في مجمع نيقية المنعقد في سنة 325م تقررت عقيدة الفداء والخلاص، حين صدر عنه الأمانة وفيها: ” الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل وتجسد وتألم ومات، وقام أيضاً في اليوم الثالث “، فمن أين استقى المجتمعون هذه العقيدة المهمة من عقائد النصرانية.

دور بولس في نشأة فكرة الفداء في النصرانية

يعتبر بولس الأب الحقيقي لقصة الفداء والخلاص في النصرانية، حيث تظهر بجلاء ووضوح في في كلماته كما قد بينا بعضه من قبل، وأوضحها قوله: ” ولكن الله بين محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا، فبالأولى كثيراً، ونحن متبررون الآن بدمه، نخلص به من الغضب، لأنه وإن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه .. من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع … لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى، وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم، الذي هو مثال الآتي .. لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون، فبالأولى كثيراً نعمة الله، والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين… ” ( رومية 5/8 – 15 ).

وقد صرح بولس بأهمية فكرة الفداء عنده إذ قال: ” لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً ” ( كورنثوس (1) 2/2 ).

ويقول في ذلك الأب بولس إلياس الخوري: ” مما لا ريب فيه أن الفكرة الأساسية التي ملكت على بولس مشاعره، فعبر عنها في رسائله بأساليب مختلفة هي فكرة رفق الله بالبشر، وهذا الرفق بهم هو ما حمله على إقالتهم من عثارهم، فأرسل إليهم ابنه الوحيد، ليفتديهم على الصليب … وهذه الفكرة عينها هي التي هيمنت على إنجيل لوقا “.

ويقول ارنست دي بوش في كتابه ” الإسلام: أي النصرانية الحقة “: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح، لا من أصول النصرانية الأصلية “.

ففكرة الفداء والخلاص بدعة بولسية لم يقلها المسيح، ولم يعرفها الحواريون، فنصوص الأناجيل التي تحدثت عن الفداء نصوص لا يفهم منها خالي الذهن تلك العقيدة التي فهمها النصارى.

وعقيدة بهذه الأهمية ما كان المسيح ليضِنّ على البشر ببيانها وتوضيحها، إذ يزعمون أن مصير البشرية يتعلق بالإيمان بها، فقد تعلق بها هلاك البشر ونجاتهم.

ويحاول النصارى التأكيد على ورود هذا المعتقد على لسان المسيح وتلاميذه، ويتعلقون ببعض نصوص الإنجيليين، ومن هذه النصوص: قول متى: ” فستلد ابناً، وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” ( متى 1/21 )، ومثله: ” إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب ” ( لوقا 2/11)، ومثله ” لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته لجميع الشعوب ” (لوقا 2/30 )، و ” كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم، بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين ” (متى 20/28 )، و”هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا ” ( متى 26/28 )، و” لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك ” ( لوقا 19/10).

ولعل أوضح نصوص الأناجيل ما كتبه يوحنا: ” لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم ” ( يوحنا 3/16 – 17 ).

وأول ملاحظة نذكرها أن أغلب هذه النصوص هي من قول التلاميذ، ولم ينسبوها للمسيح.

ثم هذه النصوص جميعاً قد كتبت بعد أن دوّن بولس رسائله، فأول الإنجيليين تأليفاً هو مرقس، وقد دوّن إنجيله بعد وفاة بولس سنة 67م.

ولا ريب أن في هذه النصوص – رغم عدم قطعية دلالتها على عقيدة النصارى – صدىً لما كان قد خطه بولس في رسائله.

وهذه النصوص خلت من الحديث عن الخطيئة الأولى الموروثة وخطايا العالم اللاحقة والماضية، وأين فيها الحديث عن الحرية المسلوبة، والإرادة … وعليه فإن خالي الذهن لا يمكن أن يتوصل إلى معتقد النصارى من خلال هذه النصوص، التي يمكن حملها على معاني مجازية، كما لو قيل إن فلاناً ضحى بنفسه من أجل أمته …

فقد وصف يوحنا المعمدان بالمخلص، وعمله بالفداء، وليس المقصود الفداء الذي يذكره النصارى للمسيح، بل الفداء والتطهير والخلاص بالتوبة والعمل الصالح، وهو سبيل الخلاص من مكر الأعداء وتسلطهم، فقد سمت التوراة موسى فادياً وهو لم يمت كفارة لأحد، “هذا موسى الذي أنكروه قائلين: من أقامك رئيساً وقاضياً، هذا أرسله الله رئيساً وفادياً بيد الملاك الذي ظهر له في العليقة، هذا أخرجهم صانعاً عجائب وآيات في أرض مصر وفي البحر الأحمر، وفي البرية أربعين سنة” (أعمال 7/35).

ويصف لوقا يوحنا المعمدان بالفادي والمخلص، وذلك قبل أن يولد المسيح: ” وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس، وتنبأ قائلاً: مبارك الرب إله إسرائيل، لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه. وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه … خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا … وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى، لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعدّ طرقه، لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم، بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء، ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام ” (لوقا 1/67-79).

وعلى هذا النحو سمى التلميذان المسيحَ فادياً، فقالا: ” كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل ” ( لوقا 24/20-21)، أي كنا نرجو أن يكون خلاص بني إسرائيل من أعدائهم على يديه، لكنهم صلبوه وقتلوه.

وهذا المعنى من معاني الفداء والخلاص معروف في الأسفار التوراتية التي تحدثت عن الفادي من أهوال الدنيا وشدائدها، وهي تذكر نجاة بني إسرائيل من المصائب، “أخرجكم الرب بيد شديدة، وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر” (التثنية 7/8)، ومثله في (التثنية 13/5)، ومثله في قوله: “اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بري في وسط شعبك إسرائيل، فيغفر لهم ” (التثنية 21/8-9 ).

وكذا في سفر المزامير سمى الربَ فادياً “الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب” (المزامير 34/22).

وفي نص آخر يؤكد إشعيا هذا المعنى للفداء والخلاص، فيقول: ” هكذا قال الرب فادي إسرائيل: قدوسُه للمهان النفس، لمكروه الأمة، لعبد المتسلطين” (إشعيا 49/7)، فأطلق على الله لقب الفادي والمخلص، فالفداء أو الخلاص له معان أوسع من الذبيحة والمعاوضة التي يصر عليها بولس.

فهي نصوص تتحدث فداء وخلاص، وذلك برحمة من الله وفضل، من غير فاد ولا دم مسفوح.

وقد مال إلى تبسيط معاني تلك النصوص – التي يحتج بها النصارى على الفداء والكفارة – منكرو معتقد الكفارة والفداء من النصارى أنفسهم – كما ذكرت دائرة المعارف البريطانية -، ومنهم الفرقة السوزينية، والمؤرخ كوائليس تيسي، وايبي لارد.

ولئن كانت الفكرة تائهة عند الإنجيلين فهي كذلك عند بقية تلاميذ المسيح وحوارييه الذين لا تجد لديهم بقصة الفداء خبراً، فلم ترد عنهم نصوص تبيين علمهم بهذه المسألة، وهذا لا ريب دال على كونها من صنع بولس وتأليفه وأن المسيح لم يخبر بها، ولم يعلمها أصلاً.

وفي ذلك يقول شارل جنيبر: ” إن موت عيسى في نظر الإثني عشر ليس بالتضحية التكفيرية “.

والحواريون لم يعلموا أصلاً بأن المسيح سيصلب، فضلاً عن أن يكونوا قد فهموا أنه سيصلب فداء لخطايا الناس، وكما قال مرقس: ” كان يعلم تلاميذه، ويقول لهم: إن ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يقتل يقوم في اليوم الثالث، وأما هم فلم يفهموا القول، وخافوا أن يسألوه ” ( مرقس 9/30 – 32 ).

ويدل على جهل تلاميذ المسيح بمسألة الفداء ما ذكره لوقا حين قال عن حال التلميذين المنطلقين لعمواس ” فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين….كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه، ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل، ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك ” ( لوقا 24/17-21 ). لقد جهل التلميذان موضوع الخلاص بموت المسيح، فهما يبحثان عن خلاص آخر، وهو الخلاص الذي يأتي به النبي الذي تنتظره بنو إسرائيل.

وهو خلاص دنيوي سبق أن جاء به كثيرون ، منهم المخلص أهود “وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، فأقام لهم الرب مخلّصاً أهود بن جيرا البنياميني ” (القضاة 3/15).

وأيضاً جهلت الجموع التي شهدت الصلب أن ذلك الصلب يكفر الخطيئة ويرفعها، ولنتأمل ما ذكره لوقا في وصف الجموع وحزنهم على المسيح ” وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم، وكان جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرن ذلك ” ( لوقا 23/48 – 49 ).

ولو كان ما يقوله النصارى في الفداء صحيحاً لكان ينبغي أن يحتفلوا بموت المسيح لخلاص البشرية وخلاصهم من الذنب الذي ناءت بحمله البشرية قروناً مديدة.

عقيدة الفداء والوثنيات السابقة

سؤال يطرح نفسه: من أين أتى بولس بهذه العقيدة؟ هل هي من إبداعاته الذاتية أم أنه استقاها من مصادر قديمة؟ وإن كان كذلك فما هي هذه المصادر؟ وما مقدار استفادة بولس منها؟

الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها سطرها الأستاذ محمد طاهر التنير في كتابه الماتع “العقائد الوثنية في الديانة النصرانية”، وعنه ننقل الكثير من صور التشابه التي نذكرها.

وراثة الذنب

مسألة وراثة الذنب مسألة معروفة في الفكر اليهودي قبل المسيحية بقرون عدة، وقد وردت عدة نصوص تتحدث عنها وتؤكدها، منها ” صانع الإحسان لألوف، ومجازي ذنب الآباء في حضن بنيهم بعدهم، الإله العظيم الجبار رب الجنود اسمه ” ( إرميا 32/18 ).

ومثله ما جاء في سفر التثنية: ” لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر ” ( التثنية 23/2 ).

وجاء في سفر العدد ” الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة، ولكنه لا يبرئ، بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع ” ( العدد 14/18 – 19 ).

وفي سفر الخروج ” غافر الإثم والمعصية والخطيئة، ولكنه لن يبرئ إبراء، مفتقد إثم الآباء في الأبناء، وفي أبناء الأبناء في الجيل الثالث والرابع ” ( الخروج 34/7 ).

ومثله ما نسبوه لدواد أنه قال: ” هأنذا بالإثم صورت، وبالخطيئة حبلت بي أمي ” ( المزمور 51/5 )، وقد تحدث إرميا عن احتجاج بني إسرائيل على هذا الظلم ( انظر إرميا 16/10 – 13).

وقد ناقش النبي حزقيال – كما جاء في سفره – بني إسرائيل في مسألة وراثة الذنب ” أنتم تقولون: لماذا لا يحمل الابن من إثم الأب ؟!

ها كل النفوس هي لي … النفس التي تخطئ تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون … ” ( حزقيال 18/4 – 32 ).

وقد أقرت هذه النصوص التوراتية عقيدة وراثة الذنب والتضامن في الخطيئة، غير أن أحداً منها لم يكن يتحدث عن الخطيئة الأصلية لآدم، والتي يتعلق النصارى بها، لكن أصل الفكرة وارد في الفكر اليهودي الذي نشأ فيه بولس ثم نقله للنصرانية وسطره في رسائله.

فمن أين جاء اليهود بفكرة وراثة الذنب ؟ هل هو من صناعتهم، أم أنه منقول عن غيرهم؟

والصحيح هو أن فكرة وراثة الذنب منقولة عن الأمم الوثنية التي جاورت اليهود وانتشر فيها هذا الفكر، وهذا الذي عابه عليهم الكتاب المقدس ” وصاروا باطلاً وراء الأمم الذين حولهم، والذين أمرهم الرب أن لا يعملوا مثلهم … فغضب الرب جداً على إسرائيل ونحاهم من أمامه ” (الملوك (2) 17/9 – 18 ).

ومن أقدم القائلين بوراثة الذنب، الهنود الوثنيون، وقد نقل المؤرخ هورينور وليمس أن من تضراعاتهم: “إني مذنب، ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني أمي بالإثم، فخلصني يا ذا العين الحندقوقية، يا مخلص الخاطئين، يا مزيل الآثام والذنوب “.

فكرة الفادي في الوثنيات القديمة

سرى في كثير من الوثنيات السابقة على المسيحية فكرة الفادي والمخلص الذي يفدي شعبه أو قومه، وكانت الأمم البدائية القديمة تضحي بطفل محبوب، لاسترضاء السماء، وفي تطور لاحق أضحى الفداء بواسطة مجرم حكم عليه بالموت، وعند البابليين كان الضحية يلبس أثواباً ملكية، لكي يمثل بها ابن الملك، ثم يجلد ويشنق.

وعند اليهود خصص يوم للكفارة يضع فيه كاهن اليهود يده على جدي حي، ويعترف فوق رأسه بجميع ما ارتكب بنو إسرائيل من مظالم، فإذا حمل الخطايا أطلقه في البرية.

ومعلوم أيضاً ما يعطيه الفكر اليهودي للبكر من أهمية خاصة، إذ تقول التوراة: ” قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم من بني إسرائيل من الناس والبهائم إنه لي ” ( الخروج 13/2)، والمسيح هو بكر الخلائق، وأليقها بأن يكون البكر المذبوح.

موت الإله الفادي

وأما فكرة موت الإله فهي عقيدة وثنية يونانية، حيث كان اليونانيون يقولون بموت بعض الآلهة، لكن اليونان كانوا يحتفظون بآلهة أخرى تسيّر دفة الكون، بينما النصارى حين قالوا بموت الإله لم يحتفظوا بهذا البديل، ولم يخبرنا أولئك الذين يعتقدون بأن الله هو المسيح من الذي كان يسير الكون ويرعى شئونه خلال الأيام التي مات فيها الإله. أي الأيام الثلاثة التي قضاها في القبر.

والفداء عن طريق أحد الآلهة أو ابن الله أيضاً موجودة في الوثنيات القديمة، وقد ذكر السير آرثر فندلاي في كتابه ” صخرة الحق ” أسماء ستة عشر شخصاً اعتبرتهم الأمم آلهة سعوا في خلاص هذه الأمم. منهم: أوزوريس في مصر 1700 ق.م، وبعل في بابل 1200ق.م، وأنيس في فرجيا 1170 ق.م، وناموس في سوريا 1160 ق.م، وديوس فيوس في اليونان 1100 ق.م، وكرشنا في الهند 1000 ق.م، وأندرا في التبت 725 ق.م، وبوذا في الصين 560 ق.م، وبرومثيوس في اليونان 547 ق.م، ومترا (متراس) في فارس 400 ق.م.

ولدى البحث والدراسة في معتقدات هذه الأمم الوثنية نجد تشابهاً كبيراً مع ما يقوله النصارى في المسيح المخلص.

فأما بوذا المخلص عند الهنود والصينيين فلعله أكثر الصور تطابقاً مع مخلص النصارى، ولعل مرد هذا التشابه إلى تأخره التاريخي فكان تطوير النصارى لذلك المعتقد قليلاً.

والبوذيون – كما نقل المؤرخون – يسمون بوذا المسيح المولود الوحيد، ومخلص العالم، ويقولون: إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم حتى لا يعاقبوا عليها.

وجاء في أحد الترنيمات البوذية عن بوذا ” عانيت الاضطهاد والامتهان والسجن والموت والقتل بصبر وحب عظيم لجلب السعادة للناس، وسامحت المسيئين إليك “.

ويذكر مكس مولر في كتابه ” تاريخ الآداب السنسكريتية ” أن ” البوذيون يزعمون أن بوذا قال: دعوا الآثام التي ارتكبت في هذا العالم تقع عليّ، كي يخلص العالم “.

ويرى البوذيون أن الإنسان شرير بطبعه، ولا حيلة في إصلاحه إلا بمخلص ومنقذ إلهي.

وكذلك فإن المصريين يعتبرون أوزوريس إلهاً، ويقول المؤرخ بونويك في كتابه ” عقيدة المصريين”: “يعد المصريون أوزوريس أحد مخلصي الناس، وأنه بسبب جده لعمل الصلاح يلاقي اضطهاداً، وبمقاومته للخطايا يقهر ويقتل “.

ويوافقه العلامة دوان في كتابه ” خرافات التوراة والإنجيل وما يماثلها من الديانات الأخرى” .

كما تحدث المؤرخون عن قول المصريين بقيامة مخلصهم بعد الموت، وأنه سيكون ديان الأموات يوم القيامة.

فإنهم يذكرون في أساطيرهم أن أوزوريس حكم بالعدل، فاحتال عليه أخوه وقتله، ووزع أجزاء جسمه على محافظات مصر، فذهبت أرملته أيزيس فجمعت أوصاله من هنا وهناك، وهي تملأ الدنيا نحيباً وبكاءً، فانبعث نور إلى السماء، والتحمت أوصال الجسد الميت، وقام إلى السماء يمسك بميزان العدل والرحمة.

وكذلك اعتقد الهنود في معبودهم كرشنا أنه مخلص وفادي. يقول القس جورج كوكس: “يصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً، لأنه قدم شخصه ذبيحة “، ويعتقدون أن عمله لا يقدر عليه أحد.

ويقول المؤرخ دوان في كتابه ” خرافات التوراة والإنجيل وما يماثلها من الديانات الأخرى”: “يعتقد الهنود بأن كرشنا المولود البكر الذي هو نفس الإله فشنو، والذي لا ابتداء ولا انتهاء له – وفق رأيهم – تحرك حنواً كي يخلص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه “، ومثله يقوله العلامة هوك.

ويصف الهنود أشكالاً متعددة لموت كرشنا أهمها أنه مات معلقاً بشجرة سُمِّر بها بحربة. وتصوره كتبهم مصلوباً، وعلى رأسه إكليل من الذهب، ويقول دوان: ” إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جداً عند الهنود والوثنيين.

وكذلك اعتقد أهل النيبال بمعبودهم أندرا، ويصورونه وقد سفك دمه بالصلب، وثقب بالمسامير، كي يخلص البشر من ذنوبهم كما وصف ذلك المؤرخ هيجين في كتابه: “الانكلو سكسنس”.

وحتى لا نطيل نكتفي بهذه الصور التي اعتقد أصحابها بسفك دم الآلهة قرباناً وفداء عن الخطايا ومثلها في الوثنيات القديمة كثير.

الدم المسفوح سبيل الكفارة

وليست مسألة المخلص فقط هي التي نقلها بولس عن الوثنيات، فقد تحدث أيضاً عن دم المسيح المسفوح فقال: ” يسوع الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه ” ( رومية 3/25 )، ويقول: ” ونحن الآن متبررون بدمه ” ( رومية 5/9 )، ويواصل ” أليست هي شركة دم المسيح ” ( كورنثوس (1) 10/16 ).

ويقول: ” أنعم بها علينا في المحبوب الذي فيه لنا الفداء، بدمه غفران الخطايا ” ( أفسس 1/7).

وفي موضع آخر يتحدث عن ذبح المسيح الفادي ” لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا ” (كورنثوس (1) 5/7 ).

ومثل هذه النصوص تكثر في رسائل بولس، وهي فكرة جِدُ غريبة، فإن المسيح لم يذبح، فالأناجيل تتحدث عن موت المسيح صلباً، لا ذبحاً، الموت صلباً لا يريق الدماء، ولم يرد في الأناجيل أن المسيح نزلت منه الدماء سوى ما قاله يوحنا، وجعله بعد وفاة المسيح حيث قال: ” وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه، لأنهم رأوه قد مات، لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة، وللوقت خرج دم وماء ” ( يوحنا 19/23 – 24 ). وهو ليس ذبحاً بكل حال.

يقول المحقق ولز: ” إنه لزام علينا أن نتذكر أن الموت صلباً لا يكاد يهرق من الدم أكثر مما يريقه الشنق، فتصوير يسوع في صورة المراق دمه من أجل البشرية إنما هو في الحقيقة من أشد العبارات بعداً عن الدقة “.

والنظرة إلى الله بأنه لا يرضى إلا بأن يسيل دم الكفارة أو الضحية نظرة قديمة موجودة عند اليهود وعند الوثنيين قبلهم، ففي التوراة تجد ذلك واضحاً في مثل قولها: ” بنى نوح مذبحاً لله.. وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان ” (التكوين 8/20 – 21 )، وكذا صنع داود ” وبنى داود هناك مذبحاً للرب، وأصعد محرقات وذبائح سلامة، ودعا الرب، فأجابه بنار من السماء على مذبحة المحرقة ” (الأيام (1) 21/26 ).

وهكذا فإن التصور اليهودي للإله مشبع برائحة الدم ، وهي تصور الإله ساخطاً لا يرضيه إلا الدم والمحرقات، وحينها فقط يتنسم رائحة الرضا، ويرضى عن عباده، يقول آرثر ويجال: “نحن لا نقدر أطول من ذلك قبول المبدأ اللاهوتي المفزع الذي من أجل بعض البواعث الغامضة وجوب تضحية استرضائية، إن هذا انتهاك إما لتصوراتنا عن الله بأنه الكلي القدرة، وإلا ما نتصوره عنه ككلي المحبة “.

ويرى كامل سعفان في كتابه القيم ” دراسة عن التوراة والإنجيل” أن ادعاء إهراق دم المسيح مأخوذ من الديانة المثراسية حيث كانوا يذبحون العجل، ويأخذون دمه، فيتلطخ به الآثم، ليولد من جديد، بعد أن سال عليه دم العجل الفدية.

نزول الآلهة إلى الجحيم لتخليص الموتى

وتشابهت العقائد النصرانية مع الوثنيات القديمة مرة أخرى عندما زعم النصارى أن المسيح نزل إلى الجحيم لإخراج الأرواح المعذبة فيها وتخليصها من العذاب، ففي أعمال الرسل يقول بطرس: “سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه، ولم تترك نفسه في الهاوية([1])، ولا رأى جسده فساداً ” (أعمال 2/31 )، ويقول بطرس في رسالته عن المسيح: ” ذهب ليكرز للأرواح التي في السجن ” (بطرس (1) 3/19).

وقد أضحت هذه الفكرة الغريبة معتقداً نصرانياً يقول عنه القديس كريستوم 347م: ” لا ينكر نزول المسيح إلى الجحيم إلا الكافر “.

ويقول القديس كليمندوس السكندري: ” قد بشر يسوع في الإنجيل أهل الجحيم، كما بشر به وعلمه لأهل الأرض، كي يؤمنوا به ويخلصوا “، وبمثله قال أوريجن وغيره من قديسي النصارى.

وهذا المعتقد وثني قديم قال به عابدو كرشنا، فقالوا بنزوله إلى الجحيم لتخليص الأرواح التي في السجن، وقاله عابد وزورستر وأدونيس وهرقل وعطارد وكوتز لكوتل وغيرهم.

ولما وصل النصارى إلى أمريكا الوسطى، وجدوا فيها أدياناً شتى، فخفّ القسس لدعوتهم للمسيحية، فأدهشهم بعد دراستهم لهذه الأديان أن لها شعائراً تشبه شعائر المسيحية، وخاصة في مسائل الخطيئة والخلاص .

فكيف يفسر النصارى هذا التطابق بين معتقداتهم والوثنيات القديمة والذي جعل من النصرانية نسخة معدلة عن هذه الأديان ؟

يقول الأب جيمس تد المحاضر في جامعة أكسفورد: ” سر لاهوتي فوق عقول البشر، وليس من الممكن تفسيره حسب تفسير وتصور هؤلاء البشر”.

وقد صدق الله تبارك وتعالى، فأخبر أن ذلك الذي يقوله النصارى إنما هو مضاهاة لأقوال الأمم الوثنية وانتحال للساقط من أفكارهم ] ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم ٱللّه أنّىٰ يؤفكون ] (التوبة: 30).

——————————————
([1]) النص اقتباس من بطرس لما ورد في سفر المزامير (16/10)، وهو تحريف لما ورد في الأصل العبراني للمزمور، وفيه: ” תוארל ךדיסח ןתת-אל לואשל ישפנ בזעת-אל יכ תחש “، وتعريبه: لن تترك نفسي للهاوية، أي للموت، فيما الترجمة العربية للمزمور تفيد موت المسيح وأن الله لن يتركه في القبر.