لقد استخلف الله تعالى الإنسان في الأرض من أجل غاية أساسية، وهي عبادته عز وجل والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، ولما كان من طبيعة الإنسان النسيان، هيأ له عز وجل من يذكره إذا نسىي، فأرسل إليه الأنبياء والرسل ليذكروه بحقيقة وجوده في هذه الأرض. إلا أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون عموم الناس أكثر من الأنبياء والرسل، فيحتاج هؤلاء الأنبياء والرسل من يتمم رسالاتهم ويبلغها لمن لم يعايشوهم أو يعاصروهم، فأوكل الله تعالى هذا الأمر للعلماء أولا ثم إلى كل من يستطيع تبليغ هذه الرسالة ثانيا.

لذلك كانت أشرف مهمة في هذه الأرض هي مهمة الأنبياء، وهي الدعوة إلى الله تعالى.

والمؤمن الذي يتطلع إلى درجات الإحسان والسلوك إلى الله تعالى، لا يُسعفه إلا أن يسلك مسلك الأنبياء حتى يصل إلى ما وصلوا إليه.

قال الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 1.

يقول الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير “وفي الآية دلالة على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين آمنوا به مأمورون بأن يدعوا إلى الإيمان بما يستطيعون … وقد كانت الدعوة إلى الإسلام في صدر زمان البعثة المحمدية واجبا على الأعيان لقول النبيء صلى الله عليه وسلم: “بلغوا عني ولو آية” 2،  أي بقدر الاستطاعة. ثم لما ظهر الإسلام وبلغت دعوته الأسماع صارت الدعوة إليه واجبا على الكفاية كما دل عليه قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير 3.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “فمن دعا إلى الله فهو على سبيل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو على بصيرة وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، وليس على بصيرة ولا هو من أتباعه، وهؤلاء المبلغون عنه من أمته  لهم من حفظِ الله و عصمته إياهم  بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وتبليغُ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه” 4.

طالع أيضا  نظرات في الخطاب الدعوي

فلما كانت هذه المهمة أشرف المهام كان لا بد من إيلائها عناية كبيرة بحثا وتهمما وممارسة، ولما كان كتاب الله تعالى مصدر هذه الدعوة فمن الأجدر الرجوع إليه لاستنباط أهم القواعد الدعوية وتنزيلها على أرض الواقع حتى يكون الداعية إلى الله تعالى على هدى وبصيرة من أمره.

القاعدة الأولى: الدعوة إلى الله تعالى سير على منهج الأنبياء والمرسلين

قال الله تعالى في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (11).

منهج الأنبياء عليهم السلام هو الدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده عز وجل بالعبودية، وهذا المنهج لم يختص بنبي دون آخر ولم يتغير من شريعة إلى أخرى، فهو منهج ثابت إلى يوم القيامة، وكل من لا يستجيب لدعوة التوحيد أو لا يدعو إليها فليحذر أن تصيبه شرارة الشرك، فالمشركون بالله تعالى المتبعون أهواءهم يصعب عليهم تقبل كلمة التوحيد، قال قتادة رحمه الله: كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله – عز وجل – إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها على من ناوأها 5.

وكل من كان منهجه على منهج الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى الله تعالى سهُل عليه السير إلى الله تعالى والسلوك إليه وأصبح من المنعم عليهم مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وتبرز قيمة الدعوة إلى الله تعالى كونها دعوة توحد البشرية وتبث فيها روح الأخوة والعدل والمساواة، وتُظهر الحقيقة والغاية من خلق الإنسان، لذلك قال عز وجل فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (13) 6.

القاعدة الثانية: الدعوة إلى الله تعالى مثابرة وجد واجتهاد وعدم استعجال الثمرة

يقول الله تعالى في سورة نوح: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9).

ليست الدعوة تسلية يتسلى بها الإنسان أو هواية يمارسها متى يشاء ويتركها متى يشاء، بل الدعوة مهمة شريفة ووظيفة نبيلة وأمانة ثقيلة، تتطلب صبرا ومصابرة وجدا واجتهادا، وسهرا وإلحاحا، دعوة تتطلب بذل الإنسان كل ما يملكه؛ نفسه، جهده، ماله، وقته، بل عمره كله، والآيات الكريمات التي بين أيدينا تبين لنا هذا البذل الذي بذله نوح عليه السلام مع قومه من أجل دعوتهم إلى الله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) 7.

ألف سنة إلا خمسين عاما من الدعوة إلى الله تعالى دون كلل أو ملل، دعا إلى الله تعالى كل هذه المدة وأدى الوظيفة والمهمة بأحسن آداء، لكن كانت النتيجة أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ 8، وهؤلاء كانوا قلة وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 9.

عمر مقداره ألف سنة إلا خمسين عاما من الدعوة كانت حصيلته أن آمن واستجاب للدعوة مقدار ما تحمله السفينة التي صنعها نوح عليه السلام، قلة ممن استجابت للدعوة فنجت وساهمت في استمرار البشرية والاستخلاف في الأرض، وأكثرية كذبت وطغت فكان مصيرها الهلاك والغرق…

طالع أيضا  فقه الدعوة إلى الله جل جلاله

لم يستعجل نوح عليه السلام الثمرة ولم ييأس ولم ينزعج من استجابة هذه القلة، لأن مهمته هي الدعوة إلى توحيد الله تعالى طوال عمره وليس مهمته النتيجة، فالنتائج موكولة إلى الخالق عز وجل وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) 10.

فالمؤمن السالك إلى الله تعالى مدعو لاتباع طريق الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى الله تعالى حتى آخر لحظة من عمره، ولا يستعجل ثمرة دعوته أو ييأس من عدم استجابة الناس له ما دام قد بذل جهده في تبليغ الدعوة إليهم. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


[1] سورة يوسف، الآية 108.
[2] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
[3] سورة آل عمران، الآية 104.
[4] التفسير القيم لابن القيم، جمع محمد أويس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، ص 431.
[5] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
[6] سورة الشورى.
[7] سورة العنكبوت.
[8] سورة هود، 36.
[9] سورة هود، 40.
[10] سورة يونس.