كل خيرٍ في الوجود فمنشؤه من جهة الرسل

 

بدون الرسل والرسالات والإيمان بالنبوات، تتحول كل القيم في هذا العالم إلى غثاء.

بدون الإيمان بالنبوات يتحول الإنسان إلى مجرد نفاية نجمية star-stuff بلا قيمة كما يقول اللاأدري كارل ساغان.-1-

بدون التسليم بصحة الرسالة تتحول كل الأشياء الجميلة إلى رعب ويصير الكون بلا هدف، وتصبح كل الغايات السامية هراء لا يُطاق. -2-

هذه مسلمات يتفق عليها الملحد والمؤمن!

فالعالم لا يستمد قيمته من ذاته.

ولذلك لا يرغب عن الإيمان بالله وبرسالاته إلا مَن أراد أن يدمر معنى وجوده، ويُسفه غايته في الحياة{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} ﴿١٣٠﴾ سورة البقرة.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “كل خيرٍ في الوجود فمنشؤه من جهة الرسول، وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاحٍ للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة.
وكذلك العبد ما لم تشرق فى قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة وهو من الأموات قال الله تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} ﴿١٢٢﴾ سورة الأنعام.

فهذا وصف المؤمن، كان ميتا فى ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشى به فى الناس.

وأما الكافر فميت القلب “في الظلمات”، وسمى الله تعالى رسالته روحاً، والروح إذا عُدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى: ({وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} ﴿٥٢﴾ سورة الشورى. فذكر هنا الأصلين وهما الروح والنور.” -3-
فأي ضلالةٍ يحياها المرء بإنكاره للرسل والرسالات!

 

وكل البشر بفطرتهم وصبغتهم التي صبغهم الله عليها لديهم قناعة بالواجب الأخلاقي، حتى الملحدين منهم. لكن لا شيء مادي يعطي تبريرًا لهذا الواجب الأخلاقي.

فما مصدر هذا الواجب الأخلاقي؟

أيضًا: لا شيء مادي نستمد منه وخز الضمير الأخلاقي وشعورنا بالحرج حين نُخطيء!

وإذا لم تكن الرسالات موجودة فلا يمكنك أن تصف عمل ما بأنه “أخلاقي” أو عمل آخر بأنه “لا أخلاقي”، فقط يمكنك أن تقول هذا “يعجبني” وذاك “لا يعجبني”.

فبمعزل عن الله والرسالات لا يمكنك أن تبرر الواجب والحق والعدل والقيمة!

فنحن في عالمٍ مادي غير معنيٍ بالأخلاق أصلاً!

فإما أن هذه الأخلاق سخف على أعلى درجة، وإما أنها تستمد معناها من عالمٍ آخر!

لذا فالرسالة هي روح هذا العالم، وهي نبضه الأوحد، وبغيرها يتحول العالم بكل صخبه إلى جثةٍ هامدة.

فالدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فالرسالة روح العالم ونوره وحياته.

 

وظاهرة الرسالات والنبوات هي من الظواهر التي يتوقف عندها التاريخ بالرصد والتعجب واليقين. فالرسالة ليست حدثًا فرديًا لا يتكرر.

ولا هي تطلعًا نفسيًا عند دعاتها بل هي على العكس من ذلك تمامًا، فكثير من الأنبياء كيونس وأرميا ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- توقفوا في بداية رسالتهم ورهبوا الموقف وابتعدوا، ولكن دعوتهم استولت عليهم أخيراً، بعد أن تبين أنها دعوة من خارج أنفسهم.

فمقاومتهم في البداية تدل على التعارض بين اختيارهم والإرادة الإلهية العليا التي تطوق رغبتهم. وفي هذا دلالة قوية على استقلالية حجة الرسالة عن الرغبة الشخصية والنزعة النفسية.

 

أيضًا الرسالة ليست حدثًا فرديًا بل هي تتكرر في أصقاعٍ شتى وأزمانٍ متباينة؛ يقول مالك بن نبي –رحمه الله: “ثم إنَّ مبعث نبيٍّ ما ليس حدثاً فرداً ليكون غريباً ناًدراً بل هو على العكس من ذلك ظاهرة مستمرة تتكرر بانتظام واستمرار، ظاهرة تتكرر بالكيفية نفسها، وهذا يُعد شاهداً علمياً يمكن استخدامه لتقرير مبدأ وجودها بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل ومع طبيعة المبدأ “. -4-

فهنا لك أن تسأل دعاة التجريب: ألا يعد تكرار ظاهرة الرسالة شاهدًا على موضوعيتها؟

{ثم أرسلنا رسلنا تترى} ﴿٤٤﴾ سورة المؤمنون.

أما التثبت من صحة وجود الرسالة فيسير.

وترّصده جد بسيط.

وآياته متكاثرة لا تتوقف ولا يحصيها المتبصر!

ومدار التسليم بصحة الرسالة يتوقف على صدق مدعيها لا أكثر!

يقول الفيلسوف زكي نجيب محمود: ” ليس مدار التسليم برسالة النبي على ما يقدمه من برهان عقلي، بقدر ما يكون مدار التسليم مبنيـاً على صدق صاحب الرسالة وأمانته”. -5-
فمدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم –لأنه رسول من عند الله-، وإما أن يكون من أنقص الخلق وأذلهم-لأنه ادعى بهتانًا عظيمًا-، فكيف يشتهب أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأذلهم؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “كل شخصين ادعيا أمرًا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب، فلابد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة، إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور”. -6-

 

ويقول رحمه الله في موضعٍ آخر من كتبه: “ليست المعجزة هي الشرط الأوحد للنبوة فمُدعي النبوة إما أن يكون أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ، ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين.

وقد أسلم السابقون الأولون أمثال أبي بكر الصديق وخديجة والمُبشَّرين قبل انشقاق القمر والإخبار بالغيب والتحدي بالقرآن … وكثيرٌ من الناس يعلم صدقَ المُخبر بلا آية البتة …وموسى بن عمران لما جاء إلى مصر وقال لهم إن الله أرسلني علموا صدقه قبل أن يُظهر لهم الآيات، وكذلك النبي لما ذكر حاله لخديجة وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، قال هذا هو الناموس الذي يأتي موسى، وكذلك النجاشي وأبو بكر علموا صدقه علمًا ضرورياً لما أخبرهم بما جاء به وما يعرفون من صدقه وأمانته.

مع غير ذلك من القرائن يوجب علمًا ضروريًا بأنه صادق، وخبر الواحد المجهول من آحاد الناس قد تقترن به قرائن يُعرف بها صدقه بالضرورة فكيف بمن عُرف بصدقه وأمانته وأخبر بمثل هذا الأمر الذي لا يقوله إلا مَن هو أصدقُ الناس أو أكذبهم وهم يعلمون أنه من الصنف الأول دون الثاني.” -7-

 

فالاستدلال على صحة دعوى الرسالة أمرٌ يسير.

والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يدعِ أحد أنه كذِب ولو لمرةٍ واحدة!

فقد عجز البشر عن إظهار كذبةٍ واحدة في جميع عمره صلى الله عليه وسلم على تعدد مواقفه وكثرة أخباره.

“ما عهدنا عليك كذبًا قط”

“ما جربنا عليك كذبًا” ألم تكن هذه الجملة هي أول رد من المشركين في أول حوارٍ بينه وبينهم بشأن رسالته؟ -8-

بل ما اشتهر -صلى الله عليه وسلم- إلا بالصادق الأمين، ولذا فقد أخبر القرآن العرب أنهم ماكرين حين ينتكرون لرسالته صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون حاله قبل بعثته وأنه صادق وأمين {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} ﴿٦٩﴾ سورة المؤمنون.

 

ولو تبصّرت الكتب السابقة لما ازددت إلى يقينًا!

فقد عُرِّف النبي –صلى الله عليه وسلم- أيضًا بالصادق الأمين في كتب الأسبقين.

ينقل سفر الرؤيا –آخر أسفار الكتاب المقدس- وهو السفر الخاص بنبوءات آخر الزمان، ينقل لنا صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ونعته فيقول: ” ثم رأيت السماء مفتوحة، وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينًا وصادقًا، وبالعدل يحكم ويحارب.” -9-

مَن هو الذي ركب الفرس وبالعدل كان يحكم ويحارب، وكان لقبه “الصادق الأمين”، وكان مبتعثًا من السماء –السماء مفتوحة- غيره -صلى الله عليه وسلم-؟

 

إن حجة الرسالة وحجة صدق الرسول هي من الحجج العقلية التي لا تتطلب من المرء أكثر من التسليم والإسلام!

 

————–

1- Video Source: The Shores of the Cosmic Ocean [Episode 1]

Some part of our being knows this is where we came from. We long to return. And we can. Because the cosmos is also within us. We’re made of star-stuff. We are a way for the cosmos to know itself. 06 min 04 sec

2- cosmically inconsequential bundles of stardust, adrift in an infinite and purposeless universe.

3- مجموع الفتاوى 19-93،94
4- مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية ص87

5- من وحي كتاب موقف من الميتافيزيقيا، زكي نجيب محمود.

6- الاصفهانية ص474.

7- ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً، شيخ الإسلام بن تيمية، دار ابن الجوزي، ص 573، وبمعناه في نفس المصدر ص318.

8- أنظر تفسير الطبري في قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} ﴿٢١٤﴾ سورة الشعراء.

9- سفر الرؤيا إصحاح 19 عدد11.