مرافقة سيد ولد آدم في الجنة

إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عيه وسلم، أما بعد:

فإن مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا من نعم الله على عباده، وهي شرف صحبة وعظم مكانة، فكيف بمرافقته صلى الله عليه وسلم في الجنة؟

وعن فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا قال القاضي عياض: (من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مرة من عمره، وحصلت له مزية الصحبة، أفضل من كل من يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [1].

ومن مِنن الله تعالى على من فاته مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، أن هيئ له من الأسباب التي بسببها أن يكون رفيقًا لنبي صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد، ومنها:

كثرة السجود:

♦ عن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك قلت: هو ذاك، قال: « فأعني على نفسك بكثرة السجود» [2].

قال النووي: (في الحديث الحث على كثرة السجود والترغيب، والمراد به السجود في الصلاة، وفيه دليل لمن يقول تكثير السجود أفضل من إطالة القيام، ولأن السجود غاية التواضع والعبودية لله تعالى، وفيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها وهو وجهه من التراب الذي يداس ويمتهن) [3].

الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم:

♦ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أُحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضًا، فقال: «مَن يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قُتل، فلم يزل كذلك حتى قُتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا» [4].

قال محمد فؤاد عبدالباقي: (فلما رهقوه)؛ أي: غشوه وقربوا منه، وأرهقه؛ أي غشيه: قال صاحب الأفعال: رهقته وأرهقته؛ أي: أدركته، قال القاضي في المشارق: قيل لا يستعمل ذلك إلا في المكروه، قال: وقال ثابت كل شيء دنوت منه، فقد رهقته (لصاحبيه)، هما ذانك القرشيان، (ما أنصفنا أصحابنا)، ومعناه ما أنصفت قريش الأنصار لكون القرشيين، لم يخرجا للقتال، بل خرجت الأنصار واحد بعد واحد، وذكر القاضي وغيره أن بعضهم رواه ما أنصفنا بفتح الفاء، والمراد على هذا الذين فروا من القتال، فإنهم لم ينصفوا لفرارهم [5].

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم:

♦ عن أنس بن مالك أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ قال: «ما أعددت لها»، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت»[6]، (قال أنس: “فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ”، إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله) [7].

وقال القاضي عياض: (فيه أنَّ محبة الله ومحبة نبيه الاستقامة على طاعتهما وترك مخالفتهما، وإذا أحبهما تأدب بأدب شريعتهما، ووقف عند حدودهما، وفي حبه لله ولنبيه ولمن أحبه من الصالحين، وميله بقلبه إليهم، إنما ذلك كله لله تعالى، وطاعة له وثمرة صحة إيمانه، وشرح قلبه، وهو من أعظم الدرجات وأرفع منازل الطاعات) [8].

♦ وعن عبدالله بن الصامت قال: قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم، قال: « أنت يا أبا ذر مع من أحببت، قلت: فإني أحب الله ورسوله، قال: فأنت يا أبا ذر مع من أحببت، قال هاشم: قالها له ثلاث مرات: أنت مع من أحببت» [9].

ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم بعدما (ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له: نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا) [10].

الإحسان إلى البنات والأخوات:

♦ عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو» وضم أصابعه»[11].

قال الصنعاني: (من أعال جاريتين): قام بكفايتهما وتربيتهما ومصالحهما، والمراد بنتان له، أو أعم من ذلك، (حتى يدركا) سن البلوغ، (دخلت أنا وهو الجنة كهاتين)، قارن دخوله الجنة دخوله صلى الله عليه وسلم، وإن تفاوتت المنازل، وفيه فضيلة عظيمة لمن كان له ما ذكر، ولا بد من تقييده بالصبر والاحتساب كما في غيره، فلا يتضجر من تربيتهما، فيحرم من كفالتهما كما يقع كثيرًا للأنام) [12].

كفالة اليتيم وملاطفته والشفقة عليه:

♦ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة»، وأشار مالك بالسبابة والوسطى [13].

قال ابن حجر: (قال ابن بطال حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك… وفي الحديث إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى) [14].

وقال الذهبي: (كفالة اليتيم هي القيام بأموره والسعي في مصالحه من طعامه وكسوته وتنمية ماله إن كان له مال، وإن كان لا مال له، أنفق عليه وكساه ابتغاء وجه الله تعالى، وقوله في الحديث له أو لغيره؛ أي سواء كان اليتيم قرابة أو أجنبيًّا منه، فالقرابة مثل أن يكفله جده أو أخوه أو أمه أو عمه، أو زوج أمه أو خاله، أو غيره من أقاربه، والأجنبي من ليس بينه وبينه قرابة) [15].

التخلق بمكارم الأخلاق:

♦ عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون» [16].

الثرثرة كثرة الكلام وترديده: (المتفيهقون) الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم، (المتشدقون) الذين يتكلفون بأشداقهم ويتقعرون في مخاطباتهم، ويتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز، وقيل: المستهترين بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم) [17].

كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة» [18].

قال المناوي: (أقربهم مني في القيامة وأحقهم بشفاعتي، أكثرهم عليَّ صلاة في الدنيا؛ لأن كثرة الصلاة عليه تدل على صدق المحبة وكمال الوصلة، فتكون منازلهم في الآخرة منه بحسب تفاوتهم في ذلك) [19].

طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:

♦ عن عائشة قالت: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، والله إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ﴾ [النساء: 69] [20].

وفي الختام:

نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا وإياكم لما فيه رضاه، وأن يرزقنا وإياكم مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى الجنة، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

——————————————————————————–

[1] إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 49).

[2] صحيح مسلم (1/ 353).

[3] شرح النووي على مسلم (4/ 206).

[4] صحيح مسلم (3/ 1415).

[5] المصدر نفسه.

[6] صحيح البخاري – البغا (5/ 2283).

[7] إحياء علوم الدين – (3 / 198).

[8] إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 119).

[9] مسند أحمد بن حنبل (5 / 166)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[10] السيرة النبوية لابن كثير (3/ 128).

[11] صحيح مسلم (4/ 2027).

[12] التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 307).

[13] صحيح مسلم (4/ 2287).

[14] فتح الباري لابن حجر (10/ 436).

[15] الكبائر للذهبي (ص: 67).

[16] الترمذي؛ ت بشار (3/ 438).

[17] التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 536).

[18] سنن الترمذي؛ ت بشار (1/ 612).

[19] التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 316).

[20] المعجم الأوسط (1/ 153)؛ صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وشيء من فقهها وفوائدها (6/ 1044).