لا معبود بحق إلا الله

قال المصنف رحمه الله: (ومعناها: لا معبود بحق إلا الله).

الشرح الإجمالي:

(ومعناها)، أي: ومعنى هذه الكلمة العظيمة – شهادة أن لا إله إلا الله – (لا معبود) يستحق العبادة (بحق)، وهذا يتضمن أن كل المعبودات من دون الله عز وجل هي معبودات باطلة؛ لأنها معبودة بغير حق، فليس لها من حق الألوهية شيء، (إلا الله) دون كل من سواه، وهذا يتضمن إثبات العبادة لله عز وجل وحده [1].

الشرح التفصيلي:

قال المصنف: (ومعناها: لا معبود بحق إلا الله)، وكأن سائلًا يسأل: ما معنى لا إله إلا الله؟ فبين المصنف رحمه الله تعالى: معنى هذه الشهادة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، بأنه: لا معبود بحقٍّ إلا الله وحده، وهذا فيه مسائل:

المسألة الأولى: فسَّر المصنف كلمة (إله) بـ(معبود)، وهذا تفسير مطابق، فـ(إله) فِعال بمعنى مفعول (مألوه)؛ أي: لا معبود، فالإله في كلام العرب هو المعبود، وهو مأخوذ من: أَلَهَ يَأْلَهُ، إِلَهَةً، وألوهة: إذا عَبَد مع الحب والخوف والرجاء، فإذا عبد عابدٌ ما يعبده خائفًا راجيًا محبًّا، فإنه يكون قد ألهه[2].

قال الراجز[3]:

لله در الغانيات المدَّهِ *** سبحن واسترجعن من تألهي

يعني: من عبادتي، فالتأله في اللغة هو: العبادة، وكذلك هو الذي جاء في القرآن، قال جل وعلا: ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [فصلت: 14]، فتفسير الإله بالمعبود، هذا موافق للقرآن وموافق للغة العرب، وبه يُعلم أن تفسير الإله بالرب، يعني: تفسير كلمة: لا إله إلا الله، بأنها: لا خالق أو لا قادر على الاختراع إلا الله، هذا من أبطل ما يكون؛ لأنه مناقض للغة العرب، ومناقض للقرآن، فإن مادة (الإله) غير مادة (الرب)، فالإله هو: المعبود، ومن ذلك تفسير بعضهم “الإله” بقولهم، هو: المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه[4]، فيكون معنى: (لا إله إلا الله) عندهم؛ أي: لا مستغنيًا عما سواه، ولا مفتقرًا إليه كلُّ ما عداه إلا الله، وهذا التفسير يرجع إلى معنى الربوبية، فصار معنى كلمة التوحيد عندهم هو: توحيد الله جل وعلا في ربوبيته؛ أي: لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبِّر الأمر إلا الله، وهؤلاء ظنوا أن التوحيد هو مجرد اعتقاد وحدانية الله في ذاته وصفاته وأفعاله[5]، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن المشركين قد أخبر الله جل وعلا عنهم في كتابه أنهم مقرون بهذا المعنى الُمفسَّرُ به كلمة التوحيد[6]، وسبب غلطهم في هذا التفسير راجع إلى حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور بعيدًا من تخاطب العرب وفهم السلف، فتفسير الإله بالصانع المخترع الخالق أو الرب باطل لغة وشرعًا؛ فإن الإله والرب مفهومان متغايران لغة وشرعًا [7].

المسألة الثانية: قدَّر المصنف خبر (لا) النافية للجنس بقوله: (بحق)؛ فـ(لا) حرف لنفي الجنس، و(إله) اسمها، مبني على الفتح، و(إلا الله)، (إلا): هذه أداة استثناء للفظ الجلالة، والاستثناء (إلا الله) ليس هو خبر (لا)[8] ؛ لأنه لا يصلح أن يكون خبرًا لها لا لفظًا ولا معنى، أما كونه لا يصلح لفظًا، فلأن (لا) لا تعمل إلا في النكرات، ولفظ الجلالة (الله) هو معرفة، بل لفظ الجلالة أعرف المعارف على الإطلاق، فلا يمكن أن تعمل فيه (لا) من حيث اللفظ واللغة، وأما من حيث المعنى، فكذلك لا يصلح جَعْلُ لفظ الجلالة خبرًا؛ لأن المعنى يكون: لا معبود إلا الله، وهذا ليس بصحيح، فهناك معبودات كثيرة غير الله عز وجل، فخبر (لا) النافية للجنس في شهادة التوحيد: (لا إله إلا الله) محذوف؛ لأن العرب ترى في لغتها أن (لا) النافية للجنس يحذف خبرها إذا كان واضحًا؛ كما قال ابن مالك في الألفية في آخر باب لا النافية للجنس:

وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ الخَبَر *** إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَــر

قوله: (وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ) يعني: باب لا النافية للجنس، فإذا ظهر المراد مع الحذف فإنه يُحذف[9]، وقد غلط كثيرٌ من النحويين في تقدير الخبر المحذوف، فقالوا: الخبر كلمة (موجود)، والتقدير: لا إله موجود إلا الله؛ لأنهم يشترطون أن يكون الخبر المحذوف مشتق، فلا بد أن يكون إما اسم فاعل، أو اسم مفعول، أو جملة اسمية أو خبرية، فقالوا الخبر: كلمة (موجود)، وهذا التقدير ليس بصحيح؛ إذ لا يصح أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة موجودة غير الله سبحانه وتعالى، مثل الأشجار والأحجار والأشخاص إلى غير ذلك[10]، فهذا التقدير لا يصلح، ويدل لذلك أن المشركين لم ينازعوا في وجود آلهة أخرى، فهم يعلمون أن هناك آلهة كثيرة موجودة، لهذا لا يصح أن يقال: إن خبر (لا إله) (موجود)؛ لأن أولئك المشركين قالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ [ص: 5]، فلو كان خبر (لا إله) تقديره (موجود)، لقالوا له: هذه الآلهة موجودة، فكلمتك هذه ليست بصحيحة، لكن الخبر معلوم؛ لأنه زبدة الرسالة وعين ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، فخبر (لا) إذا حُذف قُدِّر بالمناسب الذي يُعْلَمُ، وإذا حذف الخبر كان لأجل العلم به ولوضوحه، فيكون تقدير الكلام: لا معبود حق إلا الله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بُعث لتوحيد الله جل وعلا بالعبادة، ولإبطال عبادة غيره، وأنه لا معبود حق إلا الله، وأن كل معبود سوى الله جل وعلا، فعبادته بالباطل والظلم والطغيان والتعدي من الخلق[11]، فالذي يراد من هذه العبارة ومن هذه الجملة: هو إثبات أن الله هو الإله الحق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32]، فيكون المعنى: لا معبود حق إلا الله تعالى، يعني: لا إله يقصد بشيء من العبادة وهو مستحق لها، وأهلٌ لتلك العبادة إلا الله، فإنه جل وعلا هو المستحق للعبادة دون غيره، إذًا هنا حُذِف الخبر؛ لأنه معلوم، فصار تقديره لا إله حق أو لا إله بحق إلا الله؛ لأن الله جل وعلا قال: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [لقمان: 30]، وفي الآية الأخرى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62]، فلما كانت هذه الآية، وقد جاءت في القرآن في سورتين: مشتملة على أن عبادة الله حق، وأن عبادة غيره باطلة، ناسب أن يكون المحذوف هنا كلمة (حق) أو كلمة (بحق)، لا إله بحق أو لا إله حق؛ لأنها هي التي دلت عليها الآيات، فصار معنى: (لا إله إلا الله): لا معبود حق إلا الله، وهناك معبودات غير الله عز وجل، لكنها معبودات بالباطل، وصار هذا التقدير من أنسب ما يكون[12]، قال القرافي رحمه الله تعالى: «والإله المعبود، وليس المراد نفي المعبود كيف كان، لوجود المعبودين في الوجود كالأصنام والكواكب، بل ثَمَّ صفة مضمرة تقديرها: لا معبود مستحق للعبادة إلا الله، ومن لم يضمر هذه الصفة لزِمه أن يكون تشهده كذبًا» [13].

المسألة الثالثة: قال المصنف: (ومعناها: لا معبود بحق إلا الله)، والصواب أن يكون التقدير: لا إله حق، أو لا معبود حق إلا الله، بدون الباء[14]، ويصح أن يكون التقدير: لا إله بحق، أو لا معبود بحق إلا الله، وهو أوضح للعامة، وهو ما قدره المصنف هنا؛ ولعل المصنف راعى تقريبه للناس ليَفهموه[15]، ولكن التقدير الأول أوفق للقرآن، في قول الحق تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ [الحج: 62]، وهو أصح وأقوم لغة؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير، فالخبر هو الموجود، فلا يحتاج لتقدير، أما قولنا: (بحق)، فيحتاج إلى تقدير آخر؛ لأن الجار والمجرور خبرٌ متعلق بمحذوف، تقديره: لا معبود كائن بحق [16].

——————————————————————————–

[1] ينظر: تيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالمحسن القاسم (124).

[2] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (133).

[3] هو رؤبة بن العجاج، ينظر: تفسير ابن كثير (1/20).

[4] السنوسية مع شرحها أم البراهين في العقائد الأشعرية، تأليف: أحمد بن عيسى الأنصاري (135).

[5] وحقيقة الألوهية عندهم: اعتقاد استقلالية المطلوب وقدرته على الاختراع، فالتوحيد عندهم اعتقادي فقط، ولهذا التزموا بأنه لا شرك بالتقرب إلى غير الله بالعبادة إلا إذا تضمن اعتقاد استحقاق المعبود للعبادة من دون الله، وأن المعبود متفرد بالخلق والتدبير، فصرف شيء من العبادة لغير الله ليس شركًا لذاته عندهم إلا إذا تضمن اعتقاد استحقاق العبادة لمن صُرفت له، ولهذا اشتد الخلاف بين المصنف الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وبعض علماء عصره حين بيَّن لهم أنه كما يكون الشرك في الاعتقاد، فإنه كذلك يكون باتخاذ الوسائط في الطلب، وفي التقرب إلى غير الله بالعبادة، ولو لم تكن متضمنة الشرك في الاعتقاد؛ ينظر: الشرك في القديم والحديث؛ تأليف: أبو بكر محمد زكريا (1/36-38).

[6] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (135).

[7] ينظر: الشرك في القديم والحديث، تأليف: أبو بكر محمد زكريا (1/46).

[8] هناك من يرى أن الكلام تام لا يحتاج إلى تقدير خبر، فـ (لا إله) مبتدأ، و(إلا الله) خبره.

ينظر: رسالة: “التجريد في إعراب كلمة التوحيد”؛ تأليف الشيخ علي القاري، المتوفى سنة 1014هـ.

[9] ينظر: شرح الأصول الثلاثة، د. خالد المصلح (43)، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (77).

[10] ينظر: المحصول من شرح ثلاثة الأصول، عبدالله الغنيمان (139).

[11] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (137، 138).

[12] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (139)، وشرح الأصول الثلاثة، د. خالد المصلح (43).

[13] الذخيرة، للقرافي (2/57).

[14] شرح عقيدة أهل السنة والجماعة، المتن والشرح؛ للشيخ محمد بن صالح العثيمين (60)، من إصدارات مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية، ط، الأولى: 1437هــ، وينظر: شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (138).

[15] ينظر: بلوغ المأمول بشرح الثلاثة الأصول، عصام بن أحمد مامي (230).

[16] شرح عقيدة أهل السنة والجماعة، المتن والشرح، للشيخ محمد بن صالح العثيمين (60).