قال الإمام مالك في الموطأ (669): عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل المدينة الطاعون ولا الدجال)).

هذا حديث صحيح، وبين الإمام مالك وبين الصحابي في هذا الحديث راوٍ واحد فقط، وهو تابعي ثقة، جالس أبا هريرة عشرين سنة كما في ترجمته، وقد روى هذا الحديث الإمام البخاري (1880) والإمام مسلم (1379) من طريق مالك رحمه الله.

ولم يتفرد بهذا الحديث نعيم المجمر عن أبي هريرة، فقد رواه غير واحد من أصحاب أبي هريرة، كأبي صالح ذكوان السمان كما في مسند أحمد (8917)، والعلاء الثقفي كما في مسند أحمد (10265)، وحفص بن عاصم كما في فضائل المدينة (16) للمفضل الجندي.

ولم يتفرد أبو هريرة برواية هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رواه غيره من الصحابة رضي الله عنهم، رواه أنس بن مالك كما في صحيح البخاري (7134)، وسعد بن أبي وقاص كما في مسند أحمد (1593)، وجابر بن عبد الله كما في مسند أحمد (15233).

لكن في حديث أنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل المدينة الدجال ولا الطاعون إن شاء الله))، بالجزم في الدجال، وبالتعليق بالمشيئة في الطاعون من غير جزم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري (10/ 181، 191): الوباء غير الطاعون،… وقد جزم ابن قتيبة في المعارف وتبعه غيره بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلاً،… وحديث أنس فيه: ((.. الدجال ولا الطاعون إن شاء الله))، واختلف في هذا الاستثناء، فقيل: هو للتبرك فيشملهما، وقيل: هو للتعليق، وأنه يختص بالطاعون، وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة. انتهى باختصار وتصرف يسير.

وقال الكشميري رحمه الله في فيض الباري على صحيح البخاري (6/ 57): عدم دخول الدجال في المدينة متيقنٌ، أما الطاعون فلم يدخل بعدُ فيها، وهو المرجو فيما يأتي، وقيد ((إن شاء الله تعالى)) يرجع إلى الطاعون دون دخول الدجال.

وقال المناوي رحمه الله في فيض القدير (4/ 321): ذكر جمعٌ أن الطاعون العام دخل مكة، أما المدينة فلم يُذكر أنه دخلها، وهذا من معجزاته؛ لأن الأطباء عجزوا عن دفع الطاعون عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه العصور المتطاولة.

وقال القرطبي رحمه الله في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 495): الطاعون الموت العام الفاشي، ويعني بذلك أنه لا يكون في المدينة من الطاعون مثل الذي يكون في غيرها من البلاد، كالذي وقع في طاعون عمواس والجارف وغيرهما، وقد أظهر الله صدق رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يُسمع من النقلة ولا من غيرهم من يقول: إنه وقع في المدينة طاعون عام، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((اللهم صححها لنا)).

وقال الفقيه الهيتمي رحمه الله في الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 21): قال النووي: الطاعون مرض معروف، وهو بثر، وورم مؤلم جدًّا … وقال: محققو الأطباء: الطاعون مادة سمية تحدث ورماً قتالاً، يحدث في المواضع الرخوة، والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط، وخلف الأذن أو عند الأرنبة، وسببه دم رديء مائل إلى العفونة، والفساد، فيستحيل إلى جوهر سُمِّي يفسد العضو، ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء، والغثيان، والغشي، والخفقان، … وتكثر الطواعين عند الوباء، وفي البلاد الوبية، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء، وعكسه، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح، ومدده اهـ. وبه يعلم أن الطاعون أخص من الوباء مطلقا، فكل طاعون وباء، ولا عكس،.. واستدل بعضهم بأنه صح أن المدينة لا يدخلها الطاعون، وصح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن المدينة أوبى أرض الله، وعن بلال أن المدينة أرض الوباء، فيلزم أن الطاعون غير الوباء. انتهى باختصار.

قلت: في وقتنا هذا انتشر فيروس كورونا في أكثر دول العالم، ودخل هذا الوباء المدينة النبوية، ولا يمكن أن يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الواقع، فهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، وبالرجوع إلى كلام أهل العلم تبين لنا معنى حديث رسول الله.

والخلاصة: أن عدم دخول الدجال المدينة النبوية أمر متيقن، وأما دخول الطاعون المدينة فاختلف العلماء فيه، فذهب بعضهم إلى أن الطاعون قد يدخل المدينة إذا شاء الله، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الطاعون المدينة إن شاء الله))، ولم يجزم بذلك كما جزم بعدم دخول الدجال المدينة، وهذا الجواب الأول.

والجواب الثاني: التفريق بين الطاعون والوباء، فالطاعون مرض مخصوص مميت، له صفات معروفة، ومن ذلك ظهور أثره على الجلد، والوباء انتشار أمراض أخرى غير الطاعون، وقد تكون مميتة، وقد لا تكون مميتة، فالطاعون لا يدخل المدينة، وأما الوباء فيدخل المدينة كغيرها.

والجواب الثالث: لا يكون الطاعون في المدينة النبوية منتشراً مثل الذي يكون في غيرها من البلاد.

فهذه ثلاثة أجوبة كافية، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ونسأل الله أن يكشف عنا هذا الوباء والبلاء، وأن يرحمنا ويغفر لنا.