وسط ضجيجٍ وعجيجٍ تتعالى أصواتٌ تنادي بطرد المسلمين من أمريكا، والتضييقِ عليهم في غير مكان من عالمنا المتحضر؛ بحجة مكافحةِ الإرهاب، وأن المسلمين هم أساسُه، وسببُه، ولا ننكر أفعالًا هنا أو هناك تُسيء إلى الإسلام وإلى منتسبِيه، إلا أن سياسةَ التعميم التي يَنتهجُها الغرب تُظهر مدى العنصريَّة التي يتعاملون بها مع الإسلام والمسلمين.

 

إن الذي ينظر إلى الإسلام بعينِ الحَيدة والإنصاف، يتأكَّد له أنه دينٌ لا يعرف العنصريَّة مطلقًا، بل هو دين يدعو إلى التعايشِ مع جميع الناس وشتَّى الأمم على اختلاف أجناسهم وما يعتقدونه.

 

إن العنصريَّة معناها التَّفْرقةُ والتمييزُ في المعاملة بين الناس على أساس من الجنس، أو اللَّون، أو اللغة، أو الدِّين، أو حتى المستوى الاجتماعي والطَّبَقي، هذه العنصريَّة متجذِّرة في البشرية منذ القِدم، وإذا قلَّبت صفحات الماضي، واطَّلعت على الموروثات الثقافيَّة لهذه البشرية، لوجدْتَ نماذجَ صارخةً لهذه العنصرية، فالبوذيَّة صنَّفت البشر إلى طبقات عدة – حسب اعتقادهم الباطل – فمَن خُلق من الفم هم أشراف الناس ورجال الدين عندهم، ومن خُلِق من الذراع هم رجال القوة والحرب، ومُن خلق من القَدَمِ هم العبيدُ والخَدَم، كذلك قسَّمت الحضارة اليونانيَّة الناسَ إلى أشرافٍ وبربر، ومثلها فعلَتِ الحضارة الرومانية، أما الاعتقادُ اليهودي في البشر، فمعروفٌ ومشهور، ومُسجَّل في بروتوكولاتهم، فهم يعتقدون أنهم شعبُ الله المختار، وغيرهم أمميُّون لا قيمة لهم، ولا وزن، ولا حق لهم حتى في الحياة.

 

ولم يبتعِدِ العربُ قبل الإسلام عن هذه النعرة، بل كانت القبليَّة سائدةً، والتقسيم الطبقي حاضرًا؛ فهذا من الأَوْسِ، وذاك من الخَزْرَجِ، وهذا من السادة، وذاك من العبيد، وكانت الحروبُ والنَّزاعات تقوم بينهم لعشرات السنين لا تحطُّ أوزارَها لأسباب تافهةٍ، وعلَتْ أصواتُ الفخر لهذه العصبيَّة حتى قال قائلهم – وهو عمرو بن كلثوم في معلَّقته -:

إذا بَلَغ الرَّضِيعُ لنا فِطامًا ♦♦♦ تخرُّ له الجَبابرُ ساجدِينا

 

وعالمنا المتحضر في قرنه الواحد والعشرين ليس بمنأًى عن هذه العصبية المَقيتة، والعنصرية الفجَّة، التي تقوم على أساسٍ من العِرق أو الدِّين أو اللون، والأحداث شاهدة على ذلك، فما يحدثُ في فلسطين أساسُه العنصرية، وما يحدث في بورما ضدَّ المسلمين أساسُه العنصريَّة، وما حدث في البُوسنة والهِرْسك في التسعينيَّات من القرن الماضي أساسه العنصرية.

 

(2)

والمتابعُ للأحداث المتفرِّقة في أمريكا بينَ البِيض والزُّنوج يعرف أنَّ أساسها العنصريَّة؛ فالعنصريَّة حاضرةٌ في الزمن الماضي إلى وقتنا هذا.

 

ولا تَعْجَبْ إن قلنا: إن العنصريَّة طالت حتى النظريَّاتِ التي تُدرَّس في الجامعات، ولا تخفى علينا نظريَّةُ التطور التي دعا إليها تشارلز دارون، وهي تتعلَّق بالجنس البشري، التي ادَّعى فيها أن أصلَ الإنسان يرجع إلى القردة، وهذا – لا شكَّ – تحقيرٌ لما كرَّم الله، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، فهي من الأفكار والنظريَّات العنصريَّة التي تعمَّدت تحقيرَ الجنس البشري الذي فضَّله الله رب العالمين.

 

أما دينُنا الإسلامي الحنيفُ، فقد حارب العنصريَّة والطبقيَّة بشتَّى أنواعها وأشكالها منذ بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أعلنَها القرآن الكريم صريحةً مدوِّية أن التفاضل بين البشر لا يكون إلا بميزان التقوى فحسب؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، والاختلاف في طبيعة الجنس البشري، وتعدد صوره وأشكاله: جعله الله آيةً من آياته في هذا الكون؛ قال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22]، وأكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى في أقواله الشريفة، روى أبو داود في سُننه عن أبي هريرةَ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهليَّة وفخرَها بالآباء، مؤمنٌ تقيٌّ، وفاجرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدم، وآدمُ من تراب، ليَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنما هم فَحْمٌ من فَحْم جهنَّمَ، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجِعْلان التي تدفع بأنفها النَّتْن))، وروى أبو داود عنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ أن رسول اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم قال: ((ليس منَّا مَن دعا إلى عصبيَّة، وليس منَّا من قاتل على عصبيَّة، وليس منَّا من مات على عصبيَّة))؛ ضعَّفه الألباني.

 

والذي يتدبَّرُ السيرة النبوية يعلم جيدًا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نبَذَ كلَّ فكرٍ فيه العصبيَّة الممقوتة، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا في غَزاة فكَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار (والكَسْع: ضربُ الدُّبرِ باليد أو بالرجل)، فقال الأنصاري: يا للأنصارِ! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسَمِع ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما بالُ دعوى الجاهليَّة؟!))، قالوا: يا رسولَ الله، كَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: ((دَعوها؛ فإنها مُنْتنةٌ)).

 

( 3 )

لقد كان سعي الإسلام حثيثًا نحو إزالة الفوارق الطبقيَّة بين المجتمع الواحد، وظهر ذلك جليًّا في جملة تشريعاتٍ تهدفُ إلى تحرير العبيدِ، ومنع الرِّقِّ الذي كان منتشرًا بقوة في الجزيرة العربية، وفي غيرها قبل الإسلام، فجعَل عِتْقَ الرِّقاب سببًا في النجاة من النار؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 – 13]، روى أحمدُ في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أعتَقَ رقبة مؤمنةً، أعتق الله بكل إِرْبٍ منها إرْبًا منه من النار، حتى إنه ليعتِقُ باليدِ اليدَ، وبالرِّجْلِ الرِّجْلَ، وبالفَرْجِ الفَرْجَ))، واهتمَّ التشريع الإسلامي بتحريرِ الرِّقاب، فجعل من كفَّارات الأيمان تحريرَ الرِّقاب، ومن كفَّارات الظِّهار تحريرَ الرِّقاب، ومن كفَّارات القتل الخطأِ تحريرَ الرِّقاب.

 

ومن خلال السيرة أيضًا نَعلَمُ أن المسلمين تعايشوا مع غيرهم في المدينة المنوَّرة، فعقدوا صلحًا مع اليهود حتى خان اليهود عهدَهم وكتابَهم، وتصالحوا مع نصارى نَجْران، وكان من كبار الصحابةِ مَن لا ينتمي إلى العرب أصلًا، فهذا سلمان (الفارسي)، وصهيب (الرومي)، وبلال (الحبشي)، ونقولُ: رضي الله عنهم أجمعين؛ فالإيمان أزال وأذاب الفوارقَ التي تقومُ على أساسٍ من الجنس أو العِرق أو اللون.

 

كذلك يعطينا التاريخُ الإسلامي نماذجَ رائعةً تُظهِر عظمةَ الإسلام ومساواته بين أتباعه، دون التحزُّب والميلِ إلى شخصٍ لدينِه أو لمكانتِه في مجتمعه، كان جَبَلَةُ بنُ الأيهم آخرَ أمراء بني غسَّان، وكان حديثَ عهدٍ بالإسلام، وجاء مكة ليَحجَّ أو يعتمرَ، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وَطِئ إزارَه رجلٌ من بني فَزَارةَ، وغضب الأميرُ الغسَّاني لذلك، فلطَمه لطمةً قاسيةً هَشَمت أنفَه، فأسرع الفزاريُّ إلى أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه يشكو إليه ما حلَّ به، فأرسل الفاروق إلى جَبَلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقرَّ بما حدث، فقال له عمر: ماذا دعاك يا جَبَلة لأَنْ تظلمَ أخاك هذا، فتهشَم أنفَه؟ فأجاب بأنه قد ترفَّق كثيرًا بهذا البدوي، وأنه لولا حرمةُ البيت الحرام لقَتَلَه، فقال له عمر: لقد أقرَرْتَ، فإما أن تُرضِيَ الرجلَ، وإما أن أقتصَّ له منك.

وزادَت دهشةُ جَبَلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري، وقال: وكيف ذلك وهو سُوقَةٌ وأنا ملِك؟! فقال عمر: إن الإسلام قد سوَّى بينكما، فقال الأمير الغسَّاني: لقد ظَنَنْتُ يا أميرَ المؤمنين أن أكونَ في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية! فقال الفاروق: دَعْ عنك هذا، فإنك إن لم ترضِ الرجلَ اقتصَصْتُ له منك، فقال جَبَلة: إذًا أتنصَّر! فقال عمر: إذا تنصَّرْتَ ضربتُ عنقَك؛ لأنك أسلمت، فإن ارتدَدْتَ قتلتُك.

ولم يُطِقْ جَبَلة أن يُقتَصَّ منه، فما كان منه إلا أن أخَذَ قرارَ الفرار والتنصُّر؛ فخسر دينَه ودنياه.

 

( 4 )

ولم يكتفِ الإسلام بالمساواة بين أتباعه فحسْبُ، بل كان يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه حتى ولو كان مخالفًا للدين والملَّة؛ فعن أنس رضي الله عنه أن رجلًا من أهل مصرَ أتى عمرَ بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذٌ بك من الظُّلم، قال: عُذْتَ مُعاذًا، قال: سابقتُ ابنَ عمرِو بن العاص فسبَقْتُه، فجعل يضربُني بالسَّوْطِ ويقول: أنا ابنُ الأكرمين، فكتب عمرُ إلى عمرٍو يأمرُه بالقُدوم، ويقدم بابنه معه، فقَدِمَ، فقال عمر: أين المصريُّ؟ خُذِ السوطَ فاضرِبْ، فجعَلَ يَضرِبُه بالسَّوْط، ويقول عمر: اضرِبِ ابنَ الأكرمين.

 

قال أنس: فضَرَب، فوالله لقد ضَرَبه ونحن نحبُّ ضربَه، فما أقلَعَ عنه حتى تمنَّيْنا أنه يرفعُ عنه، ثم قال عمر للمصريِّ: ضَعِ السَّوْطَ على صَلْعةِ عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنُه الذي ضربَني، وقد استَقَدْتُ منه، فقال عمر لعمرو: مُذْ كم تعبَّدْتُم الناسَ وقد ولدَتْهم أمَّهاتُهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أَعْلمْ، ولم يأتِني.

 

إننا لو استعرضنا أحوالَ المسلمين في عالمنا، لوجدنا العنصريَّة ضدَّهم واضحةً لمجرد أنهم مسلمون، والأحداثُ شاهدة في فلسطين وبورما وميانمار، ومن قبلُ في البُوسنة والهِرْسك، وكُوسوفا وغير ذلك على مرأًى ومسمعٍ من العالم أجمعَ، من المنظَّمات الدولية التي من المفترضِ أنها تكافحُ العنصريَّة، وتقفُ ضدَّ مَن يَنتهِجُ تلك السياسة.

 

إن الدين الإسلاميَّ – بحقٍّ – أعطى النموذجَ الأسمى، والمَثل الأعلى في مناهضةِ ومكافحة فكرِ العنصريَّة والتعصُّب الأعمى، ولا يضرُّ ذلك أن تَصدُرَ بعض الحوادث المنفردة من فئات قد تَنسبُ نفسَها إلى الإسلام، فتُخرِّبُ وتدمِّر، وتَقتُلُ بغير جريرة، وتُسيء إلى الإسلام في الداخل والخارج، ونتساءل: هل يُؤخَذُ الكلُّ بأفعال البعض؟ إن ذلك لو حدَث لكان الظلمَ البيِّن، فلْيَعِ المتطاولون على الإسلام ونهجِه ذلك، وليتأكدوا أنه لا عنصريَّة ولا تعصُّب أعمى في ديننا الحنيف.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته