هل كانت الكتابة العربية غير منقوطة في العهد النبوي؟

إبراهيم أيت باخة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد:

نسمع كثيرا أن (الكتابة العربية لم تكن منقوطة ولا مشكولة إلا في عهد متأخر حينما ظهر اللحن وقامت دواعي ذلك، فانتدب لذلك أبو الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم)
ولعل هذه المعلومة من القضايا التي وقع فيها لبس كبير لكثير من دارسي الأدب العربي، فتناقلوها هكذا من غير تحقيق ولا تمحيص ولا حتى تأمل في انسجامها مع المنطق السليم.

ولهذا أحببت أن أنبه إخواني الأكارم إلى أن هذه المعلومة غير صحيحة البتة، وإلى أن تطور الحرف العربي والكتابة العربية كان متعلقا بجوانب تحسينية جمالية وتكميلية، وأما القواعد الضرورية التي لا تؤدي الكتابة دورها التواصلي المعرفي إلا بها، فقد رافقت الوضع الأول، وعلى هذا فإن العرب في أيامهم الغابرة من أيام الجاهلية قد خطّوا وكتبوا بهذه الحروف المنقوطة، ولم يكن ذلك طارئا في زمن متأخر.

وإنما وقع اللبس لمن قال بذلك، بسبب الخلط بين الإملاء العربي الاصطلاحي والإملاء القرآني العثماني، فالحروف التي لم تكن منقوطة في بدايتها هي حروف الإملاء العثماني الذي كتب به المصحف الشريف زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ذلك أن الصحابة الكرام حينما رأوا من الضرورة توحيد الأمة على مصحف واحد دفعا للاختلاف، وجدوا أن الإملاء القياسي المعروف لا يسعفهم في احتواء أوجه الاختلاف بين القراءات، إلا أن يقتصروا على وجه واحد، فاهتموا لذلك الأمر حتى اهتدوا إلى إملاء خاص بالقرآن يخالف بعض القواعد، وهو ما سمي بالرسم العثماني، هذا الرسم الذي جرد من النقط وتصرف فيه زيادة وحذفا، وفصلا ووصلا ونحو ذلك.

والدليل على وجود الإعجام (النقط) قبل الإسلام أمور:

دليل عقلي منطقي:

وذلك أننا (نجد للباء والتاء والثاء مع اختلافها في النطق صورة واحدة، وكذلك للجيم والحاء والخاء، وللدال والذال، وهلم جرا ويبعد كل البعد أن تكون الحروف موضوعة في أول أمرها على هذا اللبس المنافي لحكمة الواضعين، الذاهب بحسن الاختراع) [1].

دليل نقلي تاريخي:

رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان، وهي قبيلة سكنوا الأنبار، وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفًا مقطعة وموصولة، وهم: مُرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة -ويقال مروة وجدلة- فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام) وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح فهي دليل على كون الإعجام معروفا قبل الإسلام، قال الأستاذ ناصر الأسد: (وذلك أن في هذا القول لابن عباس -إن كان قاله- دليلًا واضحًا على أن ابن عباس كان يعرف الإعجام، وأن من قبله كانوا يعرفونه؛ وأما إن لم يكن قاله فما زال يحمل من الدلالة ما لا يصح معها أن نغفله، وذلك أن واضع هذا القول وناسبه إلى ابن عباس كان لا بد يعرف أن ابن عباس كان يعرف الإعجام وإلا لما قبل الناس قوله) [2].

دليل نقلي تقريري:

قال ابن الجزري رحمه الله: (ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – لَمَّا كَتَبُوا تِلْكَ الْمَصَاحِفَ جَرَّدُوهَا مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِيَحْتَمِلَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ مِمَّا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا أَخْلَوُا الْمَصَاحِفَ مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِتَكُونَ دِلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيهَةً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ) [3].

دليل من الأدب الجاهلي:

قال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:

كسطور الرق رقشه ×××× بالضحى مرقش يشمه

في لسان العرب: (رَقَش وَهُوَ تَنْقِيطُ الْخُطُوطِ وَالْكِتَابِ …. والرَّقْشُ والترْقِيشُ: الكتابةُ وَالتَّنْقِيطُ) [4].

دليل أثري:

حيث عثر على بعض الوثائق القديمة التي فيها حروف معجمة، منها وثيقة ذكرها الدكتور (Adolf Grohmann) يعود تاريخها إلى سنة 22 هـ وبها حروف منقوطة [5]، ومنها وثيقة تعود إلى سنة 58 هـ عبارة عن كتاب معاوية رضي الله عنه لبناء سد الطائف [6].

خلاصة:

الإعجام معروف منذ زمن ما قبل الإسلام، لكن ينبغي أن يشار إلى أنه لم يكن في صورة مكتملة ولا مقعدا هذا التقعيد المعروف، وإنما كان بطريقة بدائية للتمييز بين الحروف، وربما يترك جملة إذا أمن الالتباس وعلم ما في الكتاب، وهو عين ما فعله الصحابة الكرام، فإن إهمالهم للإعجام لكون القرآن محفوظا في الصدور، آمنا من كل لحن أو التباس، فلما اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه من لا يحسن العربية، احتاج الناس إلى تقعيد الإعجام وضبط الحروف كما احتاجوا إلى تقعيد وضبط مختلف العلوم، وكان الذي تولى ذلك أبو الأسود الدؤلي وتلاميذه ثم الخليل بن أحمد الفراهيدي.

مع التنبيه إلى أن عمل أبي الأسود ليس هو اختراع الإعجام، بل إن إعجام أبي الأسود لم يرد به النقط أصالة وإنما قصد بإعجامه التشكيل، قال العلامة جواد علي: (وأود أن أبين بهذه المناسبة أن تنقيط أبي الأسود للحروف لم يكن إعجاما بل كان شكلا، أي ضبط حركة الحرف من حيث الضم أو الفتح أو الكسر أو السكون) [7]، ويؤيد هذا المعنى ما ورد عن أبي الأسود أنه قال لكاتبه: (إذا رأيتني قد فتحتُ فمي بالحرف، فانقط نُقْطةً على أعلاه، وإذا ضَمَمْتُ فمي فانقط نقطةً بين يدي الحرف، وإذا كسَرْتُ فمي فاجْعَلِ النقطة تحت الحرف) [8].

أقول هذا القول وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : تاريخ الخط العربي وآدابه ص 83
[2] : مصادر الشعر الجاهلي ص 37
[3] : النشر ص 33
[4] : لسان العرب 6/305
[5] : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ص 8/187
[6] : رسم المصحف دراسة لغوية تفسيرية ص 757، نقلا عن الرحالة Samuel Barrett Miles
[7] : المفصل ص 8/191
[8] : أخبار النحويين، السيرافي ص