ننظر اليوم في الأمر الثَّالث الذي يقول حضرة مناظِرنا المسيحِي: إنَّه استدلَّ به على معرفة شخصيَّة المسيح ورسالته، وهو صدور المعجزات الواردة أخبارها في أَسْفار العهد الجديد، فقد تصفَّحنا تِلك الأسفار وراجَعنا جميعَ عباراتها الخاصَّة بالمعجزات، فألفينا فيها اختلافًا كثيرًا يجعلها غير كافِية للاستدلال على صحَّة الرسالة.

 

وسنعرض جانبًا منها على حضرته تذكيرًا له بأنَّ الأخبار المختلَف في نقلها لا يمكن الوثوق بها أصلاً، ولنبيِّن له أيضًا أنَّ كل معجزة وردَت في هذه الأسفار لم يتوافق في نقلها كاتِبان، بل لا بدَّ من تعارُض الرواة في تكييفِها، وفي تعيين الوقت الذي وقعَت فيه، وفي اسم الجِهة، وأسماء الذين شاهدوها، وغير ذلك، ممَّا يثير الشكَّ والارتباك، ويفتح بابًا للإنكار والتكذيب؛ فنقول وبالله التوفيق:

1- معجزة صيد السَّمك بالكثرة الخارِقة للعادة: فإنجيل لوقا (5: 3) قال: إنَّها حصلَت حين ابتدأ المسيحُ بالتبشير؛ أي: قبل أن يتعرَّف على أحد من التلاميذ الاثنَي عشر، وإنَّ هذه المعجزات كانت سببًا لإيمان أربعة منهم، وهم: بطرس وأخوه، ويوحنَّا وأخوه، وكانوا صيَّادين، فتركوا أشغالهم وشِباكهم ولازموا صحبةَ المسيح منذ تلك الساعة.

 

ولكن إنجيل يوحنَّا (21: 1) قال: إنَّها حصلَت في آخر عهدهم بالمسيح؛ أي: يوم رفعه إلى السماء؛ فالفرق بين الزَّمانين ثلاث سنين ونيِّف، ثمَّ اختلَف الإنجيلان في كيفيَّة تخليص السَّمك من الشبكة؛ فلُوقا قال: خلَّصوا السمكَ من الشبكة وهم في السفينة داخلَ البحر، فملؤوا منه سفينتَين، ويوحنَّا قال: إنَّهم نزلوا إلى الشاطئ وتعاونوا على جَذب الشَّبكة حتى أخرجوها بسمكها إلى البرِّ، ثمَّ أفرغوه على الأرض، وقد اختلف الإنجيلان أيضًا في التحدُّث عن بطرس؛ فلُوقا قال: إنَّ بطرس حين رأى كثرة السَّمك اعترَته دَهشة من هذه المعجزة، فقال للمسيح: (يا سيدي، بارح سفينتي؛ فإنِّي رجل خاطئ)، ولكن يوحنَّا لم يقل: إنَّ بطرس اندهش أو تكلَّم، بل قال: ألقى بنفسه في الماء وخرج إلى الشاطئ ليجذب الشبكةَ إلى البرِّ، وقال يوحنَّا: إنَّهم لمَّا أخرجوا السمكَ شووا منه وجلسوا يأكلون، وإنَّ المسيح أكَل معهم، ولكن لوقا لم يقل شيئًا من ذلك، بل قال: إنَّهم تركوا السمكَ وكل شيء على الفور واتَّبعوا المسيح.

 

فمعجزةٌ مثل هذه يَختلف في نقل خبرها أصحابُ الأناجيل بصفتِهم كَتَبَة الوحي، مع أنَّ يوحنَّا كان حاضرًا وقت حدوثها، كيف وبأيِّ عقلٍ يمكن التسليم بها؟ بل كيف لا يغلب على ظنِّ القارئ أنَّها مخترَعَة، ثمَّ لمَّا شاعَت كَتَبَها كلُّ واحد من الرواة في صورة على قَدر فهمه؟ سيَّما وأنَّها لم تُذكر في إنجيلَي متَّى ومرقس، وكذلك بطرس وأخوه ويعقوب أخو يوحنَّا لم يذكروها في رسائلهم، مع أنَّ الإنجيل يقول: إنَّهم كانوا حاضرين وقت حدوثها.

 

2- معجزة إخراج الشياطين من المجانين ودخولها في الخَنازير؛ فمتَّى (8: 28) يقول: إنَّها حدثَت في (كورة الجرجيسيين)، ومرقس (5: 1) ولوقا (8: 26) يقولان: حدثَت (في كورة الجدربين)، ومتَّى يقول: (استقبله مجنونان خارجان من القبور)، ومرقس يقول: (استقبله مجنون واحد)، ولوقا يقول: (استقبله مجنون واحد خارج من المدينة)؛ أي: لا من القبور، ومرقس ولوقا يقولان: (إنَّ المسيح سأل الشيطانَ: ما اسمك؟ فقال: اسمي لجنون؛ يعني: شياطين كثيرة)، ومَتَّى لم يقل: إنَّه سأله: ما اسمك؟ وكلهم اتَّفقوا على أنَّ الشياطين خرجَت من المجنون أو المجنونين ودخلَت في قَطيع من الخنازير التي كانت تَرعى هناك فوق جرف مشرِف على البحر، فهاجَت لوقتِها واندفعَت إلى البحر فاختنقَت، ومتَّى ولوقا سكتا عن عدَد الخنازير كم كانت، وأمَّا مرقس فقال: كانت نحو ألفين.

 

فأيُّ عاقل يمكنه أن يثِق بصحَّة خبر مثل هذا أو يحسبه معجزةً، وهو يرى الاختلاف فيه حاصلاً من ثلاثة إنجيليِّين يقال: إنَّهم قِدِّيسون، وإنَّهم كانوا يكتبون بإعانة الرُّوح القُدس، مع أنَّ الإنجيل الرَّابع أَغفل هذه المعجزة فلم يذكرها ألبتة.

 

3- معجزة شفاء الأعمى وقع فيها اختلاف بين متَّى ومرقس؛ فمتَّى (20: 29) قال: عند ما خرج المسيحُ من بلدة أريحا وجد أعمَيين جالسين على الطَّريق، فلمس أعينَهما فأبصرا، ولكن مرقس قال (10: 46): عندما خرج المسيحُ من بلدة أريحا وجد أعمى واحدًا جالسًا على الطريق واسمه (بارتيماوس)، فقال له: اذهب إيمانُك قد شفاك، فمتَّى يقول: أعميان، ومرقس يقول: أعمى واحد، ومتَّى يقول: شفاهما باللمس، ومرقس يقول: حصل الشِّفاء بالكلام؛ أي: بدون لمس، ولوقا ويوحنَّا لم يذكرا هذه المعجزة.

 

وحضرة مناظِرنا يقول: هذه كُتب موحى بها، ونحن لا ندري بماذا نجيبُه، ويقول: إنَّه تأكَّد من معرفة شخصيَّة المسيح من هذه المعجزات فآمَن، ونحن لا نستطيع أن نقرَّه على هذه الدَّعوى المحاطة بالشُّكوك والرَّيب.

 

4- معجزة إحياء الموتى، ونذكر منها حكايةً وردَت في إنجيل متَّى (9: 18) وفي إنجيل مرقس (5: 22)، وقد خلا منها الإنجيلان الآخران، وملخَّصها: أنَّ رئيسًا من رؤساء المجامع ماتَت ابنةٌ له فتوجَّه المسيح معه إلى البيت وأحياها، ولكن الإنجيلَين اختلفا في مضمون الحكاية، فمتَّى قال: إنَّ الرئيس جاء إلى المسيح وقال له: (ابنتي ماتَت الآن، فتعالَ وضَع يدك عليها فتحيا)، ومرقس قال: إنَّ الرئيس جاء إلى المسيح وقال له: (ابنتي على آخر نسمَة، ليتك تأتي وتضع يدَك عليها لتشفى وتحيا، وبينما كان الرَّئيس يتكلَّم جاءه واحد من البيت يقول له: ابنتك قد ماتَت فلا تُتعِب المسيحَ)، فالاختلاف بينهما ظاهر، وقد اتَّفقا على أنَّ المسيح مشى مع الرَّئيس إلى البيت، وأنَّه حين رأى أهلَ البنت يبكون قال لهم: لا تبكوا، البنت لم تَمُت لكنَّها نائمة، ثمَّ أخذ بيدها فقامَت.

 

فنحن إذا سلَّمنا أنَّ المسيح قال: (البنت لم تَمُت لكنَّها نائمة) مع مراعاة كونه عليه السلام معصومًا عن الكذب، فلا تَثبت هنا معجزة إحياء الميت، بل تكون الحادثة عِبارة عن إيقاظ ابنةٍ كانَت نائمة.

 

5- إنَّ من يمعِن النظرَ في أسفار العهد القديم والجديد يتبيَّن له أنَّ ظهور المعجزات وخوارق العادات عند أهل الكتاب لا تَبعث على الإيمان، ولا تَصلح لأن تكون دليلاً على صِدق النبوَّة؛ إذ يجوز عندهم أن تَصدر المعجزةُ من غير الأنبياء، بل ومن الأشرار والفجَّار والكفَرة؛ ففي سِفر التثنية (13: 1) أنَّ موسى قال لقومه وهو يوصيهم: (إذا قام في وسطكم نبيٌّ وصنع آيات وعجائب ودعاكم إلى عِبادة غير الله، فلا تطيعوه، بل يجب قتلُه؛ لأنَّه زائغٌ كاذِب).

 

وفي سِفر الخروج (7: 9 – 8: 7) ما يفيد أنَّ المعجزات التي كان يصنعها موسى أمامَ فرعون وقومِه، كان السَّحَرة والعرَّافون يصنعون مثلها.

 

وجاء في إنجيل متَّى (24: 24) أنَّ المسيح قال لتلاميذه: (سيقوم أنبياء كذَبة ويصنعون آيات عظيمة وعجائب، فاحترِزوا من أن يضلُّوكم)، وجاء فيه أيضًا (7: 22) أنَّ المسيح قال: (كثيرون سيقولون لي يوم القيامة: أليس باسمك تنبَّأنا وباسمك صَنعنا معجزات كثيرة، فأصرِّح لهم يومئذٍ أنِّي لم أعرفكم قطُّ، اذهبوا عنِّي يا فاعلي الإثم).

 

وجاء في رسالة بولس (تس 2: 9) في حقِّ الدَّجَّال هكذا: (الذي يجيئه بعملِ الشيطان بكلِّ قوة يعمل آيات وعجائب كاذِبة).

 

ونحن نقول: بناء على هذه النُّصوص، إذا جاز صدور المعجزات والآيات ممَّن يدَّعون النبوَّة وهم كاذبون كما يقول الإنجيل، وأمكن أن يعمل السَّحرة من الخوارق ما يعمله الأنبياء الصَّادقون كما تقول التوراة، فما الذي يؤمِّن أهلَ الكتاب من أن يكون أنبياؤهم سحَرة كاذبين؟

 

فإن قيل: إنَّ المسلمين يقولون بهذا لأنَّهم يعتقدون أنَّ الدَّجَّال يأتي بمعجزات أيضًا، قلنا: حاش لله من هذا، وما الدجَّال في اعتقادنا إلاَّ صاحب عجائب كالمحتال الذي يأتي بحِيَل معروفة كلُّ مَن عرفها عَمِل مثلَ عمله، ألا ترى أنَّ معجزة موسى الواحِدة أبطلَت كيدَ سبعين ساحرًا وأَرغمتهم على الاعتراف بالعَجز والضَّعف؟

 

6- جاء في إنجيل يوحنَّا (14: 12) أنَّ المسيح قال لتلاميذه: (الحق أقول لكن من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا ويعمل أعظمَ منها)، ثمَّ جاء في إنجيل متَّى (17: 14) وفي إنجيل مرقس (9: 17) حكاية لا تَنطبق على هذا القول، بل تنقضه، ومؤدَّاها: أنَّ رجلاً له ابن كان به شَيطان يَصرعه، فأحضره إلى تلاميذ المسيح فلم يقدروا أن يشفوه، ثمَّ جاء به إلى المسيح فشفاه، فقال التلاميذ للمسيح على انفراد: لماذا لم نقدر نحن على إخراج الشَّيطان منه؟ فقال لهم: لعدم إيمانكم، فلو كان لكم إيمان بقَدر حبَّة خَردل وقلتم لهذا الجبَل: انتقِل من هنا إلى هناك فينتقل، وأمَّا هذا الشيطان فهو من الجنس الذي لا يخرج إلاَّ بالصلاة والصوم؛ ا هـ.

 

أقول: لقد ظهر لنا من هذه الحكاية ثلاثةُ أمور عجيبة، أحدها: أنَّ التلاميذ ما كانوا يصلُّون ولا يصومون، ثانيها: أنَّهم ما كان لهم من الإيمان ولا بقَدر حبَّة خردل، ثالثها: أنَّ جميع ما يُروى عنهم من فِعل الكرامات ليس صحيحًا.

 

وهنا يحق لنا أن نسألَ حضرةَ مناظِرنا: إذا كان أولئك التلاميذ القدِّيسون الذين شَهدوا معجزات المسيح بأعينِهم ليس لهم إيمانٌ كما صرَّح المسيحُ في قوله: (لعدم إيمانكم)، فكيف يمكنك أن تدَّعي الإيمانَ بالمسيح وأنت لم ترَ شيئًا من معجزاته، وإنما بلغَتك أخبارها من طريق السماع، وقد بينَّا لك عدمَ ثبوت تلك الأخبار المسموعة بسبَب ما هو واقع في رواياتها من التعارُض والتخالف؟ الحقُّ أنَّ دعواك هذه لم تقم عليها بيِّنة.

 

ونقول ثانيًا: لو كان كَتَبَة الأناجيل رأَوا بأعينهم كرامات التَّلاميذ، لكتبوا أيضًا أنَّهم كانوا يرون الجبالَ تنتقل من مكانها، بل كانوا يَرون ما هو أكبر من ذلك يَحصل بكلمة أيِّ رجل منهم ولو كان إيمانُه ضعيفًا كحبَّة الخردل، مع أنَّه لم يَقل أحدٌ مِنهم: إنَّه رأى شيئًا من ذلك، ولا انتقلَت الجبالُ ولن تنتقل بأضعف الإيمان ولا بأكملِه.

 

ثمَّ إذا صحَّ قول المسيح: إنَّ حبَّة خَردل من الإيمان تَفعل كلَّ شيء، فكيف بعد ذلك مباشرةً اشترَط الصلاةَ والصَّومَ لإخراج شيطان من إنسان؟ وهل إخراجه أَعسر من نقل الجبال، أم ماذا؟ ألا يدلُّ هذا على أنَّ كَتَبة الأناجيل كانوا يكتبون ولا يبالون، والنَّاس من ورائهم يصدِّقون ولا يميِّزون؟

 

7- أغرب ما رأيت في باب المعجزات قول إنجيل مرقس (16: 17) على لسان المسيح: (وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يُخرجون الشياطينَ باسمي، ويتكلَّمون بألسنة جديدة، ويحملون حبَّات، وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المَرْضى فيبرؤون).

 

مع أنَّنا لا نرى أحدًا منهم يَقدر على فِعل شيء من هذه الآيات، فما السبب؟ ألا يوجد فيهم واحدٌ ذو إيمان؟ على أنَّ العالَم الآن في أشدِّ الحاجة إلى مثل هذه العجائب؛ حيث امتلأت قلوبُ الكثيرين من المسيحيِّين بالشكِّ، وانطلقَت ألسنتُهم بالطَّعن، وإذا كان في مقدور المؤمنين منهم أن يتكلَّموا بألسنةٍ جديدة، فلماذا لم يكتبوا الأناجيلَ من الأصل على حسب لغاتِ العالم، ويُرِيحوا أتباعَهم من عَناء الترجمة وتأليف اللِّجان وصَرف الأموال الطائلة لتعميم الإنجيل بسائر اللُّغات؟

 

وبعد:

فقد تبيَّن بحمد الله أنَّ كلَّ من يطَّلع على أخبار المعجزات المدوَّنة في هذه الأسفار يَقف حائر الذِّهن فيما يراه من الارتباك الواقعِ فيها؛ بحيث يستحيل على مَن له عقلٌ سَليم أن يقتنع بصحَّة خبَر منها، أو أن يُوافق على قولِ حَضرة المناظِر: إنَّه استدلَّ على معرفة شخصيَّة المسيح أو رسالته من طريق المعجزات، سيَّما عند ما يلاحظ أنَّ هذه المكتوبات مقطوعة السنَد، وأنَّ واضعيها مجهولو الاسم والصِّفة إلى هذا الحين.

المصدر : موقع االوكة الاسلامي السلفي