لماذا الإيمان بالدين؟

 

القاعدة التي أسس لها القرآن الكريم وشدَّد عليها في أكثر من موضع أن كل بعيد عن الإيمان هو أعمى {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب} ﴿١٩﴾ سورة الرعد.

فالأصل في الكافر العمى، ولا يتحقق له الإبصار إلا بالإيمان، ولن يستطيع أن يتجاوز مرحلة العمى مهما أوتى من علم أو فُتحت له من معارف أو اتسعت دائرة علومه وتعددت طرقها وتشعبت مصادرها فهو سيظل أعمى؛ نعم: مهما بلغ ومهما ارتقى فلن يتجاوز مرحلة العمى إلى مرحلة الإبصار.

 

فلن يستطيع الإنسان التأسيس للمعنى ولا التأسيس للقيمة إلا من خلال الإيمان، ولن يستطيع تحرير إجابة عن الأسئلة الوجودية الكلية –أسئلة النشأة – مثل: لماذا نحن هنا؟ ما الغاية من الوجود الإنساني؟ وكل أسئلة لماذا why لن يستطيع تحرير جواب لها؛ وستظل أجوبتها حِكرًا على الإيمان.

ولن يتجاوز الإنسان بكل علومه ومعارفه وفلسفاته الإجابة على أسئلة كيف how ، أما أسئلة لماذا فستظل أجوبتها حصرية داخل ميدان الإيمان.

 

والقاريء في الشأن الإلحادي يعلم أن غاية الإلحاد الآن هي إخراس هذه الأسئلة الوجودية الكبرى –كل أسئلة لماذا-، بل ووصمْها مرة بالتافهة كما فعل ريتشارد داوكينز Richard Dawkins  حين سُئل عن بعضها في إحدى الحوارات، ووصمها مرةً أخرى بغير ذات معنى، ولا ندري كيف لأهم الأسئلة في الوجود الإنساني أن توصف بالتافهة أو بلا معنى، وهل كون الإلحاد لا يملك إجابة تصبح الأسئلة تافهة؟

 

إن المحاولات المتتالية لإسكات الأسئلة الكبرى ليست إجابة ولا تُشبع إنسان يعلم أنه وُلد ليموت! ولا تُقدم حلاً، بل هي برهان آكد وحُجة سامقة على أن كل بعيد عن الإيمان هو أعمى غير مبصر لحقيقة وجوده ولا لمعنى وجوده ولا قيمة وجوده، ولا يعرف شيئًا عن وجوده.

 

من أجل ذلك: كانت العودة إلى الإيمان هي شرط استيعاب معنى الإنسان وتحليل ظاهرة وجوده، والتأسيس لقيمته وأخلاقياته ومبادئه وغاية كل عملٍ يعمله، فالعودة إلى الإيمان تملك الإجابة الحصرية لكل أسئلة لماذا، وكل أسئلة المعنى، وداخلها يجد الإنسان ذاته، أما خارجها فلا يجد إلا مجموعة من الذرات المتلاحمة بلا معنى، والتي تتحرك بلا غاية وترتطم بلا هدف.

إن العماء الكامل يصم حالة عدم الإيمان والذين لا يملكون نورًا لن يستطيعوا أن يوجدوه { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} ﴿٤٠﴾ سورة النور.

 

فأصل النور هبة إلهية تقترن بالإيمان، ولن تستطيع كل فلسفات العالم أن تؤسس لومضةٍ من نور، فكوجيتو ديكارت Cogito Descartes ” أنا أُفكر” انهار على يد ديفيد هيوم David Hume ، والحداثة التي أسس لها كانط Immanuel Kant ذابت على أعتاب ما بعد الحداثة، ولم يعد ثمة إمكان إبستمولوجي –معرفي- لتأسيس الوعي والقيمة والمعنى للوجود خارج الدين.-1-

 

إن الإحالة إلى الإيمان شرط أصيل لضمان المعنى، فالحقيقة التي يُسلِّم بها البشر الآن أنه: لا حقيقة غائية في الخارج المادي المستقل، ولا يمكن ضبط الحقيقة بدون إيمان، فالعودة إلى الإيمان هي شرط فكري وعقلي ومبررها هو المعطى المادي نفسه، ففي الوجود المادي الخارجي كل شيء يسير وفقًا لقوانين مادية عمياء صارمة لا معنى لها في ذاتها، مجرد قوانين عرضية حادثة غير مكتفيه بذاتها، لذا كانت الإحالة إلى الماوراء من مقتضيات تبصر وتفحص العالم المادي ذاته.

 

لكن لماذا جعل الله النور قرينًا بالإيمان، بينما جعل العمى قرينًا بترك الإيمان؟

لأن هذه غاية وجودنا كله، وحقيقة وجودنا، بل ولا معنى لوجودنا حين نتمرد على هذه الحقيقة.

 

ولماذا الإسلام بالأخص هو الذي ارتضاه الله لعباده؟

الإسلام ليس فِرقة من الفِرق ولا عقيدة من بين عقائد الأرض، حتى يوضع في مجال مُقارنة مع باقي الديانات .. بل هو أصل الأديان والعقائد والعبادات، وهو أنقى أديان التوحيد.
فالإسلام هو تصحيح لمسار الديانات التي انحرفت، وإعادة لنهج أنبياء العهد القديم من لدن آدم إلى نوح وصالح وأيوب وهود وإبراهيم وموسى وداوود ويونس وهارون وعيسى .. فعقيدة هؤلاء جميعًا هي عقيدة الرب إلهنا رب واحد بلفظ التوارة والإنجيل .. هذه العقيدة التي لا تعرف تثليث ولا أقانيم ولا موت آلهة منتحرة، ولا انتزاع آلهة من آلهة أخرى – انتزاع الروح القدس من الآب – ولا آلهة قومية .. يقول تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} ﴿١٣﴾ سورة الشورى

وقال تعالى : {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا} ﴿١٦٣﴾ سورة النساء

إذن فالإسلام ليس ديانة كالديانات وإنما هو أصل الديانات، وتصحيح للخلل الذي أصاب الديانات وبالأخص اليهودية والمسيحية في نسختيهما العهد القديم والجديد .-2-

لكن مقتضى الإيمان هو العبادة؛ فلماذا العبادة؟

العبادة هي تهذيب الغريزة وضبط النفس وانكسارها لباريها، واتباع الباري في كل ما أمر ونهى، ولا يُصلح النفس إلا ذلك، فكما قررنا سابقًا لا يمكن التأسيس للأخلاق ولا للمعنى إلا من خلال الإيمان.

 

وهل يحتاج الله لعبادتنا ؟

الله غنيٌ عن العالمين .. هذا أحد أصول الإسلام }إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } ﴿٧﴾ سورة الزمر

لكن الله سبحانه وتعالى يعلم أن عباده لن يصلحهم إلا عبادته.. ولن تستقيم أحوال العباد ومعاشهم إلا في كنف طاعته، وبقدر ابتعاد الإنسان عن الله بقدر استحلاله للمحرمات، فإذا لم تكن ثمة عبادة لله فكل شيٍء مباح،  لأنه لم تعد ثمة محرمات.

وكلما ابتعد الإنسان عن الله فإنه يُقاد من بطنه وفرجه أكثر مما يُقاد من عقله وضميره، حتى صار يُطلق على إلحاد الغرب ” إلحاد الفرج والبطن”، فعبادة الله صمام أمان للإنسان، والعبادة ترجع فائدتها على الإنسان فقط كما في الحديث القُدسي ” يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أُوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.”

 

فعبادة الله غاية وجود الإنسان، قال الله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ﴿٥٦﴾ سورة الذاريات، أي لم أخلق الثقلين إلا مُهيئين لعبادتي بما ركَّبت فيهم من العقول والحواس والقُوى، فهم في حـالة صالحة للعبادة، مُستعدة لها، فمن جرى على موجب استعداده وفطرته آمن بي وعبدني وحدي، ومَن عـاند واستكبر اتبع غير سبيل المؤمنين.-3-

 

وهل الله يُحب أن يُعبد؟

العبادة هي حق الله تبارك وتعالى على عباده، فهل تعرف ما معنى “حق الله تبارك وتعالى على عباده”؟ .. إن الله عزَّ وجل هو الرب، الخالق، الملك، الحق؛ الذي يستحق وحده أن يُعبد، وأن يُشكر، وأن يُحمد، هذه صفاته يا إنسان .. هذه صفاتُ ربك الذي خلقك ورزقك.

تخيل رجلاً يسير في صحراء قاحلة ثم ظهرت فجأةً مائدة فيها من أصناف المأكولات ما لا يُحصى، فأكل وشرب، وسمِن جسده وتجشأ، ولم يشكر المُنعم عليه، بل لم يشغل باله بمعرفة مصدر رزقه، هل يستوي هو ومَن يعرف رازقه بل وخالقه ويشكره على نعمه التي لا تُحصى {وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} ﴿٣٤﴾ سورة إبراهيم.

هل من المستغرب أن تشكر خالقك ؟

هل من المستغرب أن تنظر في طعامك وشرابك {فلينظر الإنسان إلى طعامه} ﴿٢٤﴾ سورة عبس، وكيف جعل الله طعامك وشرابك سائغًا وجعل لك هضم ومخرج وقدَّر عليك رزقك منذ كنت في بطن أمك بلا حيلةٍ منك ولا من غيرك؟

ألا يستقيم لك أن تشكر رازقك والمُنعم عليك به؟

فالله يُحب أن يعبد ويرضى لعباده الشكر، ويكره الجحود ولا يرضى لعباده الكفر.

وبدون عبادة الله يستبيح الإنسان كل المحرمات، وتتفكك عنده كل الأشياء، فعبادة الله هي صمام ضبط الحياة وضبط  القيمة، ولن يُصلح الإنسان إلا عبادة خالقه.

 

ويبقى السؤال: لماذا يقرر الله سبحانه وتعالى لنا طقوسًا محددة في العبادة دون غيرها؟

عندما قام هنري فورد Henry Ford بصناعة السيارة، وقرر كيف تعمل سيارته ووضع الكتالوج وحدَّد الأصلح في التعامل مع سيارته، هنا هو الصانع وهو الأدرى بالأصلح لصنعته، لم يعترض أحد، فإذا كان الله خالقك ورازقك فمن البديهي أن يحدد لك ما هو الأصلح – ولله المثل الأعلى -.

 

———————-

1- في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة، د. الطيب بوعزة، ص19.

2- كهنة الإلحاد الجديد، د.هيثم طلعت، ص83.

3- تفسير سورة الذاريات، الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله-شيخ الأزهر السابق-.