الجزء الثاني : نقل العهد الجديد .

قبل الشروع في الدخول الى تفاصيل كيفية نقل العهد الجديد عبر العصور و الملاحظات التي عليه فاننا نذكر بان العهد الجديد يعتمد في نقله على الطريق الثالث الذي ذكرناه في اول بحثنا هذا الا و هو الكتابة عن طريق مخطوطات تعود لزمن ما بعد المؤسس .

و من هذا المنطلق سوف نقوم بتقسيم هذا الجزء باذن الله الى عدة اقسام :
1. لمحة عامة عن كيفية بداية كتابة العهد الجديد في القرن الاول .
2. ضياع المخطوطات الاصلية للعهد الجديد .
3. جهالة هوية مؤلفي بعض اسفار العهد الجديد
4. التحريف في العهد الجديد و انواعه :
أ. اخطاء انساخ في العهد الجديد ( مثال : تيموثاوس 3: 16 و نص التعميد في متى )
ب. الزيادة في نصوص العهد الجديد ( مثال : نهاية انجيل مرقس ، قصة المراة الزانية و الفاصلة اليوحانوية)

5. الاسفار الابوكريفية و الاعتماد على بعضها من قبل بعض اباء الكنيسة ( سفر راعي و رؤيا بطرس) .

نسال الله عز وجل ان يوفقنا لاتمام هذا الجزء ايضا كما وفقنا في اتمام الجزء المتعلق بنقل القران الكريم عبر العصور

 

اولا :لمحة عامة عن كيفية بداية كتابة العهد الجديد في القرن الاول .
العهد الجديد بدات كتابته في القرن الاول و لعل اول كتابة ظهرت في القرن الاول هو رسائل بولس ثم كتبت بعدها الاناجيل الاربعة و الملاحظ ان الاناجيل بشكل عام مرت بفترة ما يعرف بالنقل الشفهي حيث كانت القصص الخاصة بسيرة المسيح عليه الصلاة و السلام تتداول بين الناس و بين النصارى الاوائل . الا ان المعلوم ان هذه القصص لم تدون كلها في الاناجيل الاربعة فهناك قصص فقدت
نقرا من المدخل الى العهد الجديد لعزيز سريال الصفحة 106 :
(( و لكن هذا لا يعني ان كتابات الرسول بولس كانت اول ما وضع على ورق بل لا بد ان اشياء كثيرة كتبت قبلها لم تصل الينا في شكلها التي كتبت فيه ويدلنا على ذلك ما قاله البشير لوقا في مقدمة انجيله : (( إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ)) (لوقا 1: 1 و2) ))



و نستنتج من هذا ان التناقل الشفهي المذكور اتسم بالخصائص التالية :
1. ان الية هذا النقل لم تكن تعتمد على الحفظ الحرفي للنص بل كان الناقل ينقل القصة وتفاصيلها – التي سمعها- الى الاخرين بصياغته الخاصة وليس بشكل حرفي .
2. ان هذه القصص لم تصلنا كاملة فهناك قصص قد ضاعت و طوى عليها الزمان !
3. اننا لا نعرف اسماء هؤلاء الذين نقلوا هذه القصص و لا نعرف ما مدى امانتهم و لا نعرف مدى قوة حفظهم و لا ممن سمعوها الا ان الاسلوب الذي تتبعه الكنيسة هو : انه و ان كان هذا هو فانهم بالتاكيد سمعوها من شهود عيان او المصدر الاخير للقصص كان شهود العيان !! هكذا بلا دليل !!!!!
.وقد كانت الكتابة في هذه الفترة الوجيزة – و اقصد هنا كتابة سيرة المسيح – شبه معدومة لعدة اسباب اهمها ان جمهور النصارى في ذلك الوقت كانوا يعتقدون بان المسيح عليه الصلاة و السلام سينزل قريبا جدا !!نقرا من المدخل الى العهد الجديد لعزيز سريال الصفحة 106 – 107 :
(( و يمكن للدارس ان يجد سببين مهمين لعدم اسراع المسيحيين الاوائل في تدوين هذه الشهادة، السبب الاول هو انهم كانوا يؤمنون ان المسيح ات سريعا و نهاية العالم قد قربت…. اما السبب الثاني فهو عقيدة الاوائل ان بان الكلمة المقولة اعظم كثيرا من الكلمة المكتوبة . و ما دام الرسل الذين كانوا معاينين لا زالوا موجودين و لديهم الخبر اليقين فلا داعي للكتابة فكلمتهم اعظم من اية كلمة تكتب. ولقد ظل هذا الراي سائدا حتى بعد ان كتبت الاناجيل و انتشرت))
​​​​​​






و هذا صريح في ان النقل الشفهوي كان الاساس و العمدة و انه كان ينظر اليه على انه المقدم على المكتوب !!!

ويرجح ان بدايات هذه القصص المتناقلة في تلك الفترة كانت في حقيقتها لا تحتوي الا على الاقوال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام وبعض الحوادث و الحق يقال اننا لا نستطيع جزم او تحديد ما هي الاقوال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام التي تناقلوها بالضبط و كيف كان الهيكل العام لها و كل ما يقال في هذا الباب يعتمد على التخمين فنحن ليست عندنا مخطوطة تعود لهذه الفترة تسجل لنا تلك الاقوال المتداولة بين النصارى الاوائل سواءا في فلسطين او في اسيا الصغرى .
نقرا من كتاب المدخل الى الكتاب المقدس للقس حبيب سعيد الصفحة 215-216:
(( ويسوع نفسه لم يكتب شيئا و لا فكر اتباعه في تدوين قصة مكتوبة عن سيدهم و تسليمها للاجيال اللاحقة. و نظرا لعدم وجود ادلة مباشرة نسترشد بها فاننا مضطرون الى ان نلجا الى الحدس و التخمين . ومن المرجح جدا ان بعض تلاميذ يسوع قد جمعوا لاستعمالهم الخاص مجموعات من اقوال المسيح و الحوادث التي رواها ذات شان خطير ))



و نحن نعلم من اقوال علماء النقد النصي و علماء مخطوطات العهد الجديد ان انجيل مرقس يعتبر الانجيل المرجع لكلا من انجيلي متى و لوقا بمعنى ان كاتبي انجيلي متى و لوقا اعتمدا على انجيل مرقس لكتابة انجيلهما كاحد المصادر. الا انه عند الحديث عن المرحلة ما قبل كتابة انجيل مرقس فانه يمكن القول ان هذه الفترة قد اقتصرت على تناقل الاقوال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام و بعض اعماله دون ان تشتمل على السرد التاريخي لسيرة المسيح عليه الصلاة و السلام .
نقرا من الترجمة الرهبانية اليسوعية في المدخل الى انجيل مرقس الصفحة 120 :
(( ان مسالة مراجع مرقس تبقى هي هي باسرها اذا. فالنقاد يتخيلونه على وجه يختلفون فيه على قدر ما يجعلون لمرقس من شان. عندما يقارنونه بمتى و لوقا. فيرى بعضهم انه الاصل الذي استندا اليه. ويرى غيرهم ان هناك قبل مرقس، محملا اولا فيه تقليد على يسوع. ومهما يكن من امر فانه يستشف من تاليف انجيل مرقس ان هناك مرحلة سابقة للتقليد كان الناس يتناقلون فيها اقوال يسوع و اعماله بمعزل عن اي عرض شامل لحياته او لتعليمه. ))



وقد ذهب علماء المخطوطات و النقد النصي الى النظر الى دراسة الاقوال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام في انجيلي متى و لوقا و الغير موجودة في انجيل مرقس و اطلقوا عليها لقب Q . و ذكر النقاد ان الاقوال هذه ماخوذة من مصدر اقدم كان يستخدمه المعلمون المسيحيون في الكنائس .
نقرا من كتاب المدخل الى الكتاب المقدس للقس حبيب سعيد الصفحة 216 -217 :
(( و في بشارتي متى ولوقا مواد كثيرة متشابهة اكثرها من اقوال يسوع و تشمل ايضا بعض القصص مما لا اثر له في بشارة مرقس. وقد اطلق العلماء حرف Q على المواد المشتركة في لوقا و متى و غير الموجودة في مرقس… و يتفق اغلب العلماء على ان المواد المشار اليها بحرف Q ماخوذة من وثيقة قديمة العهد و كانت اشبه بكتاب جدلي يستعين به المعلمون المسيحيون… و المرجح جدا ان الوثيقة Q و مجموعة ايات العهد القديم الاثباتية كانت ضمن القصص التي اشار اليها البشير لوقا في مقدمته. وقد ادت البحوث الحديثة بالعلماء الى الاعتقاد بانه كان في اورشليم قصة اطلق عليها حرف M و تشبه الوثيقة Q المشار اليها انفا ))





.



فيتضح اذا من ما سبق عدة امور :
1. ان النقل الشفهي في فترة ما قبل كتابة الاناجيل الاربعة كان هو الاساس لنقل فقط الاقوال و الافعال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام الا ان هذا النقل لم يكن مضبوطا بشكل حرفي من ناحية الحفظ بالاضافة الى اننا نفتقد الى اسماء من نقلوا هذه الاقوال و الافعال و مدى وثاقتهم و قوة حفظهم و ضبط نقلهم وعمن سمعوا و ليس عندنا غير التخمين لمعرفة شكل و هيكل هذا المنقول الشفهي .
2. ان هذه الاقوال و الافعال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام و المتناقلة شفهيا في مرحلة ما قبل كتابة الاناجيل كانت تمثل بحد ذاتها مصدرا للمسيحيين الاوائل في اورشليم – يطلق عليها المصدر(M) – و تميزت بانها كانت خالية من السرد التاريخي لسيرة المسيح عليه الصلاة و السلام حيث اكتفت بذكر الاقوال و الافعال .
3. اعتمد انجيلي متى و لوقا في التاليف على انجيل مرقس الا انه يعتقد بان بعض الاقوال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام في كلا الانجيلين – و الغير موجودة في انجيل مرقس – يرجع اصلهما الى تقليد شفهي اقدم من انجيل مرقس – يطلق عليها المصدر ( Q )
.
4. تعتبر فترة كتابة انجيل مرقس ( حوالي 60 – 70 ميلادي ) نقطة تحول حيث اصبح او بدا الاعتماد في نقل الاناجيل – او بالاحرى النص المقدس ايا كان شكله – على المكتوب ووضعت الاقوال و الافعال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام ضمن محتوى اكبر يشمل سردا تاريخيا لحياة المسيح عليه الصلاة و السلام حيث اصبح النص بكل بساطة سيرة و حياة المسيح عليه الصلاة و السلام من وجهة نظر الكاتب بعد ان كان النص اقوال و افعال المسيح عليه الصلاة و السلام (قال المسيح وفعل المسيح) حتى صار عندنا ما يعرف بالاناجيل الاربعة . و لنا ان نتساءل و نطرح عدة اسئلة :
1.ما هي تلك الاقوال و الافعال المنسوبة للمسيح عليه الصلاة و السلام و التي كانت متناقلة في تلك الفترة و لكنها لم تدخل الاناجيل الربعة ؟؟؟
2. ما هو الضمان و الدليل القاطع ان اصل كل ما في الاناجيل الاربعة يرجع الى شهود العيان ؟؟؟
3. ما هي درجة الوثاقة العلمية المرتبطة بهذا التراث الشفهي المنقول و ما اعتمد عليه ان كنا لا نعلم حتى اسماء من نقلوا هذا التراث الشفهي و لا امانتهم وضبطهم و درجة حفظهم ؟؟؟؟
4. على اي اساس تحول النص من نقل لاقوال و افعال الى سرد تاريخي مع العلم ان كل من كان في تلك الفترة من المعلمين بحسب ما ذكرنا كانوا يكتفون بنقل الاقوال و الافعال الخاصة بالمسيح عليه الصلاة و السلام دون يضعوا تلك النصوص في قالب تاريخي او قصصي خاص بما يتصورونه انه سيرة المسيح عليه الصلاة و السلام و حياته؟؟؟؟
وللحديث بقية مع الجزء الثالث