الصوم: حقيقته وتاريخه

أ. د. علي عبدالواحد وافي
أ. د. علي عبدالواحد وافي

نشر في مجلة “حضارة الإسلام”، العدد السابع، السنة الثالثة

رمضان 1382 هـ – شباط (فبراير) 1963م

 

1- نشأة الصيام وأنواعه:

لا نعلم على وجه اليقين متى نشأت فكرة الصوم في المجتمعات الإنسانية، ولا نكاد نعرف شيئًا يعتد به عن الأسباب الأولى التي دعت إليه، كما أن ما وصل إلى علمنا عن النظم الدينية للأمم الغابرة لا يرشدنا إلى أول شريعة جاءت به، ولا يقفنا على أول شعب ظهر فيه،وكل ما يذهب إليه بعض الباحثين في صدد هذه الأمور يتألف من آراء خطيرة تعتمد في بعض نواحيها على الحدس والتخمين، وفي نواحٍ أخرى على استنباطات ضعيفة قلقة لا يطمئن إلى مثلها منهج سليم.

غير أنه مما لا شك فيه أن الصوم من أقدم العبادات الإنسانية، ومن أكثرها انتشارًا،فلم يكد يخلو منه دين من الأديان التي أخذت بها المجتمعات، ولم تتجرد منه شعائر شعب من شعوب العالم قديمة وحديثة.

 

جاء في مِلل التوتميين والمجوس والوثنيين والصابئين والمانوية والبوذيين وعبدة الكواكب والحيوان، كما جاء بشرائع اليهود والنصارى والمسلمين.

 

وقد اختلفت أشكاله باختلاف الأمم والشرائع، وتعددت أنواعه بتعدد الظروف المحيطة به والأسباب الداعية إليه،فمنه ما يكون بالكف عن الأكل والشراب والاتصال الجنسي والكلام، ومنه ما يكون بالكف عن واحد من هذه الأمور، أو عن بعضها.

 

ولعل الكف عن الكلام هو أغرب أنواع الصيام،وهو منتشر لدى كثير من الأمم البدائية وغيرها؛فقد ذكر الأستاذان سبنسر وجيلين (B.Spencer and Gillan) في كتابهما عن سكان أستراليا الوسطى حالات كثيرة من هذا القبيل، منها أن المتوفى عنها زوجها يجب عليها أن تظل مدة طويلة، تبلغ أحيانًا عامًا كاملًا، صائمة عن الكلام،ويظهر أن شيئًا من هذا كان متبعًا في ديانة اليهود، بدليل قوله تعالى على لسان مريم: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]… ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ [مريم: 29] إلخ.

 

والإمساك عن الأكل والشرب في الصيام يقع على وجوه كثيرة:

فمنه المطلق الذي يشتمل جميع المأكولات والمشروبات (كصيام الصابئين والمانوية والمسلمين)، ومنه المقيد الذي يتم بالكف عن بعض أنواعها (كبعض أنواع الصيام عند المسيحيين).

 

وقوام الصيام، كما يظهر من ملاحظة الأشياء التي يقتضي الكف عنها، هو حرمان الجسم والنفس من بعض حاجاتها الضرورية المحببة.

 

ومن أنواع الصيام ما يقتضي الإمساك عن هذه الأمور اليوم كله، نهاره وليله، ومنه ما لا يقتضي الإمساك إلا نهارًا أو شطرًا من النهار، ومنه ما يبدأ بغروب الشمس ويستغرق اليل كله، أو شطرًا منه.

 

ومن أنواع الصيام ما يكون متتابعًا يجري في أيام متتالية، ومنه ما يكون مقصورًا على يوم واحد، أو ليلة واحدة، أو جزء من يوم أو ليلة، ومنه ما شرع في أيام غير متتابعة يفصلها بعض فترات معينة.

 

ومن أنواع الصيام ما هو واجب على جميع الطبقات، أو على بعضها بشروط خاصة، ومنه ما هو مستحب يندب إليه جميع الأفراد أو بعض طوائف منهم.

 

2- مقتضيات الصيام ومناسباته:

هذا وترجع أهم الحالات والمناسبات التي تقتضي الصوم على وجه الوجوب أو الندب في مختلف الشرائع الإنسانية إلى الأمور الآتية:

1- حلول مواقيت عادية دورية؛ كحلول فصل معين من فصول السنة، أو شهر من شهورها، أو يوم من أيام الأسبوع، أو بلوغ كوكب منزلة خاصة من منازله…وما إلى ذلك،وكثيرًا ما يكون الميقات تاريخًا لحدث اجتماعي خطير وقع فيه، فيتجه الصيام أولًا وبالذات إلى هذا الحدث أو إلى أمور تتصل به: كشهر الصيام مثلًا عند المسلمين؛ فإنه تاريخ لنزول كتابهم الكريم، وهو القرآن، وكاليوم السابع عشر من الشهر العبري عند اليهود، وهو أحد أيام صيامهم؛ فإنه تاريخ لسقوط أورشليم عاصمة ملكهم القديم.

 

2- حلول ظواهر فلكية غير عادية؛ كالكسوف والخسوف.

3- حوادث الوفاة.

4- بلوغ الشخص سنًّا معينة، أو مجاوزته مرحلة من مراحل حياته.

5- التكفير عن بعض الذنوب المقصودة وغير المقصودة، أو التحلل من بعض الواجبات والالتزامات الدينية، وغيرها.

 

6- وقد يتخذ الصوم وسيلة للحصول على أعراض نفعية إيجابية (بلوغ منزلة خاصة من المنازل اللاهوتية، صفاء الروح، إشراق الحقائق على النفس وإلهامها المعلومات، الاطلاع على الغيب، الاتصال بعالم السماء، القدرة على الإتيان بأمور خارقة للعادة، تسخير بعض القوى غير المرئية وإرغامها على سلوك معين، إنزال المطر، أو إرغام الهواء على الهبوب…وهلم جرًّا).

 

7- وقد يلجأ إلى الصوم لدفع ضرر فردي أو جمعي (مرض أو وباء أو طوفان أو قحط… وما إلى ذلك).

 

8- وقد يتخذ الصوم تمهيدًا لعبادة أخرى، أو وسيلة لجعلها مقبولة، أو عنصرًا هامًّا من عناصرها،ومن ذلك الصوم الذي يسبق أو يصاحب تقديم القربان أو الوفاء بالنذور، أو إتيان الزكاة، أو إخراج الصدقات، أو الاعتكاف، أو الصلاة…وما إلى ذلك.

 

ولعل أهم أنواع الصيام وأكثرها انتشارًا في مختلف الديانات هو النوع الأول، وهو الصيام في مواقيت معينة تتكرر كل سنة أو كل شهر أو كل أسبوع، وهو الصيام الذي يرتبط في الغالب بتاريخ أحداث اجتماعية خطيرة.

 

ومن أشهر الديانات التي وجَّهت إلى هذا النوع من الصيام عناية كبيرة، وكثرت فيها مناسباته، وأنزلته منزلة الفروض العينية: ديانات الصابئين والمانويين والبوهميين والبوذيين واليهود والمسلمين.

 

وسنقصر كلامنا فيما يلي على بيان مظهر هذا النوع من الصيام في بعض هذه الشرائع، والبحث عن الدعائم التي يقوم عليها.

 

3- الصيام ذو المواقيت الدورية في الديانة اليهودية:

وفي الديانة اليهودية لهذا النوع من الصيام أمثلة كثيرة، من أهمها صيام اليوم العاشر من الشهر السابع العبري (يوم كبور، أو يوم الكفارة)، وقد كتب هذا الصوم على اليهود للاستغفار وطلب العفو عن الخطايا بنصوص صريحة من التوراة نفسها.

 

ويظهر أن اليهود في عصرهم القديم كانوا يصومون السبت من كل أسبوع، واليوم الأول من كل شهر قمري، فضلًا عن كفهم عن مزاولة الأعمال فيهما، ثم قصر الأمر فيما بعد على الكف فيهما عن مزاولة الأعمال، وهذا ما يستفاد ضمنًا من الآيات التي نُهُوا فيها نهيًا صريحًا عن صيامهما؛ إذ النهي عن صيام هذين اليومين بالذات دليل على أنهم كانوا يصومونهما فيما سبق؛وذلك أن الحظر في الشرائع لا ينصبُّ في الغالب إلا على شيء كان متبعًا معمولًا به.

 

ولصيام هذين اليومين صلة وثيقة بحركات القمر،أما صيام اليوم الأول فصِلَتُه بذلك واضحة كل الوضوح،وأما صيام يوم السبت فقد قامت أدلة على أن خواتيم الأسابيع كانت توافق في عصورهم القديمة دخول القمر في منازله،فكانت مواقيتهم الفلكية، على ما يظهر، تقسم الشهر القمري أربعة أقسام، يمثل كل قسم منها منزلة من منازل القمر الأربع،وكان كل قسم من هذه الأقسام يسمى أسبوعًا، ويختتم بيوم السبت، على أن التفكير في تقسيم الزمن إلى أسابيع ترجع نشأته الأولى في الإنسانية إلى تعاقب منازل القمر واستغراق كل منزلة منها نحو سبعة أيام،وبذلك يتصل صيام اليهود القديم في سبتهم بالظواهر نفسها التي يتصل بها صيام البوذيين أربعة أيام من كل شهر قمري كما تقدم.

 

وورد في الآيات الثانية والثالثة والعاشرة من الإصحاح الثامن بسفر نحميا (وهو من الأسفار التاريخية من العهد القديم) ما يدل على أن كثيرًا من اليهود كانوا يصومون اليوم الأول من الشهر السابع، وعلى أن نحميا نفسه أقرهم على ذلك، وأمر أفراد الشعب بأن يبعثوا إلى الصائمين منهم في هذا اليوم بطعام إفطارهم.

 

وورد كذلك في الآية الأولى من الإصحاح التاسع بسفر نحميا ما يدل على أن اليهود قد صاموا اليوم الرابع والعشرين من الشهر السابع: (في اليوم الرابع والعشرين من الشهر السابع اجتمع بنو إسرائيل مرتدين المسوح ومعفرين جسومهم بالرمال للاحتفال بيوم الصوم).

 

ويفهم مما ورد في سفر زكريا أنهم بعد الجلاء إلى بابل كانوا يصومون أيامًا أخرى كثيرة دورية لذكرى حوادث مؤلمة في تاريخهم، وأنهم كانوا يسمون كلًّا منها برقم الشهر العبري الذي وقعت فيه الحادثة،فمن ذلك (الصوم الرابع) الذي كان يقع في السابع عشر من الشهر الرابع (تموز، يوليه) لذكرى سقوط أورشليم، و(الصوم الخامس) الذي كان يقع في التاسع عشر من الشهر الخامس (آب، أغسطس) لذكرى خراب أورشليم والهيكل، و(الصوم السادس) وهو صوم أستير الذي كان يقع في الثالث عشر من الشهر السادس (آذار، مارس) لذكرى حادثة هامان وأستير، و(الصوم السابع) في الثالث من الشهر السابع (تشري، سبتمبر) لذكرى قتل جداليا آخر رئيس على اليهود بعد السبي، (والصوم العاشر) الذي كان يقع في العاشر من الشهر (طيبت، كانون الثاني، يناير) لذكرى حصار أورشليم.

 

ولديهم كذلك أنواع أخرى مستحبة من الصيام تقع في مواقيت دورية، ويقومون بها لذكرى وفاة عظمائهم كموسى وهارون والشهداء، وحوادث أخرى في تاريخهم، ويبلغ عددها خمسًا وعشرين.

 

ويصوم بعض أتقيائهم اختيارًا الاثنين والخميس من كل أسبوع؛ حزنًا على سقوط أورشليم والهيكل، وأول وثاني اثنين وأول خميس من شهري أيار (مايو) وحزيران (أكتوبر) بعد عيد الفصح والمظال كفارة عن خطاياهم في الأعياد،وقد جرت العادة لديهم كذلك أن يصوم البِكر من كل عائلة اليوم السابق لعيد الفصح لذكرى حادثة قتل الأبكار قبل الخروج من مصر.

 

4- الصوم ذو المواقيت الدورية عند المسلمين:

شرع الدين الإسلامي أنواعًا كثيرة من الصيام في مواقيت دورية:

بعضها يعود مرة كل سنة، وبعضها مرة كل شهر، وبعضها مرة كل أسبوع،ومن هذه الأنواع ما هو فرض وهو صيام رمضان، ومنها ما هو مستحب، كصيام التاسع والعاشر من المحرم، وستة أيام متتالية من شوال تبدأ من اليوم الثاني منه (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال…الحديث)، والتاسع من ذي الحجة (وهو يوم عرفة)، والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري؛ (لقوله عليه السلام: من صام من كل شهر ثلاثة أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فكأنما صام السنة كلها، وتسمى هذه الأيام بالأيام البيض؛ لبلوغ القمر في لياليها إلى كماله)، وصيام الاثنين والخميس من كل أسبوع.. وهلم جرًّا.

 

وتحافظ بعض فرق المسلمين على أنواع من الصيام، ترتبط مواقيتها بأحداث اجتماعية ذات بال في تاريخها الخاص؛ كإحياء بعض فرق الشيعة للأيام العشرة الأولى من المحرم بالصيام والقيام وترتيل الأوراد؛ تخليدًا لذكرى من استشهد من آل البيت في هذه الأيام.

 

5- تعليل الصوم ذي المواقيت المرتبطة بأحداث اجتماعية:

ينتظم الصيام ذو المواقيت الدورية – كما يظهر ذلك مما سبق – مجموعتين مختلفتين؛ إحداهما: أنواع ترتبط مواقيتها بأحداث اجتماعية وقعت فيها، وثانيتهما: أنواع لا تتصل مواقيتها بأحداث اجتماعية، وإنما ترتبط بظواهر فلكية خاصة.

 

أما الأنواع التي ترتبط بأحداث اجتماعية وقعت فيها – وهي أهم أنواع هذا الصيام، وأكثرها انتشارًا، وأعظمها خطرًا – فيرجع السبب في نشأتها إلى حرص المجتمع على تخليد هذه الأحداث وتجديد ذكرياتها في النفوس، وجعلها ماثلة في أذهان الأفراد، وبالجملة يرجع إلى حرصه على تسجيل تاريخه وإحياء أيامه البارزة.

 

وتتحقق هذه الأغراض الاجتماعية فيما جاءت به الديانات السماوية نفسها من هذا النوع،غير أن حكمة التشريع في هذه الديانات كثيرًا ما تكون أوسع نطاقًا من ذلك، وقد تتجه أحيانًا اتجاهًا آخر.

 

6- تعليل الصوم ذي المواقيت المرتبطة بظواهر فلكية:

وأما الأنواع الأخرى من هذا الصيام الدوري، وهي التي لا تتصل بأحداث اجتماعية، وإنما ترتبط بظواهر فلكية خاصة، فقد اختلفت آراء العلماء اختلافًا كبيرًا في تعليلها وتوضيح نشأتها،فمنهم من يرى أنها مظهر من مظاهر عبادة الكواكب، وأن نشأتها الأولى في المجتمعات الإنسانية ترجع إلى رغبة الناس في الظهور بمظهر الضعف والمسكنة والذلة والخشوع أمام الكواكب المقدسة عند بلوغها في سيرها منزلة ذات تأثير يقيني أو معتقد في حياة الحيوان أو النبات أو الطبيعة، فهذا النوع من الصوم لا يختلف في نظر أصحاب هذا الرأي عن الصلاة التي يقيمها عباد الشمس عند شروقها أو زوالها أو غروبها: كلاهما رمز إلى ضعف العابد وذله، وعظمة المعبود وجلاله، وكلاهما يحدث في أوقات تتجلى فيها قدرة المعبود، وتظهر آثاره في حياة العابد، وكلاهما يتضمن اشتراك الجسم في التعبير عما يريد العابد أن يظهر به من صفات الاستكانة والخضوع،وكل ما بينهما من فرق أن الصلاة تعبِّر عن ذلك بتقصير الجسم في الركوع، والعمل على تلاشيه ومساواته بالرغام في السجود، على حين أن الصوم يعبر عن ذلك بطريق إضعافه وحرمانه من بعض ما يحتاج إليه.

 

ومنهم من يرى أن نشأة هذه الأنواع من الصيام يرجع السبب فيها إلى خوف الإنسان في مراحله الدينية الأولى من بعض ظواهر فلكية، واعتقاده أنها نذير نحس، وحرصه على أن يتقي شرها بالكف في أثناء حدوثها عن كل ما يمكن أن يكون مصدر مكروه؛ كالطعام والشراب، وقد ظهر للقائلين بهذا الرأي من دراستهم لمجموعة المعتقدات التي كان يدين بها معظم الأمم السابق ذكرها أن صيام كل منها كان يقع في الأوقات التي اشتهر عندهم في جميع عصورها أو في بعضها أنها أوقات نحس،ويرون في شرائع البوذيين على الأخص أوضح دليل على صدق ما يذهبون إليه؛ فقد تقدم أن أيام الصيام عند البوذيين لا يجب فيها الكف عن الطعام والشراب فحسب، بل يجب فيها كذلك الكف عن مزاولة أي عمل، وما ذاك إلا لشدة اعتقادهم في نحسها، ومبالغتهم في الحرص على اتقاء شرها، بإحجامهم عن كل ما يمكن أن ينجم عنه مكروه.

 

وغنيٌّ عن البيان أن هذه الآراء وما إليها لا يمكن أن يصدق شيء منها إلا على شرائع المجوس والوثنيين والصابئين والمانوية ومن إليهم.

 

أما ما جاءت به شرائع التوحيد من صيام – وإن بدا في ظاهره متصلًا بسير الأفلاك ومنازلها – فتتعالى أغراضه في الحقيقة عن هذه الأمور علوًّا كبيرًا، كما سيظهر لنا في الفقرات التالية:

7- محاولات باطلة لرد الصيام ذي المواقيت عند المسلمين إلى نظيره عند الصائبة والمانويين:

حاول كثير ممن في قلوبهم مرض، وممن وقفوا جهودهم على النيل من الإسلام والكيد له تحت ستار البحوث التاريخية والتحقيقات الاجتماعية: أن يرجعوا أنواع الصيام الدورية عند المسلمين إلى نظائرها عند الصابئة والمانويين، وعلى الأخص صيام رمضان عندنا إلى صيام الثلاثين عندهم، كما حاولوا رجع صلواتنا إلى صلواتهم،فزعموا أن محمدًا (عليه الصلاة والسلام) قد نقل عن هاتين الشريعتين معظم ما جاء به من صلاة وصوم، وأنه كان أمينًا في النقل، فلم يغير شيئًا من أوقات هذه العبادات وتواريخها، وأن كل ما عمله أنه جعلها لوجه الله بعد أن كانت تؤدى للشمس والقمر وغيرهما من الكواكب، وأن هذا القناع لم يستر شيئًا من حقيقتها؛ فإن الأوقات التي شرعها فيها واتصال هذه الأوقات بحركات الشمس والقمر والكواكب كل أولئك ينُمُّ على الأصول التي استمدت منها،وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا، فزعم أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كان يجهل – إذ نقل هذه العبادات – أن الصابئة والمانوية يقصدون منها تقديس الكواكب، وأنه لو كان يعلم ذلك ما جاء بها؛ لتعارضها مع شريعة التوحيد التي أسس عليها دعوته.

 

ومن هؤلاء الدكتور جاكوب؛ فقد قرر في رسالة كتبها في موضوع صيام رمضان، بعد تحقيقات حسابية طويلة وموازنات بين التواريخ العربي والميلادي والبابلي، أن أول سنة شُرِع فيها صيام رمضان، وهي سنة 623 ميلادية، كان أول يوم من رمضانها يوافق الثامن من شهر آذار؛ أي: إن أول رمضان صامه المسلمون كان موافقًا في مبدئه ونهايته لتاريخ صيام الحرانيين (فقد قلنا: إنهم كانوا يصومون ثلاثين يومًا تبدأ من الثامن من شهر آذار)،وأن في هذا أقطع دليل على أن محمدًا (عليه السلام) قد نقل صومه عن شريعة الصابئين.

 

وذهب الأستاذ وسترمارك إلى ما يقرب من هذا الرأي مع شيء من الاعتدال والحذر في التعبير؛ إذ يقول: (إن وجوه الشبه بين صيام رمضان وصيام الحرانيين والمانوية لبالغة من الوضوح مبلغًا يحمل الباحث على أن ينظر إلى هذه الأنواع الثلاثة من الصيام نظرته إلى ثلاث شعب متفرعة عن أصل واحد؛ فلا مشاحة إذًا في أن محمدًا قد نقل صيامه عن الحرانيين أو المانوية، أو عنهما معًا).

 

وهذه لعمري شنشنة عرفناها عن معظم من تصدى من الفرنجة لبحث عقائد الدين الإسلامي وشعائره، فتراهم، قبل أن يفهموا الموضوع الإسلامي الذي يتصدَّوْن لدراسته حق الفهم، يوجهون همهم إلى البحث عن نظير له في الشرائع الأخرى، ولا يكادون يعثرون عليه حتى يوحي إليهم تعصبهم أنه لا بد أن يكون هذا منقولًا عن ذاك، ثم لا تعوزهم الحيل والمنافذ التاريخية لإلباس أهوائهم ثوب الحقائق.

 

ومع أن المقام لا يتسع لرد مفصل على ما زعموه بصدد صيام رمضان، لا نرى مندوحة عن الإشارة إلى بعض أمور أعماهم تعصبهم عن النظر إليها، وهي خليقة أن تقوِّض مزاعمهم رأسًا على عقب، وهذه الأمور هي:

(أولًا) لم يُعرَف أنه قد حدث في الجاهلية اتصال فكري أو ديني كبير بين قريش التي نشأ فيها الرسول وبين الصابئة أو المانوية،وقد حال دون هذا الاتصال أمور كثيرة،منها اختلاف اللغة والخط والثقافة والحضارة، ومنها بُعد المسافة بين منازل هؤلاء وأولئك؛ فقد كانت بلاد الصابئين والمانوية في حدود فارس من الغرب، على حين أن القرشيين كانوا يقطنون الحجاز والمواطن المتاخمة له، وكانت أسفارهم التجارية لا تتجاوز طريقي الشام واليمن، يسلكون أحدهما في رحلة الشتاء، والآخر في رحلة الصيف،ولم يُعرَف عن الرسول عليه السلام أنه اتصل قبل بعثته بالصابئين والمانوية أو احتك بثقافتهما الدينية، أو عُنِي بدراسة شرائعهم، أو وقف على شيء منها،وظل هذا حاله إلى ما بعد رسالته بأمد غير قصير.

 

(ثانيًا) أن صوم رمضان يختلف اختلافًا جوهريًّا في شروطه وقواعده ومقاصده ووقته وشكل أدائه وحكمة تشريعه عن صوم الثلاثين عند الصابئين والمانوية؛ فليس بينهما من وجوه الشَّبَهِ إلا الاتفاق في عدد الأيام وتتابعها،وهذه ناحية شكلية من التعسُّف اتخاذُها دليلًا على أن أحدهما منقول عن الآخر،على أنهما في هذه الناحية نفسها يختلفان اختلافًا غير يسير؛فالصيام الإسلامي مدته شهر عربي، على حين أن صيام الصابئين والمانوية مدته ثلاثون يومًا، مبدؤها الثامن من الشهر.

 

والصيام الإسلامي يبتدئ بابتداء الشهر وينتهي بانتهائه، أما صيامهم فيبدأ من الثامن من الشهر ولا ينتهي إلا في الشهر التالي له.

 

(ثالثًا) أن اختيار رمضان بالذات ليس سببه اتفاق مبدئه في أول عام شرع فيه الصوم مع مبدأ صيام الصابئين، كما ذهب إلى ذلك جاكوب، وإنما سببه – كما صرح بذلك الكتاب العزيز وكما يدل البحث التاريخي المجرد من الهوى – أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن؛فلا غروَ أن اختصه الله بهذه المزية من بين سائر الشهور.

 

(رابعًا) هذا إلى أن القرآن الكريم ينص على أن ما سن لنا من الشرائع قد سن مثله لكثير من الأمم قبلنا؛قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ﴾ [الشورى: 13]… الآية،وقال عز وجل في صيام رمضان نفسه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ… ﴾ [البقرة: 183]، فمن الممكن إذًا أن يكون صيام الثلاثين عند الصابئين والمانوية مستمدًّا في الأصل من شريعة سماوية تقادم عليها العهد فدخلها التحريف والتبديل، وبعُدت عن غايتها الأولى، وصبغت بصبغة التقديس للكواكب، وأن الدين الإسلامي قد كتب الصوم الذي كتبته هذه الشريعة فأحياها طاهرة، وقضى على كل ما علق بها من أدران الشرك،وما قيل في صيام رمضان يقال مثله في بقية أنواع الصيام الدورية، وفي جميع أنواع الصلاة عند المسلمين.

 

وقد ذهب بعض المؤرخين من المسلمين وغيرهم إلى أن صيام رمضان كان منتشرًا عند بعض قبائل العرب في الجاهلية، ولا سيما قريش.

 

ويؤيدون رأيهم هذا بأن النبي عليه السلام نفسه كان قبل بعثته يقضي في غار حراء شهر رمضان من كل عام متحنِّثًا صائمًا،وقد اختلفوا في أصل هذا التشريع،فمنهم من يرى أنه من الشرائع التي جاء بها إبراهيم عليه السلام، ويستدل على ذلك بأن الذين ثبت أداؤهم لهذه الشعيرة في الجاهلية كانوا من المعروفين باتباعهم لملة إبراهيم،ومنهم من يرى أن عبدالمطلب جدَّ النبي عليه السلام كان أول مَن سن هذا الصيام وعمل به،وقد أخذ بهذا الرأي الأستاذ موير في كتابه عن “حياة محمد”.

 

ولكن لم يثبت بعدُ شيءٌ من هذا كله بالدليل القاطع، على أنه لا يضيرُ الدينَ الإسلامي في شيء – كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق – أن يكون صيام رمضان متبعًا قبل بعثة الرسول؛فقد ثبت أن الشريعة المحمدية أقرت كثيرًا من عادات العرب وشعائرهم…