الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي

﴿ قَالَ إِنِّي عبداللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ [مريم: 30]، تلك أول كلمة نطَق بها المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام لما أنطقَه الله وهو – في المهد – طفلٌ، وقد سجَّلها القرآن لتظلَّ صادِقة معبِّرةً، مؤثرةً خالدةً عبر القرون إلى قيام الساعة؛ حتى تنقطع أعذار المبدِّلين والمنحرفين عن شريعة المسيح والإسلام.

وقد ذكَّرتني هذه الآية الكريمة بكلمات بديعات لأحد القساوسة سابقًا بعد أن شرَّفه الله بالانتساب للإسلام وشريعته الغرَّاء، وكنتُ قد سألتُه في بيتي منذ سنَوات عن سرِّ إسلامه والإقبال عليه، فأخبرني بقصة طويلة، ورحلة عميقة شائكة في بحثه عن سبيل الحقِّ والهُدى، وذكَر فيها: أنه كان يعمل على تحضير رسالة ماجستير مِحوَرُها “وسائلُ جديدة للتشكيك في دين الإسلام”؛ وذلك من خلال نصوص القرآن الكريم.

وأثناء ذلك كان لِزامًا عليه أن يُطالع القرآنَ وآياته؛ تدقيقًا وتنقيبًا، ويُطالِعَ أيضًا كتب تفسير القرآن، مع الوقوف على الآيات المُتشابهات، واستخراج ما يُستطاع إخراجه من شكوك وشبهات حولها، ومِن ثمَّ بثُّها بين أمة الإسلام والقرآن؛ عسى أن يظفروا بتابع أو متذبذِب في عقيدته.

قال ذلك القسيس: “وأثناء بحثي ومطالعتي للقرآن أظلُّ أقلِّب في آياته وأردِّدها، فكانت تقابلني بعض الآيات المعجزات الواضحات، فتَمحق كل شبهاتي، وتبدِّد كل ظُلماتي، وتعيد تركيب فكري ورُوحي من جديد حول المسيح وأمِّه ودينِ الإسلام.

ومِن أعجَب وأشدِّ ما استوقفني – كلما عاودتُ البحث مرةً بعد مرَّة – سورةُ الإخلاص بآياتها العجيبة القصيرة المؤثِّرة، تلك الآيات التي كلَّما قربتُ مِن مُحاولة تشكيكٍ أو شبهة، وجدتُها تَصرخ في أعماقي، وتُخاطب فِكري وعقلي وروحي معًا، وتقول لي في شأن الله الواحد الأحد، وفي شأن المسيح عليه السلام: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 – 4].

ظللتُ معها سنَوات فما أجِدُني إلا باكيًا متذبذبًا في عقيدتي المُنحرفة، فما وجدتُ نفسي آخِرَ الأمر إلا أن أَستسلِم لسلطان الحقِّ الظاهر القاهر، وللإيمان بوحدانية الله وتفرُّده سبحانه، وأن المسيح عيسى ابن مريم عبدُ الله ورسولُه، والحمد لله على نعمة الهداية والإسلام”؛ انتهى مختصرًا من حِواري الطويلِ معه، فشكرتُه، ودعَوتُ الله أن يثبِّته ويَشرح صدره لكل خير أبدًا.

ونحن نقول: الحقُّ – لا ريب – له قوة وسُلطان، وتأثير على النفس والقلب، ولا يَملك عاقلٌ مدركٌ للحقائق الواضحات إلا أن يَستسلم لبرهانها ويُذعنَ لها، وإن حالة الإيقان والإيمان التي استولَت على ذلكم القسِّيس الصادق، لحريٌّ بها أن تُشعل الإيمان المخدَّر والعقائد المنحرفة عند كثيرٍ من أمثاله من أمة النصارى؛ بحثًا وتنقيبًا عن سبيل الهدى والرشاد في شأن الادِّعاء بألوهية المسيح عليه السلام.

♦ ♦ ♦

إننا نعتقد[*] في شريعتنا الغراءِ أن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام هو عبدُ الله تعالى ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ البَتولِ وروحٌ منه، وأنه مولودٌ من غيرِ أبٍ – كما خلَق الله قبله آدمَ عليه السلام من غير أبٍ ولا أم، وهذا من دلائل قدرة الله الخالق الباهرة – وأنه نبيٌّ مكرَّم من أنبياء الله ورسله، وأنه من خيار أولي العزم من الرسل عليهم السلام جميعًا، وقد أظهَرَ الله على يديه المعجزات الباهرات، وخوارقَ العادات، التي تدلُّ على نبوته، وصدق رسالته.

وأنه قام بدعوة قومه إلى توحيد الله الواحد الأحد، وعبادته دون ما سواه من المخلوقات، وأنه عليه السلام عبدٌ مِن عباد الله، وأمُّه صدِّيقة كانا يأكلان الطعام، وليس لأحد أن يدَّعي له شيئًا غير ذلك؛ كما ادعى أقوامٌ مِن العالمين والسابقين أنه ابن الإله، وحاشاه أن يكون كذلك، وتعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.

كما نَعتقِد أيضًا أن المسيح عيسى عليه السلام قد بشَّر ببَعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يُصلَب ولم يُقتَل، بل رفعه الله تعالى برُوحه وجسده إلى السماء ونجَّاه، وجعل ذلك آيةً من آياته؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171]، وقال تعالى في الردِّ على فِرْية اليهود: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “فإنَّ المسيح عليه السلام لَمَّا رفعه الله إلى السماء تَفَرَّقت أصحابُه شِيَعًا بعدَه؛ فمِنهم مَن آمَن بما بعثَه الله به على أنه عبد الله ورسوله، وابن أمَتِه، ومنهم مَن غَلا فيه فجعَله ابنَ الله، وآخَرون قالوا: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالثُ ثلاثة، وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورَدَّ على كل فريق…”؛ اهـ.

كما نَعتقِد أنه ينزل في آخر الزمان حَكمًا مُقسِطًا، فيَحكم بين الناس بشريعة الإسلام القائمة، وليس كنبيٍّ، ويَكسِر الصَّليب، ويَقتُل الخنزير، ويرفع الجزية، ويُصلِّي خلف خليفة المسلمين المهديِّ، ويُقاتل معه مسيحَ الضلالة والكفر “الدجالَ” ومَن معه، فيَقتله عيسى، ثم يَعيش ما شاء الله تعالى له أن يعيش في هذه الحياة الدنيا، ثم يموتُ كسائر العالَمين، ويُصلِّي عليه المسلمون، ويُدفَن في الأرض.

وقد دلَّ على ما ذكَرْنا الأخبارُ الصريحة، والأحاديثُ الصحيحة، وتناقلتها الأمة جيلًا بعد جيلٍ، ولا مَجالَ لتأويلِها، ولا لِردِّها أو الإعراض عن قَبولها، بل العقل الصحيح، والنص الصريح يُوجبان الإيمانَ والإيقانَ بكل ما سبق دون تردُّد أو شكٍّ؛ كما قال تعالى في كتابه في شأن المسيح عليه السلام: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]، وقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 110].

وجاء في الحديث الصحيح: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، الأنبياء إخوة مِن عَلاَّت وأمَّهاتهم شتَّى، ودينهم واحد، وليس بيننا نبي))؛ متفق عليه.

وروى البخاريُّ ومسلمٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، ليوشِكَن أن يَنزل فيكُم ابنُ مريَمَ حكَمًا مُقسطًا فيكسر الصليب، ويقتُل الخنزير، ويضع الجزية، ويَفيض المالُ حتى لا يقبلَه أحد))، وزاد في رواية: ((وحتى تكونَ السجدة الواحدةُ خيرًا من الدنيا وما فيها)).

وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس بيني وبينه نبي – يعني: عيسى – وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرِفوه؛ فإنه رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتَين، كأنَّ رأسه يقطر وإن لم يُصبْه بلَل، فيُقاتل الناسَ على الإسلام، فيدقُّ الصَّليب، ويَقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويُهلك الله في زمانه المِلَل كلَّها إلا الإسلام، ويُهلك المسيحَ الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، ثمَّ يُتوفَّى ويُصلِّي عليه المسلمون)).

وقال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: “ونؤمن بأشراط الساعة؛ مِن خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء”.

وبعدَ هذا فلا يُمكننا أن نقول إلا بما قاله الله تعالى في كتابه: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 171 – 173].

وكذلك نقول ما في الحديث الصحيح عن عُبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنَّةَ حق، والنار حق، أدخله الله الجنة من أبواب الجنة الثمانية أيها شاءَ، على ما كان مِن العمل))؛ رواه البخاري ومسلم.

——————————————————————————–

[*] وللاستزادة يُنظر في كتب العقيدة، وموسوعة الأديان؛ لمعرفة معتقَد أهل السنة والجماعة في شأن المسيح عيسى عليه السلام.