كان نبي الرحمة محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – رجلاً شديد الحِلم، يَصبِر على أذى الناس وجهْلهم، ولا يغضب لنفسه قط، ويتَّسِع صدرُه لمن أخطأ واعتدى في شفقة ورحمة، فيُقابِل جهالات الناس بالحِلم، ويُواجِه إساءة المسيء بالإحسان والبر.

فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: “كنتُ أمشي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وعليه بُرْد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ فجذَبه جذبةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أثَّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء”[1].

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: “قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوبًا من ماء؛ فإنما بُعِثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين))[2].

وفي رواية أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام إليه فقال: ((إنما بُني هذا البيتُ لذِكر الله والصلاة، وإنه لا يُبال فيه))، ثم دعا بسَجْل من ماء فأفرغه عليه.

وقال هذا الأعرابي: “فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – إليَّ بأبي هو وأمي، فلم يَسُب ولم يؤنِّب ولم يضرب”[3].

وإليك هذه القصةَ العجيبة التي تدل على شدة حِلم النبي – صلى الله عليه وسلم – والتي تُعدُّ من دلائل نبوَّته وعلاماته صِدقه وإخلاصه؛ فقد كان زيد بن سعنة رجلاً يهوديًّا يعلم من كتابه علامات النبي الذي بشَّرت به التوراة، وأراد الله تعالى أن يهديه للإسلام، فقال زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتُها في وجه محمد – صلى الله عليه وسلم – حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أُخبَرهما منه، وهما: يسبق حِلمه جهلَه، ولا يَزيد شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فكنت ألطف له إلا أن أُخالِطه فأعرف حِلمه من جهله.

قال زيد بن سعنة: فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومًا، فأتاه رجل بدوي على راحلته فقال: يا رسول الله، إن بقربي قرية من بني فلان قد أسلموا، وقد أصابهم جفاف وشدة وقحْط ومجاعة، فهل لك أن تُرسِل إليهم بشيء تُعينهم به؟

قال زيد بن سعنة: فدنوتُ إليه فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرًا معلومًا في حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: ((لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى أجل كذا وكذا))، فقلتُ: نعم، فبايعني، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل معلوم، فأعطاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى البدوي، وقال له: ((اعدل عليهم وأَعِنهم بها)).

قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جنازة رجل من الأنصار، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفرٍ من أصحابه، فلما صلى على الجنازة، ودنا من جدار ليجلس، أتيتُه فأخذتُ بمجامع قميصه وردائه، ونظرتُ إليه بوجه غليظ، فقلت: له: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتُكم بني عبدالمطلب إلا تُماطِلون في ردِّ الحقوق.

قال زيد بن سعنة: فرماني عمر بن الخطاب ببصره، فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أُحاذِر قوته لضربتُ بسيفي رأسَك.

ورسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ينظر إلى عمر في سكون وتُؤدة وتبسُّم، ثم قال: ((يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن المطالبة، اذهب به يا عمر فأعطِه حقَّه، وزده عشرين صاعًا من تمر؛ تعويضًا له مقابل ما رُعته وخوَّفته)).

قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي، وزادني عشرين صاعًا من تمر، ثم قال عمر: ما دعاك أن فعلتَ برسول الله ما فعلتَ، وقلتَ له ما قلت؟

قلتُ: يا عمر، لم يكن من علامات النبوَّة شيء إلا وقد عرفتُه في وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين نظرتُ إليه، إلا اثنتين لم أُخبَرهما منه: يسبق حِلمه جهله، ولا يزيد شدة الجهل عليه إلا حِلمًا، فقد اختبرتهما، فأُشهِدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وآمن به وصدَّقه وتابعه[4].

——————————————————————————–

[1] البخاري (2916) ومسلم (1749).

[2] البخاري (213).

[3] أحمد (10129).

[4] القصة منقولة هنا باختصار وتصرف، وقد رواها الحاكم (3: 604) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في دلائل النبوة (6: 278)، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (2: 607): رجال إسناده موثقون، وقال الهيثمي في المجمع (2: 242): رجاله ثقات.