مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإستراتيجية الدعوة الإسلامية الشيخ / السيد راشد الوصيفي

قبل أن نكتب عن موضوع ميلاد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم علينا أن نعرِّج على ديانات العرب قبل الإسلام، وكذلك بيان الصورة التي كان عليها المجتمع العربي الجاهلي من الناحية الأخلاقية.

 

فلقد كان معظم العرب يتبعون دعوة إسماعيل – عليه السلام – حين دعاهم إلى اعتناق دين أبيهم إبراهيم – عليه السلام – فكانوا يعبدون الله وحده، ويَدينون بدِينه، حتى طال عليهم الأمد، ونسوا حظًّا مما ذكروا به، فعادوا إلى عبادة الأصنام حينما جاء عمرو بن لحي رئيس خزاعة، ووضع صنم هبل في جوف الكعبة، وقد دعا أهل مكة إلى الشرك بالله وعبادة الصنم، فاستجابوا له، وتبعهم أهل الحجاز؛ ذلك لأنهم ولاة البيت، وأهل الحرم.

 

وتعددت الأصنام، وكثر العباد، فكان أقدمهم صنم مناة، واللات، والعزى، وهذه كانت أكبر أوثانهم، وكثرت الأصنام، وكثر الشرك، ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رَئِيٌّ من الجن، فأخبره بأن أصنام قوم نوح، وهي: ود، وسواع، ويعوق، ونسر، مدفونة بجدة، فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها، حتى صار لكل قبيلة صنم، بل صار لكل بيتٍ صنم، وقد ملؤوا المسجد الحرام بالأصنام، ولما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنمًا، فجعل يطعُنُها حتى تساقطت، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحُرِّقت.

 

وقد كانت لهم تقاليد ومراسم في عبادة الأصنام؛ فقد كانوا يعكفون عليها ويلجؤون إليها، ويهتفون بها، ويستعينون بها في الشدائد، ويَدْعونها لحاجاتهم، معتقدين أنها تشفع عند الله، وتحقق لهم ما يريدون، بل كانوا يحجون إليه، ويطوفون حولها، ويتذللون عندها، ويسجدون لها، ويتقربون إليها بأنواع القرابين؛ فقد كانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامهم، معتقدين أنها تقربهم إلى الله، وتوصلهم إليه، وتشفع لديهم؛ كما جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 3].

 

وقد كانت العرب تستقسم بالأزلام، والزلم: هو القدح الذي لا ريش عليه، وكانت الأزلام ثلاثة أنواع، منها: نوع فيه (نعم)، و(لا)، وكانوا يستقسمون بها فيما يريدون من العمل، من نحو السفر والنكاح وأمثالهما، فإن خرج (نعم) عملوا به، وإن خرج (لا) أخروه عامَه، وذلك حتى يأتوا مرة أخرى، ونوع فيه (منكم) أو (من غيركم).

 

وليس ذلك فحسب، بل كانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافين والمنجِّمين، وكانت فيهم الطِّيَرة (بكسر ففتح)، وهي التشاؤم بالشيء، كان أهل الجاهلية على ذلك، وفيهم بقايا من دين إبراهيم (عليه السلام)، ولم يتركوه كله، مثل: تعظيم البيت، والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف بعرفة، والمزدلفة، وإهداء البُدْن، وقد ابتدعوا في ذلك بدعًا كثيرة، منها: أن قريشًا كانوا يقولون: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم، وولاة البيت، وقاطنو مكة.

 

كانت هذه الديانةُ، ديانةُ الشرك وعبادة الأوثان، والاعتقاد بالوهميات والخرافات، ديانةَ معظم العرب آنذاك، وقد وجَدت اليهودية، والمسيحية، والمجوسية، والصابئة، سبيلًا للدخول في ربوع العرب.

 

تلك كانت الحالةَ الدينية عند العرب في الجاهلية قبل مجيء الإسلام، وقد أصاب هذه الدياناتِ الانحلال والبوار؛ فالمشركون الذين كانوا يدَّعون بأنهم على دين إبراهيم كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهيم – عليه السلام، وقد كانت عندهم خرافات مذمومة قد أثَّرت في الحياة الاجتماعية والسياسية تأثيرًا كبيرًا.

 

حالة العرب الأخلاقية:

لا ينكر أحدٌ أن لأهل الجاهلية دنايا ورذائل وأمورًا سيئة لا يقبلها عقلٌ سليم، إلا أنه كان فيهم من الأخلاق الحميدة الفاضلة ما يشد انتباه الإنسان، وما يدعوه إلى الدهشة والعجب، فمن هذه الأخلاق الحميدة:

1 – الشجاعة والكرم: فقد كانوا يتبارون في ذلك، ويفتخرون به أيما افتخار.

 

2 – الوفاء بالعهد: فقد كان العهد فيهم دِينًا يتمسكون به.

 

3 – عزة النفس والإباء: وذلك لفَرْط الشجاعة، وشدة الغيرة والحمية، فإن شموا رائحة الذل والهوان، قاموا إلى السيف والسنان.

 

4 – السذاجة البدوية: وما تحمل من الصدق والأمانة، والنفور عن الخداع والغدر.

 

فقد كانت أخلاقهم عالية، وشجاعتهم في الحق غالية، مع الصدق والوفاء بالعهد وعزة النفس؛ كل ذلك تميز به العرب في الجاهلية، مع ما هم فيه من موقع جغرافي متميز بالنسبة للعالم؛ كل ذلك كان سببًا في اختيارهم لحمل عبء الرسالة العامة، وقيادة الأمة قاطبة، وحمل رسالة ليست لهم وحدهم، وإنما هي للعالمين؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، كان ميلاد خير البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وإرساله رحمة وهداية ونورًا للعالمين.

وُلِد الهدى فالكائناتُ ضياءُ ♦♦♦ وفم الزمان تبسُّـمٌ وثناء

 

نسب النبي صلى الله عليه وسلم:

هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب – واسمه شيبة – بن هشام – واسمه عمرو – بن عبدمناف – واسمه المغيرة – بن قصي – واسمه زيد – بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر – وهو الملقب بقريش، وإليه تنتسب القبيلة – بن مالك بن النضر – واسمه قيس – بن كنانة بن خزيمة بن مدركة – واسمه عامر – بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان؛ (ابن هشام 1/ 21).

 

مولد النبي صلى الله عليه وسلم وإستراتيجية الدعوة:

ولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بشِعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول عام حادثة الفيل، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة 571، وقد روى ابن سعد: أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج مني نورٌ أضاءت له قصور الشام، وقد روى أن إرهاصات البعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت.

 

ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبدالمطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا، ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد، وهذا الاسم لم يكن معروفًا عند العرب آنذاك، وقد ختنه يوم سابعه، كما كانت تفعل العرب.

 

وأول من أرضعته من المراضع – بعد أمه (عليه الصلاة والسلام) – ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها، يقال له: مسروح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبدالمطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبدالأسد المخزومي، وبعد ذلك أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب، وقد رأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قصت من العجب، وهكذا بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده وقع حادث شق صدره؛ فقد روى مسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني ظِئْرَه – فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون؛ (صحيح مسلم، باب الإسراء 1/ 29).

 

وخَشِيَت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين، وقد رأت آمنة وفاءً لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلومتر، ومعها ولدها اليتيم — محمد صلى الله عليه وسلم – وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبدالمطلب، فمكثت شهرًا، ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، ويلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة؛ (ابن هشام 1/ 168).

 

وعاد به عبدالمطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم، الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة، فرقَّ عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل كان يؤثره على أولاده، ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبدالمطلب بمكة، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه.

 

وقد نهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده، وقدَّمه عليهم، واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يقر جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله.

 

إستراتيجية الدعوة والإعداد لها:

لقد تربى صلى الله عليه وسلم على الفضائل ومكارم الأخلاق، وتعود في حياته على الكد والكدح، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت بأنه كان يرعى غنمًا؛ فقد رعاها في بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط، ثم خرج تاجرًا إلى الشام وهو في سن الخامسة والعشرين، في مال خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها وأرضاها).

 

ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم ترَ قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه صلى الله عليه وسلم من خلالٍ عذبةٍ، وشمائلَ كريمة، وفكر راجحٍ، ومنطق صادق، ونهجٍ أمين – وجدت ضالتها المنشودة، وكان السادة والرؤساء يحرصون على زواجها، فتأبى عليهم ذلك، فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذٍ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.

 

وفي الخمس والثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة، ولما بلغ البنيان الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمسًا، واشتد حتى كاد أن يتحول إلى حربٍ ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي، عرَض عليهم أن يحكِّموا فيما شجر بينهم أولَ داخل عليهم من باب المسجد، فارتضَوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد.. فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، طلب رداءً، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه، أخذه بيده، فوضعه في مكانه، وهذا حلٌّ حصيفٌ رضي به القوم.

 

فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة؛ فكان أفضل قومه مروءةً وحِلمًا، وأحسنهم خُلقًا، وأعزهم جوارًا، وأصدقهم حديثًا، وأعفَّهم نفسًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمَنهم أمانةً، حتى سماه قومه “الأمين”؛ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة، والخصال المَرْضِيَّة، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها -: “يحمل الكَلَّ، ويَكسِبُ المعدوم، ويَقْرِي الضيف، ويُعين على نوائب الحق”.

 

تلك كانت رحلةَ ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي هيَّأته لحمل الرسالة الخاتمة للعالمين، والقيام بإستراتيجية الدعوة في مراحلها المختلفة، ويمكن تقسيم هذه الإستراتيجية الدعوية المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، إلى دورين هامين، وهما:

1 – الدور المكي، وكان على مدار ثلاث عشرة سنة تقريبًا.

2 – الدور المدني، وكان عشر سنوات كاملة.

 

فلقد كان لإستراتيجية الدعوة في دورها الأول أهميتها وخِصالها التي تميزها، فقد كانت على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنين.

 

المرحلة الثانية: مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة.

 

المرحلة الثالثة: مرحلة الدعوة خارج مكة، وقد كانت من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

 

وكانت إستراتيجية الهجرة وتأسيس أركان الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، وانتشار الإسلام في أنحاء المعمورة، رحمةً لكل العالمين، وصدق الله العظيم حينما قال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

 

الرسول صلى الله عليه وسلم رحمةٌ مهداة:

إن الرحمة نعمة كبرى من نعم الله، ورابطة إنسانية عظيمة، وإن الإسلام الحنيف يذكرنا دائمًا بالرحمة، ويرغبنا فيها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، فكان يقول: ((مَن لا يرحم الناس، لا يرحمه الله))؛ لذا كانت الرحمة عند رسولنا صلى الله عليه وسلم النبراس المضيء، والنور المبين، والهدي القويم، وهي من أجلِّ صفاته صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].

 

فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حليمًا عطوفًا، ورحمته فاقت كل وصف، وإن هذه الرحمة عند الرسول صلى الله عليه وسلم لا تنافي أو تناقض شجاعته، وليس أدل على ذلك من يوم أحد، في موقفه البطولي الرائع، ويوم حنين حين فر أصحابه وثبت صلى الله عليه وسلم في ميدان المعركة يقاتل الأعداء قائلًا: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب))، مما جعل أصحابه يشهدون بشجاعته، ويحتمون به.

 

ورحمة الرسول صلى الله عليه وسلم للإنسانية جمعاء، وكانت رحمته واضحة جلية مضيئة مع أصحابه؛ فقد كان يذود عنهم ويحميهم إذا اشتد الخطر، وما أكثر المواقف التي تجلت فيها رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم وشملت المسلمين كافة، وغيرهم، وتناولت أصدقاءه، وكذلك الأعداء، واتسعت للأغنياء والفقراء، ووسعت البشر والحيوان!

 

ومن صور رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى أحد أصحابه في حالة شدة وبأس يحزن لأجل ذلك حزنًا شديدًا، ويرق قلبه ويبكي متأثرًا من ذلك الموقف؛ فلقد زار سعد بن عبادة وهو مريض ومعه عبدالرحمن بن عوف وغيره، فلما بكى بكى معه الحاضرون، وقبَّل عليه الصلاة والسلام عثمان بن مظعون وهو ميت، وكان يبكي، حتى قالت عائشة: فرأيت دموع النبي صلى الله عليه وسلم تسيل على خد عثمان.

 

وقدم عليه صلى الله عليه وسلم شابٌّ مسلمٌ من اليمن راغبًا في أن يشترك في الجهاد، فقال له رسول الله: ((هل أبواك في اليمن؟))، قال الرجل: نعم، قال: ((هل أَذِنَا لك؟))، قال الرجل: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارجِعْ إليهما فاستأذنهما؛ فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبَرَّهما ما استطعت؛ فإن ذلك خير ما تلقى اللهَ به بعد التوحيد)).

 

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم: رِفقُه بأهله وخدَمِه؛ فقد كان سلوكه في بيته ومع خادمه نموذجًا ومثالًا رائعًا للرحمة، فكان عليه الصلاة والسلام يشتغل بخدمة أهله، ويَخيط ثيابه بنفسه، ويحمل الطعام إلى بيته.

 

تلك هي أهم صفات الرسول صلى الله عليه وسلم في الرحمة بالضعفاء والمساكين والناس كافة، فكان رحمة مهداة، وليس أبلغ من رحمته صلى الله عليه وسلم باليتيم، فيقول: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين))، وأشار بالسبَّابة والوسطى؛ رواه البخاري.

 

ومن دلائل رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ أوقد نارًا، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهم عنها، وأنا آخذٌ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي))، وفي رواية: ((إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والدواب يقتحمون فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها)).

 

وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ أوقد نارًا، فجعلت الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي))؛ (متفق عليه).

 

قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].

 

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، وهذا مما يدل على مدى سماحة الإسلام ويُسره، وكان صلى الله عليه وسلم نموذجًا حيًّا للأخلاق السمحة الفاضلة، وذلك لِمَا قد وُصِفَ به من رحمة ورأفة، وحرصٍ على هداية الناس كافة إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/94563/#ixzz641ghfWST