه, فحفظ القرآن في صباه, وشرع في حضور حلقات الحديث, قال محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بَدْء أمرك؟ قال: أُلِهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب, فقلت: كم كان سنّك؟ فقال: عشر سنين، أو أقل, قال: فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء؛ أي: أهل الرأي.

 

وأكثر من الرحلة والأخذ عن الشيوخ, حتى كتب عن ألف وثمانين رجلاً من أهل الحديث, قال ورّاقه: سمعته يقول: “دخلت بلخ، فسألوني أن أُملي عليهم لكل مَن كتبت عنه حديثًا، فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم“.

 

ولطلاب العلم اليوم أهدي هذه العبارة التي تنبئ عن جدّ وجلَد منه؛ حيث قال: “لقيت أكثر من ألف رجلٍ, أهلِ الحجاز والعراق والشام ومصر، لقيتهم كرّات، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، وبالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد, مع محدثي خراسان“, فماذا نقول اليوم وحلقات العلم متاحة, ومع هذا ترى التقصير الكبير؟!

 

قال -رحمه الله-: “كنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أسلم عليهم، فقال لي مؤدبٌ من أهلها: كم كتبت اليوم؟ فقلت: اثنين، وأردت بذلك حديثين، فضحك من حضر المجلس, فقال شيخ منهم: لا تضحكوا، فلعلّه يضحك منكم يوماً“.

 

ثم ارتحل البخاري للحجّ مع أمه وأخيه, فبقي بمكة متغرباً لأجل الحديث, قال عن نفسه: “حججتُ، ورجع أخي بأمي، وتخلفتُ في طلب الحديث, فلما طعنت في ثماني عشرة، جعلت أصنّف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب “التاريخ”؛ إذ ذاك عند قبر رسول الله r في الليالي المقمرة, وقلَّ اسمٌ في التاريخ إلا وله قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب”.

 

ولقد رزق الله البخاري قدرةً في الحفظ فائقة, أذعن له فيها كل مَن عاصره ولقيه, أخبر عنه بعض أقرانه قائلاً: “كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيامٌ، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: إنكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما، فاعرضا عليَّ ما كتبتما, فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحْكِمُ كتبنا من حفظه, ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيّع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد, وهذه فتوح يجعلها الله لأقوامٍ وربك على ذلك قادر.

 

نعم كان بشراً كغيره, ولكنه أخبر عن سرّ حفظه؛ فقال: “لا أعلم شيئًا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر”, وهذه التي قصرنا فيها كثيراً, يحفظ أحدنا الحفظ مرة ثم يتركه وراءه, ولا يداوم النظر فيه, فيترحل منه سريعاً, ولو أدمن المرء النظر في شيء رسخ في ذهنه.

 

معشر الكرام: ولا تذكر السنة إلا ويذكر صحيح البخاري, ولقد كان سبب جمعه له كلمةً سمعها من شيخه ابن راهويه؛ حيث قال يوماً محادثاً تلاميذه: “لو جمعتم كتاباً مختصراً لسنن النبي -صلى الله عليه وسلم-“، قال البخاري: “فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب”, فما أعظمها من كلمة من مربٍّ, أنتجت مشروعاً, فيكفي ابن راهوية أنه يشارك البخاري في أجر الصحيح, وهو لم يعمل عليه, لكنه كان السبب في جمعه, فطوبى لمربٍّ محفّز, وشيخ يفتح لطلابه أبواب مشاريع, ربما ينال بها من الثواب أضعاف عمله بنفسه.

 

ولم يكن كتابه الصحيح جاء بالسهل, بل عمل عليه السنين الطوال في تصنيفه وانتقاء أحاديثه وطرقه, قال -رحمه الله-: “أخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مئة ألف حديث, وقال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين”, وقال: “صنّفت الصحيح في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله -تعالى-“.

مضى البخاري، وبقي كتابه بين الأنام يعمل عليه العلماء, ويشرحه الشراح, ويحفظه الحفظة, شغل الكتاب الناس من حين أن صنّفه, وحقّ له ذلك, فقد بلغ الغاية في التجويد والإتقان, وحتى في حياته, فقد قال الفربري: “سمع كتاب الصحيح من البخاري ما يقرب من تسعين ألف رجل“.

 

نعم مات البخاري ولم يخلف ولداً ذكراً, ولكنه خلف كتاباً عن آلاف الأبناء, وصدق من قال: “تآليف العالم ولده المخلّد“.

 

عباد الله: ومع ما كان عليه البخاري من العلم والحفظ, فقد كان ذا سمت وتعبُّد, ولسان عفّ, قال عن نفسه: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً, وقال: “ما اغتبتُ أحداً قطُّ منذ علمت أن الغيبة تضرّ أهلها“, فأين هذا ممن يفرون صباحاً ومساءً في أعراض المسلمين, والله المستعان.

 

وكان من أئمة أهل الورع, حُمِلت إليه بضاعة, فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية, فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم, فقال لهم: “انصرفوا الليلة”, فجاءه من الغد تجارٌ آخرون, فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم, فردهم, وقال: “إني نويت البارحة أن أدفع إلى الذين طلبوا أمس, بما طلبوا أول مرة, فدفعها إليهم بما طلبوا بربح خمسة آلاف درهم, وقال لا أحب أن أنقض نيتي“.

 

فرحم الله ذلك الجيل, الورعُ رائدهم, والتعبّد ديدنهم, والسمت هديهم, كانوا يحفظون الحديث فيمتثلونه, ويرونه السنة فيرتسمونها, وهكذا العلم, معلومة وعمل, وفهم وامتثال, فاللهم وفقنا لسلوك مسالكهم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

 

لما سلك البخاري طريق الربانيين؛ فإن مِن لازمِ الطريق الابتلاء, فقد ابتُلي الإمام في حياته بابتلاءات, بعضها من أقرانه وممن حسَده, وبعضها من أحد الأمراء, وكان في كلها عفّ اللسان, ممتثلاً خير الهدي في الصبر والرضا, فلم يُحْفَظ أنه تجنَّى على أحد من خصومه, لا بقولٍ ولا بفعلٍ, ولا عجب, فمن حوى السنة في صدره حريٌّ به أن يمتثلها.

 

بعث أمير بخارى خَالِد بْن أَحْمَدَ الذُّهْليّ إلى البخاري أن احمل إليَّ كتاب “الجامع”، “والتاريخ”، وغير هما لأسمع منك وأولادي.

 

فقال لرسوله: “أَنَا لَا أُذلُّ العِلْم، ولا أحمله إلى أبواب النّاس، فإنْ كانت لَهُ إلى شيءٍ منه حاجة فلْيحضر فِي مسجدي أو فِي داري, فإنْ لم يُعْجِبْه هذا فإنّه سلطان، فلْيمنعني مِن الجلوس ليكون لي عند اللَّه يوم القيامة، لأنيّ لَا أكتم العِلم“, فكان هذا سبب الوحشة بينهما.

 

وابتلاء آخر ناله من أحد أقرانه من العلماء, ضاق عليه بعدها الأمر, واشتدت المحنة.

 

وفي آخر عمره جاء إلى قريةٍ اسمها خرتنك “على فرسخين من سمرقند”, وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، قال أحدهم: فسمعته ليلةً يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: “اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك“، فما تم الشهر حتى مات.

 

وذُكِرَ له من الكرامات والرؤى, والأخبار ما يطول, فرحم الله ذلك الإمام, وجزاه عما قدم للإسلام خيراً.

 

ويشاء الله بعد قرون متطاولة أن يأتي من سفهاء الأحلام, وفاسدي المنهج من يطعن في الإمام ويشكك في كتابه, والحق أن ذلك إنما يزيد الناس استمساكاً بكتابه, ورجوعاً إليه, وأما المتطاولون فهم:

كناطح صخرة يوماً ليوهنا *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

 

قال الذهبي وهو مَن هو في علم الحديث: “وأمّا جامعه الصّحيح فأجلّ كُتب الْإِسلَام وأفضلُها بعد كتاب اللَّه -تعالى-“.

 

وهو أعلى شيء فِي وقتنا إسنادًا للنّاس, ومن ثلَاثين سنة يفرحون بعُلُوّ سماعه، فكيف اليوم؟ فلو رحل الشّخص لسماعه من مسيرة ألف فَرْسخ لَمَا ضاعت رحلتهُ, وأنا أدري أنّ طائفة مِنَ الناس يستقلّون عقلي فِي هذا القول، ولكن:

ما يعرف الشَّوقّ إلَا مَن يُكابدُهُ *** وَلَا الصّبابة إلّا من يعاينها

ومَن جهِلَ شيئًا عاداه، ولا قوَّة إلَا باللَّه.

 

وليس يخفى أن خصوم السنة وأعداء الدين إذ يشككون في صحيح البخاري إنما يقصدون بذلك التشكيك في كل السنة, فإذا تم لهم في البخاري فما سواه من كتب السنة أولى وأيسر.

 

ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون, فما زال الصحيح وما زالت كتب السنة عندنا محل السمع والبصر, يحفظها الحفظة, ويشرحها العلماء, ويستدل بها الخطباء, ويرويها الطلبة, على مر السنين, داعين لمن صنَّفها بالرحمة والغفران.

 

وكم هو حسنٌ أن يكون لكل منا رجوع لقراءة أحاديث المصطفى -عليه السلام-, لنحييها في بيوتنا, وندارسها مع أصحابنا, فهي الحكمة التي قال عنها الله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[البقرة:129].

 

وصلوا وسلموا….