من صفات الداعية

تحقيق عقيدة الولاء والبراء

من الصفات المهمة للداعية تحقق عقيدة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراءة من الكفر والكافرين، وكل ذلك بالعدل، فلا يفرط في منح ولائه لمن لا يستحقه، أو يوالي المسلمين حتى مع الظلم والجور، ولا يتهاون في تبرُّئه من الكفار أو يغلو في ذلك، بل يعتدل ويتوسط، وأساس ذلك العدل، كما قال تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8] [1]، فالعدل حتى مع الأعداء، والبعد عن ظلمهم هو أقرب لتقوى الله تعالى.

 

والإفراط في البراء يكون بإيقاع الجور والظلم على المخالفين، وذلك يتنافى مع أخلاق الداعية، الذي يبذل البر والإحسان لأهله المستحقين له، ويخالق الناس بخلق حسن، إتباعا لقوله تعالى ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8] [2]، منعا لوقوع هذا الإفراط في العداوة للمسالمين من الكافرين.

 

في ذات الوقت الذي يأمر فيه تعالى بعدم التجاوز والتسامح على من حارب المسلمين منهم، ومنح الولاء لهم ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 9] [3]، بل يحصره في قوله ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 55] [4]، وينهى عن بذله للكفار، كما في قوله تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ﴾ [الممتحنة: 1] [5].

 

ويتضح المقصود بالوسطية بين الإفراط والتفريط في مسألة الولاء والبراء، بعقد مقارنات بين بعض مواقف المؤمنين: كموقف حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه[6] وموقف العباس رضي الله عنه[7]، إذ أن هدف كل من الصحابيين الجليلين إيصال خبر الغزو إلى قريش قبل أن يقع فعلا، ولكن عند النظر إلى ملابسات الموضوع وما فعله كل منهما، يتبين الفرق:

فتصرف حاطب رضي الله عنه كان خطأ – وضعفاً له مبرره – منه في ولائه للمسلمين، بكشف أسرارهم إلى عدوهم، في وقت هم أشد ما يحتاجون فيه إلى الكتمان والتغطية، وسبب إقدامه على هذه الفعلة – في ظنه رضي الله عنه – حماية الأهل والقرابة بمكة، والذين وصفهم الله تعالى بقوله ﴿ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الممتحنة: 3] [8]، واستحق رضي الله عنه العتاب من الله تعالى بما فعل، إلى جانب وسام الشرف الذي ناله لصدق إيمانه وثبات عقيدته.

 

أما تصرف العباس رضي الله عنه فلا نكارة فيه، أو تفريط في ولائه للمسلمين، ولم يظهر منه نصرة الكفار وموالاتهم، فهو لم يتجاوز العدل، حين رغب لأهل مكة حقن الدماء والحصول على الأمان، في الوقت الذي لا مجال فيه للمقاومة وقد وصل الجيش إلى مشارف مكة، وانعدمت الحاجة إلى الكتمان، وانقضى الوقت الذي قد يتمكن أهل مكة فيه من الاستعداد وأخذ الأهبة للقتال، فنبي الله صلى الله عليه وسلم مصبحهم أو ممسيهم، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بتصرفه ذلك وموافقا عليه، إذ أنه كان يركب بغلته البيضاء[9]، وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره لأبي سفيان ولم يتهمه في شيء.

 

كما يتضح المقصود بالمقارنة بين موقف أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، مع أبيها حين أثبتت تبرؤها من كل من حارب الله ورسوله والمؤمنين، حتى لو كان أقرب الأقربين، وموقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حين رفق بأبيه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم – وهو شيخ كبير قد عمي لم يحارب – رغبة في إسلامه، ولم ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه.

 

وهكذا تعلو الصلة في الله تعالى فوق كل المعايير الأسرية والاجتماعية، وتبقى الرابطة الأساس هي الرابطة في الله، وهي العروة الوثقى مهما كان هناك من تعاطف وجداني بين الولد وأبيه، فإن العقيدة الإسلامية هي أسمى وشيجة، والإيمان هو أقوى آصرة[10].

 

كما يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء للأشخاص والجماعات، لا يجوز أن يكون بحال من الأحوال على حساب واجب العدل[11]، فلم يمنعه حبه لأسامة رضي الله عنه، وما بذله من شفاعة، من إقامة الحد على المرأة السارقة، كما لم يمنعه ولاؤه ونصرته لقبيلة خزاعة من تأنيبها علنا وتوعدها بالقصاص، حين تجاوزت وقتلت رجلًا بعد عموم الأمان[12].

 

كذلك تقديم الولاء والطاعة لمن أمر الله بطاعته، لا بد أن يكون بالحق، وأن يلاحظ فيه الموافقة لطاعة الله ورسوله، وعدم مخالفة أوامر الله تعالى، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق[13].

 

ومثال ذلك مخالفة الصحابة لأوامر خالد بن الوليد رضي الله عنه، حين أمرهم بقتل أسراهم من بني جذيمة – وقد ظهر لهم من الحق ما خفي عليه -، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: (والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره)، فلم يمنعهم ولاؤهم لأميرهم ووجوب طاعتهم له، من الاعتراض وإعلان العصيان لأمره، لمَّا خالف أمر الله تعالى[14].

 

وفي ذات الوقت حين أمرهم المعصوم عليه الصلاة والسلام بالنفير لجهاد أهليهم في عقر دارهم، لبُّوا نداءه وأطاعوه.

 

إن وسطية الدعاة إلى الله في عقيدة الولاء والبراء تظهر في منحهم الولاء لعامة المؤمنين المعتصمين بالكتاب والسنة، السائرين على طريق الحق، مهما اختلفت انتماءاتهم المذهبية أو تنوعت أقطارهم ولهجاتهم، فإن الغلو في الولاء مع العمى الحزبي – التعصب الحزبي – أو المذهبي، يدفع صاحبه للقيام بأعمال تهدف إلى تحطيم غير المنتمين إلى هذا الشخص أو الحزب أو المذهب أو المدرسة الدعوية التي ينتمي إليها، ومحاولة إلصاق العيوب والنقائص بهم، وتعويق أعمالهم، وإيقاف نشاطهم، ونشر قبائحهم واتهامهم بين الناس، وتحقير أعمالهم[15].

 

وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بجمع المسلمين على قلب رجل واحد، ونبذ ما من شأنه أن يحدث الفرقة والخلاف بينهم، فمنع التعصب واستحداث الأحلاف التي تخالف الإسلام، وبين أن الأصل أن تكون أخوة في الدين والتعاون على الخير والهدى والبر والتقوى[16].


[1] سورة المائدة آية 8.

[2] سورة الممتحنة آية 8.

[3] سورة الممتحنة آية 9. قال أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني:( إن هذا كله في الحب الذي هو في القلب، والمخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين، إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم… وأما المُخالَقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة، كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب، كما أشارت إليه الآية ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران: 28]، وأما التقية، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين، وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة، وما لا يجوز من الرياء، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عُبر عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة، وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام) باختصار، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، المسألة الثامنة (في الولاء والبراء) ص 408، دار الكتب العلمية بيروت ط: بدون.

[4] سورة المائدة آية 55.

[5] سورة الممتحنة جزء من آية 1.

[6] في إرساله إلى قريش من يخبرهم بأمر الغزو، والجيش لم يزل في المدينة.

[7] في خروجه للبحث عمن يحمل نبأ الغزو إلى قريش، والمسلمون في مر الظهران.

[8] سورة الممتحنة آية 3.

[9]انظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 4/20.

[10] بتصرف، الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص 203.

[11] بتصرف، بصائر للمسلم المعاصر ص 291.

[12] بتصرف، حكم وأحكام من السيرة النبوية ص 168.

[13] بتصرف، بصائر للمسلم المعاصر ص 283.

[14] ومثال آخر: هو ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بشأن السرية التي أمرهم أميرها أن يجمعوا حطبا ثم يوقدوه نارا، فأطاعوا، ثم أمرهم أن يدخلوا فيها، فهمُّوا وجعل بعضهم يمسك بعضا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أمرهم: ((لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف))، كتاب المغازي باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي .. ويقال أنها سرية الأنصار 5 /107.

[15] بتصرف، بصائر للمسلم المعاصر ص 293.

[16] وهذه الفرقة من البلايا الشديدة التي استشرت بين المسلمين في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وامتدت سمومها حتى وصلت إلى الجماعات الإسلامية المقيمة في دول العالم الغربي، رغم حاجتهم الشديدة للتكاتف والاتفاق للمحافظة على الهوية الإسلامية وعدم الانصهار في المجتمع الغربي الكافر، فقد لمست بنفسي أثناء إقامتي في كندا برفقة زوجي، ففي البلد الواحد تقام عدة جمعيات إسلامية، تتبنى كل منها مذهبها الخاص بها وتتعصب له، والكل يزعم أنه الأمثل، ويقع من جراء ذلك التشهير ببعضهم البعض، واختلافهم في أبسط الأمور التي يفترض تجمع المسلمين عليها، كتحديد يوم الصوم، ويوم صلاة العيد، ويستجيرون بالله من هذه السموم الوافدة والمصدرة إليهم من العالم الإسلامي، ولا شك أن لهذا أثراً كبيراً في التفرقة بين المسلمين، وإضعافا لقوتهم ودعوتهم أمام أهل الكفر، والله المستعان.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/82514/#ixzz64Cli6bLe