قَوَاعِدُ فَهْمِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ (4)

قَوْلُهُ: (الظَّاهِرُ: هُوَ المُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهنِ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ): أي مع تجويز معنى غيره، فكل لفظ يُسبق إلى الذهن منه عند سماعه معنى مع تجويز غيره يُسمَّى ظاهرًا[1].

وقيل: الظاهر هو الذي يُفيد معنى مع احتمال غيره[2].

وقيل: الظاهر هو ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر[3].

والظاهر لُغَةً: الواضح المنكشِف[4].

مثال [1]: الأسد، فإنه ظاهر في الحيوان المفترِس، ويُحتمل أن يُراد به الرَّجلُ الشجاعُ مجازًا، لكنه احتمال ضعيف.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾ [الفجر: 22]، فإنه ظاهر في مجيء الرب سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يراد به أمر ربِّك، أو ملائكة ربِّك، لكنه احتمال ضعيفٌ مردودٌ.

مثال [3]: قول الله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فإنه ظاهرٌ في استواء الرب سبحانه وتعالى على العرش، ويحتمل أن يُراد به الاستيلاءُ، لكنه احتمال ضعيفٌ مردود لا يوجد في لغة العرب.

فائدة: حكم العمل بالظاهر:

يجب العمل بالظاهر، ولا يجوز تركه إلا بتأويل صحيح[5].

قال ابن القيم: (أحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر للعباد، ما لم يَقُم دليلٌ على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه)[6].

قَوْلُهُ: (وَالتَأْوِيلُ: مَعْنًى آخَرُ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ): أي: التأويل هو حملُ اللفظ على معنى مُحتَمل مرجوح بدليل يُصَيِّره راجحًا، فإن كان الدليل صحيحًا كان تأويلًا صحيحًا، وإن كان الدليل فاسدًا كان تأويلًا فاسدًا[7].

والتأويل لُغَةً: المرجِع والمصير، مأخوذ من: آل يؤول إلى كذا؛ أي: صار إليه[8].

مثال [1]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ﴾ [المائدة: 6]؛ أي: أردتم القيام،هذا تأويل صحيح.

مثال [2]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]؛ أي: أردتم القراءة، هذا تأويل صحيح.

مثال [3]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]؛ أي: عائشة، هذا تأويل فاسد، وهو من تأويلات الشيعة.

مثال [4]: تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ))[9]، بأن المراد بالمرأة: الصغيرة، هذا تأويل فاسد.

مثال [5]: تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ))، بأن المراد بالشاة: قيمتها، هذا تأويل فاسد.

فائدة: معاني التأويل:

للتأويل ثلاثةُ معانٍ: معنيان عند السلف، والثالث عند المتأخرين.

أما المعنيان اللذان عند السلف فَهُما[10]:

الأول: التفسير، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)[11]، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسِّري القرآن؛ كما يقول ابن جَرير الطبري: (واختلف علماء التأويل)، و(القول في تأويل قوله تعالى كذا)؛ وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف مَن وقف مِن السلف على قول الله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 7].

الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فتأويل ما أخبر به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح، وقيام الساعة وغير ذلك، هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبَّر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن؛ كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال: ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100]، وقال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 53].

وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله؛ وعليه يجب الوقف على قول الله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7].

أما معنى التأويل عند المتأخرين، وهو المشهور عند الأصوليين، وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به؛ كتأويل من تأول (استوى)، بمعنى (استولى)، ونحوه، فهذا عند السلف والأئمة باطلٌ لا حقيقة له، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى وآياته[12].

قَوْلُهُ: (وَالظَّاهِرُ لَا يُؤَوَّلُ إِلَّا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ): أي لا يصح تأويل اللفظ الظاهر إلا إذا توفرت ثلاثةُ شروط، فإذا اختلَّ أحدها لم يصحَّ التأويلُ، وكان تأويلًا فاسدًا[13].

قال ابن القيم: (التأويل الذي يوافق ما دلَّت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها، هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد)[14].

قَوْلُهُ: (1-عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ): أي يتعذَّر حملُ اللفظِ على المعنى الظاهر منه، فإن لم يتعذر حَمْلُ اللفظ على معناه الظاهر، وهو المعنى الراجح لم يصحَّ التأويل[15].

مثال [1]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، بأن الاستعاذة تكون قبل القراءة، هذا تأويل صحيح؛ لأنه يتعذَّر حملُ اللفظ على المعنى الظاهر، وهو التعوذ بعد قراءة القرآن.

مثال [2]: تأويل قول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ)[16]، بأن محلَّ هذا الدعاء قبل دخول الخلاء، هذا تأويل صحيح؛ لأنه يتعذر حمل اللفظ على المعنى الظاهر، وهو التعوُّذ بعد دخول الخلاء.

مثال [3]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾ [الرحمن: 27]، بأن المراد بالوجه: الثواب، هذا تأويل فاسد؛ لأنه لا يتعذَّر حمْلُ اللفظ على المعنى الظاهر، وهو إثبات الوجه لله جل جلاله على ما يليق به.

مثال [4]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [يس: 83]، بأن المراد باليد: النعمة أو القدرة، هذا تأويل فاسد؛ لأنه لا يتعذَّر حملُ اللفظ على المعنى الظاهر، وهو إثبات اليد لله جل جلاله على ما يليق به.

قَوْلُهُ: (2-بِدَلِيلٍ يُرَجِّحُ المَعْنَى الآخَرَ): أي لا بُدَّ أن يدلَّ على التأويل دليل صحيح يرجِّحه، فإن لم يَدلَّ عليه دليلٌ صحيحٌ، كان تأويلًا فاسدًا[17].

مثال [1]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، بأن المراد قبل التلاوة، هذا تأويل صحيح؛ لأن الدليل يقتضي ذلك.

مثال [2]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]؛ أي: عائشة، هذا تأويل فاسد؛ لعدم وجود دليل يرجحه.

مثال [3]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6]، بأن المعنى المراد: مَسح الرجلين بدلًا من غسلهما، هذا تأويل فاسدٌ؛ لأنه لا دليل عليه.

مثال [4]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ﴾ [المائدة: 3]، بأن المعنى المراد: الدَّم المسفوح، هذا تأويل صحيح؛ لأن الدليل دل عليه، وهو قول الله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾ [الأنعام: 145].

قَوْلُهُ: (3-أَنْ يَكُونَ المَعْنَى الآخَرُ مِمَّا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ العَرَبِيةُ): أي لا بُدَّ أن تدل اللغة العربية على المعنى المرجوح، فإن لم تدل اللغة العربية عليه كان تأويلًا فاسدًا؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب[18].

مثال [1]: تأويل قول الله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، بأن المعنى: استولى، هذا تأويل فاسد؛ لأنه لا يُعرف في لغة العرب الاستواء بمعنى الاستيلاء.

مثال [2]: تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رِجْلَهُ))[19]، بأن الرِّجلَ جماعةٌ من الناس، هذا تأويل فاسد؛ لأنه لا يُعرف في شيء من لغة العرب البتةَ[20].

——————————————————————————–

[1] انظر: روضة الناظر (2/ 563).

[2] انظر: التحبير شرح التحرير (6/ 2847).

[3] انظر: روضة الناظر (2/ 563).

[4] انظر: مقاييس اللغة، مادة «ظهر».

[5] انظر: روضة الناظر (2/ 563).

[6] انظر: إعلام الموقعين (3/ 102).

[7] انظر: روضة الناظر (2/ 563)، وشرح الكوكب المنير (3/ 460-461).

[8] انظر: تهذيب اللغة، مادة «أَوَل».

[9] صحيح: رواه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وحسنه، واللفظ له، وابن ماجه (1879)، والنسائي في الكبرى (5373)، وأحمد (24205)، عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني.

[10] انظر: التدمرية صـ (91-93)، والفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، صـ (287-290).

[11] صحيح: رواه أحمد (2397)، وصحح إسناده أحمد شاكر.

[12] انظر: روضة الناظر (2/ 563)، ودرء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (5/ 382).

[13] انظر: مجموع الفتاوى (6/ 360-361).

[14] انظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم (1/ 187).

[15] انظر: مجموع الفتاوى (6/ 360-361).

[16] متفق عليه: رواه البخاري (6322)، ومسلم (375).

[17] انظر: روضة الناظر (2/ 564)، ومجموع الفتاوى (6/ 360)، والصواعق المرسلة (1/ 205).

[18] انظر: مجموع الفتاوى (6/ 360)، والصواعق المرسلة (1/ 187-191).

[19] متفق عليه: رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[20] انظر: روضة الناظر (2/ 564)، ومجموع الفتاوى (6/ 360)، والصواعق المرسلة (1/ 205).