إن لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه أعمالاً كبرى يتمثل فيها نجاحه ، وهذه الأعمال يمكن تلخيصها فيما يلي :
العمل الأول : إنه قضى على الوثنية ، وأحل محلها الإيمان بالله واليوم الآخر .
والعمل الثاني : أنه قضى على رذائل الجاهلية ونقائصها ، وأقام مقامها الفضائل والمكارم والآداب .
العمل الثالث : أنه أقام الدين الحق الذي يصل الإنسان إلى أقصى ما قدر له من كمال .
العلم الرابع : أنه أحدث ثورة كبرى غيرت الأوضاع والعقول والقلوب ونظام الحياة الذي درج عليه أهل الجاهلية .
العمل الخامس : أنه ( وحد الأمة العربية ، وأقام دولة كبرى تحت راية القرآن .
هذه هي الأعمال التي تمثل نجاح الرسول ( في مهمته . وهي كما تبدو كلها أمور كبيرة ، وإقامتها بل إقامة واحد منها من الخطورة بمكان .
وإنه لا يمكن أن يتأتى النجاح لفرد في بعض هذه الأعمال فضلاً عن توفر النجاح في كل ناحية من هذه النواحي .
إن القيام بهذه الأعمال والنجاح فيها على هذا النحو لهو المعجزة الكبرى لحضرة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه – فإذا كان عيسى له معجزة إحياء الموتى ، وموسى له معجزة العصا ، فإن هاتين المعجزتين في جانب هذه المعجزات تعتبر شيئًا ضئيلاً .
دلائل صدقه :
ومن دلائل الصدق على أن الرسول إنما هو مرسل من عند الله ما يأتي :
أنه كان زاهدًا في الدنيا ، فلم يكن يطلب على عمله أجرًا ، فقد كان زاهدًا في المال ، وفي كل ما هو مادي ، كما كان زاهدًا في الجاه والمنصب .
أما زهده في المال فإن طبيعة حياته تدل على ذلك أبلغ دلالة ، فهو لم يفترش الحرير ، ولم يلبس الديباج ، ولم يتزين بالذهب . كان بيته كأبسط بيوت الناس ، وكان يمر عليه الشهران ، ولا يوقد في بيته نار . قال عروة وهو يسمع خالته عائشة تتحدث بهذا إليه : يا خالتي ما كان يعيشكم ؟ قالت : إنما هي الأسودان التمر والماء !
وذات مرة رأى عمر بن الخطاب الرسول نائمًا على حصير بال ، وقد أثر في جسمه ، فبكى ، فقال له الرسول : ما يبكيك ؟ فقال : ما بال كسرى وقيصر ينامان على الديباج والحرير ، وأنت رسول الله يؤثر في جنبك الحصير ، فقال ( : يا عمر ، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة .
ولقد جاءت الغنائم إلى الرسول بعد انتصار المسلمين ، فرأى نساؤه أن يستمتعن بشيء من هذه الغنائم وطلبن منه أن يكون لهن نصيب منها ، فإذا بالآية الكريمة ترد على سؤال هؤلاء النسوة :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } .
فجمع الرسول نساءه ، وقال لهن : هل تردن الله ورسوله والدار الآخرة ، أم تردن الدنيا وشهواتها ؟ فاختارت كل واحدة منهن الله ورسوله والدار الآخرة فمدحهن الله وأنزل في حقهن :
{ يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } .
ولقد توفي رسول اللَّه ( ودرعه مرهونة عند يهودي ، وقد عاش طول حياته ، وما شبع من خبز الشعير قط .
أما زهده في الجاه فهو يتمثل في كل أحواله .
أراد الصحابة أن يمتدحوه ، ويثنوا عليه ، فقال ( :
” لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ” .
وجاءه الوليد بن المغيرة مندوبًا عن المشركين ، ليفاوضه ، وعرض عليه من كل متع الحياة ، فكان جوابه أن قرأ عليه افتتاحية سورة حم فصلت . إلى قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } .
هذا هو الزهد الذي كان طبيعة من طبائع الرسول ( .
ومن دلائل نبوته عليه السلام أنه كان أميًّا ، وأقام هذه الأعمال الكبار وهو أمي لم يقرأ ، ولم يكتب ، ولم يدخل معهدًا ، ولم يتتلمذ على أستاذ ، ولكنه نجح ، وبلغ هذه المرتبة التي لم يبلغها أحد قبله ، ولا أحد بعده .
والقرآن يسجل هذه الحقيقة ليجعلها أمارة صدقه ودليل أمانته . يقول الله سبحانه :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } .
وما كان الرسول يعلم شيئًا من النبوة ، ولا ما يتصل بالذات العلية ، فجريان هذه الأعمال على يديه إنما هو دليل الإعجاز .
لأن المتعلمين الذين ينقطعون للعلم والبحث ليعجزون أن يصنعوا شيئًا مما فعله الرسول ( .
ولا ريب أن هذا تأييد وتوفيق من الله تبارك وتعالى . والقرآن يقول :
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } .
ولقد كان ذلك معروفًا لدى خصومه وكان يواجههم به ، ولم يستطع أحد منهم أن يشكك في هذه الحقيقة السافرة . فيقول الله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
أما الناحية الثالثة فهي الصدق ، فلم يعلم عن الرسول ( أنه كذب قط قبل البعثة ولا بعدها ، ولقد جاءه الوحي ، فذهب إلى خديجة ، وقال لها : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له : كلا واللَّه لا يخزيك الله أبدًا . إنك لتصدق الحديث ، وتصل الرحم وتحمل الكل ، وتقرى الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الدهر ” .
ولقد عرض الرسول ( لأول عهده بالنبوة الإسلام على أبي بكر رضي اللَّه عنه ، فصدقه لأول وهلة ، وما توقف عن المسارعة إلى الإيمان به ؛ لأنه كان يعلم صدقه وأمانته ، ودخل أعرابي عليه ، فنظر إليه فوجد الصدق يحوطه . فقال : واللَّه ما هذا الوجه بوجه كذاب .