من أنبياء بني إسرائيل “أشعياء”

في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، كانت المملكة الجنوبية يهوذا قد بلغت من قوة السلطان إبان حكم الملك عُزِّيَّا؛ ما جعلها تضارع مملكة سليمان – عليه السلام – فقد ظل الملك عُزِّيا في الحكم أربعين عامًا، استطاع خلالها أن يدعم الأوضاع الاقتصادية والحربية في البلاد، وأن يهزم المناوئين من الجيران، وأن يحصن دفاع المملكة، ويتيح لأهلها قدرًا من الإحساس بالأمن الذي طال حرمانهم منه، والذي قدر عليهم ألا يستمعوا به طويلاً.

ولكن قوة ملك يهوذا دفعتْه إلى الغرور، فحاول أن يستبدَّ بكل شيء في المملكة، وأن ينتزع لنفسه كلَّ سلطة، حتى سلطة الكهان في الهيكل، مما أغضب هؤلاء الكهان، وأغضب ربَّهم، فانتقم الملك، وأذلَّه بعاهة البرص التي أصابتْه في وجهه، ولازمته حتى مات:

“وهيأ لهم عزِّيا، لكل الجيش، أقواسًا ورماحًا وخوذًا ودروعًا، وقسيًّا وحجارة مقاليع، وعمل في أورشليم منجنيقات، اختراع مخترعين، لتكون على الأبراج وعلى الزوايا؛ لترمى بها السهام والحجارة العظيمة، وامتد اسمه إلى بعيد، ولما تشدد ارتفع قلبه إلى الهلاك، وخان الربَّ إلهه، ودخل هيكل الرب ليوقد على مذبح البخور، ودخل وراءه عزريا الكاهن، ومعه ثمانون من كهنة الرب، بني البأس، وقاوموا عزِّيَّا الملك، وقالوا له: ليس لك يا عزيا، بل للكهنة بني هارون المقدسين للإيقاد، اخرج من المقدس؛ لأنك خنت، وليس لك من كرامة عند الرب الإله، فحنق عزيا، وعند حنقه على الكهنة خرج برص في جبهته أمام الكهنة، في بيت الرب، بجانب مذبح البخور، وكان عزيا الملك أبرص إلى يوم وفاته، وأقام في بيت المرض أبرص؛ لأنه قطع من بيت الرب، وكان يوثام ابنه على بيت الملك يحكم على شعب الأرض”[1].

ومات عزِّيَّا ملك يهوذا حوالي عام 742 ق م، وتولى الملك بعده ابنه يوثام، الذي أدار شؤون المملكة إبان مرض أبيه، ولم يطُل ملك يوثام فمات عام 735 ق م، تاركًا المُلك لابنه آحاز، الذي قدر له أن يشهد الخطر المحيق بمملكته، من جيوش مملكتي سوريا وإسرائيل، فنسي أن يستعين بالله، واستعان بالإنسان، فلم تُغْنِه معونة الإنسان من قضاء الله شيئًا.

وكان العجيب في أمر الملك آحاز أنه لم يقصر استعانتَه بالناس الذين استعان بهم – وهم الأشوريون – على الشؤون السياسية والحربية، بل أخذ يقلدهم في الشؤون الدينية أيضًا، فأقام محراب الهيكل على النمط الأشوري الوثني، وغيَّر نظام الهيكل بأسره؛ ليرضي بذلك سيده وحاميه ملك أشور، غير مبالٍ بإغضاب رب الهيكل وراعيه:

“أرسل آحاز رسلاً إلى تفلث فلاسر (تجلات بليزر) ملك أشور قائلاً: أنا عبدك وابنك، اصعد وخلصني من يد ملك آرام، ومن يد ملك إسرائيل القائمين عليَّ، فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب، وفي خزائن بيت الملك، وأرسلها إلى ملك أشور هدية، فسمح له ملك أشور، وصعد إلى دمشق وأخذها وسباها…، وسار الملك آحاز للقاء تفلث فلاسر ملك أشور إلى دمشق، وأرسل الملك آحاز إلى أورويا الكاهن شبه المذبح وشكله حسب كل صناعته، فبنى أورويا الكاهن مذبحًا حسب كل ما أرسل الملك آحاز من دمشق…، وأمر الملك آحاز أورويا الكاهن قائلاً: على المذبح العظيم أوقد محرقة الصباح، وتقدمة المساء، ومحرقة الملك وتقدمته مع محرقة كل شعب الأرض…، ورواق السبت الذي بنوه في البيت، ومدخل الملك من خارج غيره في بيت الرب؛ من أجل ملك أشور”[2].

هكذا كانت تجري الأحداث قبيل مولد النبي أشعياء، وإبان طفولته وشبابه؛ فالمملكتان الشقيقتان للشعب العبري، وهما إسرائيل في الشمال، وعاصمتها السامرة، ويهوذا في الجنوب، وعاصمتها أورشليم، يقفان في عداء مستحكم من بعضهما، وتستعين كل واحدة منهما بالأعداء؛ لتقضي على أختها، ومملكة الأشوريين القوية رابضة على مسافة قريبة، تتحين الفرصة لتقضي على هذه الممالك الهزيلة جميعًا، وقد واتتْها الفرصة حين تحالف ملك الآراميين في سوريا، مع ملك السامريين في إسرائيل، وحاصرا مملكة يهوذا، فاستغاث ملكها آحاز في ذلة وصغار بملك أشور، وسرعان ما استجاب ملك أشور، فأباد سوريا وإسرائيل، وقضى على استقلال يهوذا، وقد عاصر النبي أشعياء ذلك كلَّه، وحاول أن ينبه الملك آحاز إلى الخطر الذي يندفع إليه حين استعان بالناس، ونسي أن يستعين بالله، وقد سجل أشعياء في سفره صورة واضحة لهذا الصراع العنيف الذي اجتاح يهوذا في عصره: الصراع بين الاتجاه المادي الدنيوي، والاعتماد على السياسة والأسلحة، ممثلاً في شخص الملك آحاز، وبين الاتجاه الديني الإلهي، والاعتماد على حب الله، والإخلاص له، والتفاني في طاعته، ممثلاً في شخص أشعياء، وقد شاء الله أن يتغلب الاتجاه المادي على الاتجاه الديني؛ ليشاهد الناس بأعينهم ثماره المرة، ونتائجه المحطمة، وليقف ذلك على مرِّ التاريخ عظة للأجيال اللاحقة وعبرة.

ولسنا نعرف عن نسب النبي أشعياء شيئًا؛ فكل ما جاء في العهد القديم من نسبه هو اسم أبيه “آموص”، وهو أب مغمور، لا يحفظ له التاريخ ذكرًا، ولكننا نستطيع أن نستنتج نبل مولد النبي أشعياء بن آموص من قرائن أخرى؛ فقد كان يخاطب الملوك مخاطبة الأنداد، وكان الملك آحاز يعرف ابن النبي أشعياء معرفة شخصية، ويعهد إليه ببعض أمور المملكة – وكان اسم ابنه “شآر يا شوب” (ومعناها بالعبرية “البقية تعود”، والمراد أنه مهما تمرد الشعب على ربه، وخرج عن طاعته، فإن بقية من هذا الشعب الضال ستعود إلى الله، وتتوب إليه، وتعرف طريقها نحوه) – كما أن كثيرًا من عظماء الدولة كانوا يستشيرون النبي أشعياء ويتلقون نصيحته، وكثير من سفراء الدول المجاورة ليهوذا كانوا يسعون إلى لقائه، ويتفاهمون معه في شؤون الدولة، وكان أشعياء يُحس أنه السفير الإلهي الذي تعلو كلمتُه على سفراء الملوك جميعًا[3].

ولا شك أن أشعياء قد عاصر عاموس وهوشع، وأنه سمع في بداية شبابه الدعوة التي قام بها كل منهما في المملكة الشمالية.

ويفترق أشعياء عنهما بأنه كرس دعوته للمملكة الجنوبية، واتخذ من أورشليم (القدس) مقرًّا له لا يبارحه، ولقد تنبأ كل من عاموس وهوشع بالخطر المحدق بإسرائيل، ولكن أشعياء شاهد صدق نبوءة عاموس وهوشع، فرأى الخطر وهو يحدق، والدمار وهو يحل، وسجل ذلك كله في السفر المعروف باسمه بين أسفار العهد القديم.

ويقع سفر أشعياء في العهد القديم في ستة وستين إصحاحًا، ولكن شراح العهد القديم ونقاده يتفقون على أن ما حرره النبي أشعياء من هذه الإصحاحات جميعًا إنما هو التسعة والثلاثون إصحاحًا الأولى فقط، أما بقية إصحاحات السفر، فمن إضافات اللاحقين، ونظرًا لأن محرر هذه الإصحاحات الأخيرة مجهول، فإن النقاد قد اصطلحوا على أن يطلقوا عليه اسم أشعياء الثاني، بل إن منهم من يقسم هذه الإصحاحات المزادة قسمين، يعزى القسم الأول منهما إلى أشعياء الثاني، والأخير إلى أشعياء الثالث، ومن ثم فإنهم يطلقون على الشخصية التاريخية المعروفة للنبي أشعياء الذي نقوم بدراسته الآن اسم “أشعياء الأول”.

ولقد طالت مدة نبوة أشعياء، فشغلت ما يقرب من أربعين عامًا في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، (من 738 إلى 700 ق م، وربما بعد ذلك).

ونستطيع أن نقسم تلك الفترة من الوجهة التاريخية إلى أربعة أقسام:

1- فالفترة الأولى في دعوته تمتد بين نهاية حياة الملك يوثام، والسنة الأولى من تولي ابنه آحاز الملك 738 – 735 ق م، ويمكن أن تسمى هذه الفترة بفترة إعلان النبوة؛ حيث واجه أشعياء ملكه وشعبه بإنذاره بأن يوم الله قريب، وأنه لن يكون يومًا مجيدًا للملك أو لشعبه؛ وإنما سيكون يوم إذلال وتحطيم، يدفع فيه الملك جزاء ما أحسه من زهو كاذب وفخر وغرور، ويدفع فيه الشعب ثمن ما شعر به من أمن خادع، وقوة متوهمة:

“إن لرب الجنود يومًا على كل متعظم وعالٍ، وعلى كل مرتفع فيوضع … توضع رفعة الناس ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم … في ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التي عملوها له، للسجود للجرذان والخفافيش، ليدخل في نقر الصخور، وفي شقوق المعاقل، من أمام هيبة الرب، ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض”[4].

——————————————————————————–

[1] انظر أخبار الأيام الثاني 26: 15 – 12.

[2] الملوك الثاني 16/ 7/ 18.

[3] اقرأ بدايات الإصحاحات: 7، 8، 30، 31 من سفر أشعياء.

  1. [4] أشعياء 2: 12 – 22.