لا يستقيم إيمان عبدٍ يؤمن بأحد الأنبياء ويكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم

 

لقد قام الأنبياء بدورٍ رئيس في تاريخ الإنسـانية، ومن خلال الأنبياء فحسب أصبح الإنسـان محورًا للتاريخ، ومعنىً للوجود، وغايةً كبرى في هذا الكون!

وعن طريق الإيمان بالأنبياء تـأكّد سمو الإنسان ومعنى قيمته وأصل مركزيته.

 

فكما قرّرنا من قبل: العالم بدون النبوات ظلامٌ دامس وغثاءٌ قاحل وصحراء مجدبة.

ولولا النبوات لما اطمئنت النفس ولا اهتدت البصيرة ولا رُزقت القلوب حياتها!

فبالنبوات تحيا القلوب وتطمئن النفوس وتهتدي البصائر.

فالحمد لله رب العالمين.

 

وكل جاهلٍ بالعلم الإلهي الذي بثّه الأنبياء جاهلٌ بأعظم مطلوبٍ في الوجود.

فحاجة العبد إلى الرسالة أعظم من حاجته لكل شيءٍ، فالرسالة ضرورية للعباد، لا بدَّ لهم منها.

 

ونبوة النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- لم تكن بدعًا من النبوات قبله {قل ما كنت بدعا من الرسل} ﴿٩﴾ سورة الأحقاف.

فنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- جائت بترسيخ التوحيد واستمرار الشريعة وحفظ المصادر، واستقرار موازين الفضيلة وظهور الدين.

بل كان لنبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- من كل هذا الحظ الأوفر والجناب الأسمى والمقام الأرفع!

فلن يجد الملحدة لأحدٍ مثل الذي لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في الأعجوبة والرفعة.

وشريعته -صلى الله عليه وسلم- لم يعترها ما اعترى سائر الشرائع بل هي في كل عصرٍ غضة طرية، ومنذ موته -صلى الله عليه وسلم- وحتى الآن لم تلزم الحاجة لمبعث رسولٍ آخر فالأحكام تُقرأ ليل نهار كأنها للتو خرجت من فم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فمَن يُقر بجنس الأنبياء لا يبقى عنده أدنى شك في نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.

 

والذي يُكذب بنبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- هو بالأحرى يكذب بنبوة كل نبيٍ أخر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الذي يُكذب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم يُكذب بالطريق الذي عرفنا من خلاله صدق الأنبياء وصحة نبوتهم.

فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يُعلم به نبوة محمد بطريق الأولى، فإذا قالوا علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا، قيل لهم معجزات محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكمل، وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن. وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو صلى الله عليه وسلم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل.

فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك فيبطل بتكذيبهم محمدًا جميع ما معهم من النبوات، إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه.

فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداوود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيًا أو أن داوود وسليمان ويوشع كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيًا، أو قال ما تقوله السامرة أن يوشع كان نبيًا ومن بعده كداوود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء، أو قال ما يقوله اليهود إن داوود وسليمان وأشعيا وحبقوق وميخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء والمسيح بن مريم لم يكن نبيًا، كان هذا قولاً متناقضًا معلوم البطلان. فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة أحق بالنبوة وأكمل نبوةً ممن أثبتوها له، ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل، وصار هذا كما لو قال قائل أن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء، أو قال إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة، أو قال إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء، أو قال إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علمٌ بالهيئة.
ومن قال إن داوود وسليمان وميخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء، ومحمد بن عبدالله لم يكن نبيًا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه، بل وكذلك من قال إن موسى وعيسى رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمد ليس برسول والقرآن لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لمن تدّبر ما جاء به محمد وما جاء به من قبله، وتدّبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء، وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء، وهذه الجملة مفصّلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم، وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليلٍ واحدٍ يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء، فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم، ولا حجة لهم أيضًا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء، فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم.
وأيضًا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى، فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحدٍ من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمةٍ مما جاء به.” -1-

 

ويقول في موضعٍ آخر: “فما من جنسٍ من الأدلة يدل على نبوة موسى والمسيح إلا ودلالته على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أقوى وأكثر، فيلزم من ثبوت نبوة موسى والمسيح ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الطعن في نبوة موسى والمسيح.” -2-

 

فلا يمكن التصديق بنبوة نبيٍ من الأنبياء مع التكذيب بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

والطريق الذي بها تثبت نبوة الأنبياء بمثلها وبأعظم منها بكثير تثبت نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.

بل إن التصديق بنبوته أولى من التصديق بنبوة غيره، وكل دليلٍ يُستدل به على نبوة نبيٍ، فمحمد -صلى الله عليه وسلم- حاز منتهى جنس ذلك الدليل.

 

وما ترتب على بعثته -صلى الله عليه وسلم- من تحقيق التوحيد ووضع شرائع العدل وغيرها من مقاصد الرسل أعظم من غيره وأجل وأكثر.
وبذلك يجب القطع بأن رسالته أتم وأعظم.

فلم يأت -صلى الله عليه وسلم- بنسقٍ خارجٍ على نسق الأنبياء قبله {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} ﴿٣٧﴾ سورة الصافات.

 

وإلا فمَن علّمه –صلى الله عليه وسلم- بطلان عبادة الأوثان؟

مَن علّمه بطلان عبادة الآلهة البشرية؟

-مع أن العرب ما عرفوا التقرب إلى الله إلا بوثنٍ أو ببشر!-

ومَن علّمه عصمة الأنبياء حتى يطهر مقامهم الشريف مما ألصقه به أتباعهم؟

من علّمه فضيلة ترك الزنا والخمر والربا وفواحش الأعمال –مع أن مدار أشعار العرب ومعلقاتهم التي بها يتباهون على الخمر والنساء والغزل -؟

من علّمه -صلى الله عليه وسلم- التقرب إلى الله بالطاعات؟

أليس كل هذا كان طريق الأنبياء قبله؟

{ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} ﴿٤٣﴾ سورة فصلت.

فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- بدعًا من الرسل.

 

ولذلك مَن آمن بأحد الأنبياء وقرّر في نفس الوقت أن يكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فهو ضالٌ مفترٍ {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} ﴿٩٠﴾ سورة آل عمران.

يقول الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله في تفسير الآية: ( إن الذين كفروا ) بعيسى ( بعد إيمانهم ) بموسى ( ثم ازدادوا كفراً ) بمحمد ( لن تقبل توبتهم ) إذا غرغروا أو ماتوا كفارًا ( وأولئك هم الضالون ).

 

فالذين وصلتهم البينات الظاهرات على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم يعرفون حال الأنبياء من قبله ثم شهدوا حاله، وبعد ذلك أنكروا رسالته فأولئك هم الظالمون {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين} ﴿٨٦﴾ سورة آل عمران.

وقد جاء وفدٌ من النصارى إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وهم وفد نجران، وأرادوا مباهلته. لكن لما شهدوا حاله وحال رسالته ومشابهتها لرسالات الأنبياء من قبله نكصوا عن المباهلة وخافوا.

وفيهم نزل قول الله تعالى {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين} ﴿٦١﴾ سورة آل عمران.

والمباهلة أن يقولوا: اللهم العن الكاذب في شأن عيسى وقد وافقهم -صلى الله عليه وسلم-، وبالفعل خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي، وقال لهم: إذا دعوت فأمِّنوا، فقالوا: حتى ننظر في أمرنا ثم نأتيك فقال ذو رأيهم: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدًا نبيٌ مرسل، وأنه ما باهل قومٌ نبيًا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية! -3-

تخيل!

تخيل صالحوه على الجزية، في مقابل ألا يدعو عليهم؟

أي حجمٍ من المكابرة والعناد وصل إليه هؤلاء!

وعن ابن عباسٍ قال: لو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً! -4-

 

فهؤلاء الذين شهدوا صدق الرسالة لا حجة لهم في كفرهم {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون} ﴿٧٠﴾ سورة آل عمران.

 

فلا يستقيم إيمان عبدٍ يرفض رسالة ربه ويمتنع عن قبول بعض الرسل، بينما يرض بآخرين.

قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله} ﴿٢٨﴾ سورة الحديد.

( يا أيها الذين آمنوا ) بعيسى ( اتقوا الله وآمنوا برسوله ) محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى. -5-

فدعوة الإسلام دعوة لا يمكن لعاقلٍ أن يردها!

 

 

————————–

1- الجواب الصحيح 2-26،29

2- الجواب الصحيح 2-45

3- نقلاً عن تفسير البغوي!

4- تفسير الإمام السيوطي للآية.

5- نقلاً عن تفسير الإمام جلال الدين المحلي للآية.