سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري
“واهتز عرش الرحمن”

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف ما أنجبته الأرض سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام، الحمدُ لله نحمَدُه، ونستعينُه ونستَهدِيه، ونستغفِرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

حديثنا في هذه المقالة عن صحابي اهتز له عرش الرحمن عند موته، صحابي من الأنصار الذين نصروا الرسول – صلى الله عليه وسلم – عند الهجرة وعند غزوة بدر، قال للرسول – صلى الله عليه وسلم -: “آمنا بك وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصُبرٌ عند الحرب، صُدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك فينا ما تقَر به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله”.

سعد بن معاذ – رضي الله عنه -:

سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبدالأشهل، يكنى أبا عمرو، وأمه كبشة بنت رافع من المبايعات، أسلم سعدٌ على يد مصعب بن عمير، فأسلم بإسلامه بنو عبدالأشهل، وهي أول دار أسلمت من الأنصار، وشهد بدرًا وأُحدًا، وثبت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – يومئذ، ورُمي يوم الخندق، ثم انفجر كَلْمُه بعد ذلك فمات في شوال سنة خمس من الهجرة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وصلى عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودُفن بالبقيع، وله من الولد: عبدالله وعمرو[1].

قال عنه شاعر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حسانُ بن ثابت:

لقد سَجَمَت من دمع عيني عبرةٌ وحُقَّ لعيني أن تفيضَ على سعدِ قتيلٌ ثوى في معرك فُجِعت به عيونُ ذواري الدمع دائمةُ الوجدِ على ملَّةِ الرَّحمن وارث جنَّة مع الشُّهداء وفدُها أكرمُ الوفدِ فإن تكُ قد ودَّعْتَنا وتركتنا وأمسيتَ في غبراءَ مظلمةِ اللَّحدِ فأنت الذي يا سعدُ أُبْتَ بمشهدٍ كريمٍ وأثوابِ المكارمِ والحمدِ بحُكمِك في حُيِّي قريظة بالَّذي قضى اللهُ فيهم ما قضَيْتَ على عمدِ فوافَق حُكمَ اللهِ حكمُك فيهمُ ولم تعْفُ إذ ذكرت ما كان مِن عهدِ فإن كان ريبُ الدَّهرِ أمضاك في الألى شرَوْا هذه الدنيا بجناتِها الخُلدِ فنِعم مصيرُ الصادقين إذا دُعوا إلى اللهِ يومًا للوجاهةِ والقصدِ

إسلامه – رضي الله عنه -:

أسلم على يد مصعب بن عمير، لما أرسله النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة يعلِّم المسلمين، فلما أسلم، قال لبني عبدالأشهل: كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا، فأسلموا، فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام، وشهد بدرًا، لم يختلفوا فيه، وشهد أُحدًا، والخندق[2].

من مواقفه رضي الله عنه:

شهد سعد – رضي الله عنه – مع الرسول الكثير من الموقف، وشهد معه العديد من الغزوات، فكان كالأسد في عرينه، سعد بن معاذ الذي أسلم في الثلاثين من عمره، رجل شهد له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الكثير من المواقف، نذكر منها:

• ما جاء في صحيح البخاري عن أنس – رضي الله عنه – قال: أهدي للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – جبَّة سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها فقال: ((والذي نفس محمدٍ بيده، لمناديلُ سعد بن معاذ في الجنة أحسنُ من هذا))[3].

• عن جابر – رضي الله عنه – سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((اهتز العرش لموت سعد بن معاذ))، وعن الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مثله، فقال رجل لجابر: فإن البراء يقول: اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((اهتز عرش الرحمن لموت سعدِ بن معاذ))[4].

• عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن أناسًا نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إليه فجاء على حمار، فلما بلغ قريبًا من المسجد، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا إلى خيركم، أو سيدكم))، فقال: ((يا سعد، إن هؤلاء نزلوا على حكمِك))، قال: فإني أحكُم فيهم أن تُقتَل مقاتلتُهم وتسبى ذراريُّهم، قال: ((حكمت بحكم الله، أو بحكم الملك))[5].

• عن أنس بن مالك، قال: لما حُملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخفَّ جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((إن الملائكة كانت تحمله))؛ هذا حديث حسن صحيح غريب[6].

يقول شاعر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:

تذكرتُ عصرًا قد مضى، فتهافتت بناتُ الحشا، وانهلَّ منِّي المدامعُ صبابةُ وجدٍ ذكَّرتني أحبَّةً وقتلى مضوا فيهم نفيعٌ ورافعُ وسعدٌ فأضحَوا في الجنان وأوحشت منازُلهم، والأرضُ منهم بلاقعُ وفَوا يوم بدرٍ للرسول، وفوقهم ظلالُ المنايا والسيوف اللوامعُ دعا فأجابوه بحق، وكلهم مطيعٌ له في كلِّ أمرٍ، وسامعُ فما بدَّلوا حتى توافوا جماعةً ولا يقطعُ الآجالَ إلا المصارعُ لأنهم يرجون منه شفاعةً إذا لم يكن إلا النبيين شافعُ وذلك، يا خير العبادِ، بلاؤنا ومشهدنا في الله، والموتُ ناقع لنا القدمُ الأولى إليك، وخَلْفُنا لأوَّلِنا في طاعةِ الله تابعُ ونعلمُ أن الملك لله وحده وأن قضاءَ الله لا بُدَّ واقعُ

سعد والصيام ورسول الله – صلى الله عليه وسلم -:

عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جاء إلى سعد بن معاذ، فجاء بخبز وزيت، فأكل، ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكة))[7].

• كان سعد بن معاذ نموذجًا من نماذج الإخلاص والوفاء في الصحبة، وآخى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بينه وبين سعد بن أبي وقاص.

وفي يوم بدر:

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أشيروا عليَّ أيها الناس))، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنَعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرَه إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال له سعد بن معاذ: والله لكأنَّك تُريدنا يا رسول الله؟ قال: ((أجل))، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهِدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لِما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخُضْتَه لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكرَهُ أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقَر به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله، فسُرَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله – تعالى – قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)).

ثم ارتحل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ذفران، فسلك على ثنايا يقال لها: الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدبة، وترك الحنان بيمين، وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبًا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه[8].

وفي غزوة بدر أيضًا:

أشار سعد بن معاذ – رضي الله عنه – على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يُبنى له عريشٌ يكون مقرًّا له في قيادة المعركة ويقوم بحراسته نفر من المسلمين، وإذا انهزم المسلمون عاد إلى المدينة، ففيها رجال يقومون بالدفاع عنه، وحمايته ونصرته، ولقد وقف سعد بن معاذ مع الرجال الذين يحرسون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكره – رضي الله عنه – للمسلمين أن يأسِروا، بل عليهم أن يُثخنوا في القتل قبل الأسر؛ حتى لا يقوى العدو على المقاومة فيما بعد.

الخندق:

عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، وذلك قبل أن يُضرَب عليهن الحجاب، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه حين خرجوا إلى الخندق قد رفعوا الذراري، والنساء في الحصون، مخافة عليهم من العدو، قالت عائشة: “فمر سعد بن معاذ، عليه درع له مقلصة قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربة، وهو يقول:

لبِّثْ قليلاً يلحقِ الهيجا جَملْ لا بأس بالموتِ إذا حان الأجَلْ

فقالت أم سعد: الحَقْ يا بني، قد والله أخَّرت، فقالت عائشة: يا أم سعد، لوددت أن درع سعد أسبغ مما هي، فخافت عليه حيث أصاب السهم منه، قال يونس: عن ابن إسحاق، قال: فرماه فيما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: حبان بن العرقة، وهو من بني عامر بن لؤي، فقطع أكحَله، فلما رماه، قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيتَ مِن حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومَ أحب إليَّ أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تُمِتْني حتى تُقرَّ عيني في بني قريظة”[9].

وفاة سعد بن معاذ:

تُوُفِّي يوم الخندق سنة خمس من الهجرة، وهو يومئذٍ ابن سبع وثلاثين سنة، فصلى عليه رسول الله، ودُفن بالبقيع.

وهذا الصحابي الذي قال عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما خرجت جنازته، صاحت أمه، فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا يرقأ دمعك، ويذهب حزنك، فإن ابنك أول من ضحك الله له، واهتز له العرش))[10].

هذا هو الصحابي الذي اهتز له عرش الرحمن عند موته، الله أكبر ولله الحمد.

——————————————————————————–

[1] صفة الصفوة (1/ 171).

[2] أسد الغابة ط العلمية (2 / 461).

[3] صحيح البخاري (4 / 118).

[4] صحيح البخاري (5 / 35).

[5] المرجع السابق.

[6] سنن الترمذي، ت. شاكر (5 / 690).

[7] سنن أبي داود (3 / 367)

[8] سيرة ابن هشام، ت. طه عبدالرؤوف سعد (2 / 188).

[9] أسد الغابة ط العلمية (2 / 461).

[10] المعجم الكبير للطبراني (6 / 12).