قَوَاعِدُ فَهْمِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ (2)

قَوْلُهُ: (الضَّابِطُ الثَّانِي: العَامُّ: هوَ اللَّفْظُ المُسْتَغْرِقُ لِكُلِّ مَا يصْلُحُ له): أي: متناولًا لكل ما وُضِع له اللفظ في اللغة، فلا بُدَّ في العامِّ أن يكون اللفظ مستغرِقًا لكلِّ ما يَصلح له، أما ما لم يَستغرق كل ما وُضع له اللفظ، فلا يدخل تحت العموم [1].

والعامُّ لُغَةً: الشامل، بخلاف الخاص [2].

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 2].

لفظ: (الإنسان) عام؛ لأنه يستغرق كل ما وُضع له اللفظ.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 38].

لفظ: (أَحَدًا) عام؛ لأنه يَستغرق كلَّ ما وُضِع له اللفظ.

مثال [3]: قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ [يونس: 44].

لفظ: (شيئًا) عام؛ لأنه يَستغرق كلَّ ما وُضِعَ له اللفظ.

مثال [4]: قول الله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1].

لفظ: (لِلْمُطَفِّفِينَ) عام؛ لأنه يَستغرق كلَّ ما وُضِع له اللفظ.

مثال [5]: أكْرِم الطالب، إذا أُرِيد به طالبًا معيَّنًا.

لفظ (الطالب) خاص، وليس عامًّا؛ لأنه لم يَستغرق ما وُضِعَ له اللفظ.

قَوْلُهُ: (دَفْعَةً وَاحِدَةً): أي: لا بُدَّ أن يكون الاستغراق في العام شاملًا لجميع أفراده في آنٍ واحدٍ، وخرج بهذا المطلق، فإنه يستغرق استغراقًا بدليًّا على سبيل التناوب، وليس دَفعة واحدة، وخرَج به النكرة في سياق الإثبات، فإنها مستغرقة، ولكن استِغْرَاقُها بدَليٌّ لا دَفعة واحدة[3].

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 106].

لفظ: (المشركين) عام؛ لأنه استغرق جميع ما وُضِع له دَفعةً واحدة.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [المجادلة: 3].

لفظ: (رقبة) ليس عامًّا؛ لأنه لا يتناول جميع الأفراد على وجه الشمول، وإنما يتناول واحدًا غير معيَّن.

مثال [3]: أكْرِم رجلًا.

لفظ (رجلًا) ليس عامًّا؛ لأنه لا يستغرق جميع ما وُضِعَ له؛ أي: إنه لم يتناولْه دَفعة واحدة، فإذا أَكرَم رجلًا واحدًا، فقد حقَّق الإكرام المطلوب.

فائدة [1]: ينبغي إضافة قيدين لتعريف شيخنا حفظه الله؛ ليكون تعريفًا تامًا مانعًا:

القيد الأول: (بحَسَب وضعٍ واحد): أي: يدل اللفظ على معناه بحسب وضعٍ واحدٍ.

وخرج بهذا القيد المشترك، كلفظ العَين والقُرْء؛ فإنه لفظ مستغرق لما يَصلُح له من مسمَّياتِه، لكنه ليس بوضع واحد، بل بأكثر منه؛ فالقُرْء الدال على الحيض إنما وُضِع له، وكذلك القُرء الدال على الطُّهر إنما وُضِع له بوضْع غير الأوَّل بخلاف قولنا: الرجال، فإن دلالته على جميع ما يصلح له بوضع واحدٍ[4].

القيد الثاني: (بلا حصر): أي لا بُدَّ أن يكون الاستغراق في العام لا حصر له.

وخرج بهذا ما يتناول جميع أفراده مع الحصر؛ كأسماء الأعداد، والنكرة المثناة؛ لأنها محصورة[5].

مثال [1]: أكْرِمْ عشرة طلاب.

لفظ (عشرة) ليس عامًّا؛ لأنه محصور.

مثال [2]: قاتل مائة رجل.

لفظ (مائة) ليس عامًّا؛ لأنه محصور.

مثال [3]: أكْرِم رجلين.

لفظ (رجلين) ليس عامًّا؛ لأنه محصور.

فائدة [2]: الفرق بين العام، والمشترك:

♦ أما العام فهو اللفظ الموضوع لمعنى واحد.
♦ وأما المشترك فهو اللفظ الموضوع لمعنيين فأكثر[6].

فائدة [3]: صيغ العموم:

الألفاظ التي تدل على العموم والشمول والاستغراق أحد عشر قِسمًا[7]:

القسم الأول: كل اسم عُرِّف بالألف واللام لغير المعهود[8]،وهو ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ألفاظ الجموع؛ كالمسلمين والمشركين، والذين.

النوع الثاني: أسماء الأجناس، وهو ما لا واحد له من لفظه؛ كالناس، والحيوان، والماء، والتراب.

النوع الثالث: لفظ الواحد؛ كالسارق، والسارقة، والزاني، والزانية، والإنسان.

القسم الثاني: ما أُضيف من هذه الأنواع الثلاثة إلى معرفة؛ كَعَبيدِ زيد، ومال عمرو.

القسم الثالث: أدوات الشرط؛ مثل:

[1]: (مَن) فيمَن يَعقِل:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123].

[2]: (ما) فيما لا يعقل:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 197].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ [المزمل: 20].

[3]: (أي) فيمن يَعقل، وما لا يَعقل:

مثال من يعقل: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ))[9].

مثال ما لا يعقل:﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ ﴾ [القصص: 28].

[4]: (أين) في المكان:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ﴾ [النساء: 78].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115].

القسم الرابع: كلُّ، وجميع:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16].

مثال [3]: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))[10].

مثال [4]: قول الله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ﴾ [القمر: 44].

مثال [5]: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا))[11].

القسم الخامس: المفرد المضاف إلى معرفة:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34].

فلفظة (نعمة) مفردة أُضيفت إلى معرفة، وهو لفظ الجلالة (الله)، فإنها تفيد العموم؛ أي: عموم النعم.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ [النور: 63]؛ أي: كلأمر الله جل جلاله.

فلفظة (أمر) مفردَةٌ أُضيفت إلى معرفة، وهو الهاء، فإنها تفيد العموم؛ أي: عموم الأوامر.

القسم السادس: النكرة في سياق النفي:

مثال [1]: قول الله تعالى: (﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [الأنعام: 101].

مثال [2]: قول الله تعالى:﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255].

القسم السابع: النكرة في سياق النهي:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36].

مثال [3]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 24].

القسم الثامن: النكرة في سياق الامتنان:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ [الأنفال: 11]، استدلوا به على طهورية كلِّ ماءٍ سواء نزل من السماء، أو نبع من الأرض[12].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ [الرحمن: 68].

القسم التاسع: النكرة في سياق الإثبات:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾ [الانفطار: 5].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ﴾ [التكوير: 14].

القسم العاشر: النكرة في سياق الاستفهام:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ﴾ [مريم: 98]، والرِّكز هو الصوت الخفي[13].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].

القسم الحادي عشر: النكرة في سياق الشرط:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ [فصلت: 46].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ﴾ [التوبة: 6].

قَوْلُهُ: (وَالخَاصُّ: قَصْرُ حُكْمِ العَامِّ): أي الدليل الخاصُّ يُخَصِّصُ الدليلَ العامَّ حُكمًا لا لفظًا، فاللفظ العامُّ يظلُّ باقيًا على عمومه لا يُخَصَّصُ[14]، أما حكم العام فهو الذي يُخصص.

قَوْلُهُ: (عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ): أي الخاصُّ يجعل حكم العام خاصًّا يُراد به بعض أفراده بسبب قرينةٍ مخصِّصَة[15].

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]، مخصَّصٌ بقول الله تعالى: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].

فخصص اللهُ سبحانه وتعالى المطلَّقةَ الحامل، وجعل عدَّتها وضع الحمل، فلم يَبقَ لفظ العموم – وهو المطلقات – على عمومه، بل قصره على بعض أفراده.

مثال [2]: قولك: أكْرِمِ الطلابَ الناجحين، فهنا قصر هذا اللفظ العامَّ – وهو الطلاب – على أفراد معينة وهم الناجحون.

قَوْلُهُ: (وَيُحْمَلُ العَامُّ عَلَى الخَاصِّ): أي إذا تعارَض دليلان أحدهما خاص، والآخر عام، فيجب أن يُقدَّمَ الخاص على العامِّ، ويُخصِّصَه بالإجماع، ولا يُعمل حينئذ بالعام[16].

لأن الخاصَّ أقوى في الدلالة، وأخص بالمطلوب.

ولأن العمل بالعام يلزم منه إبطال دلالة الخاص وتعطيله، ولا يلزم من العمل بالخاص تعطيلُ العام[17].

قال ابن قدامة: (لا نعلم خلافًا في جواز تخصيص العموم)[18].

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ [البقرة: 221]، عام في حرمة نكاح كلِّ المشركات.

وقول الله تعالى: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، خاصٌّ فيجواز نكاح الكتابية، فيُحمل العام على الخاص.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38]، عام في كل سرقة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا)[19]، خاص في أن القطع فيمن سرق قيمة ربع دينار فصاعدًا، فيُحمل العام على الخاص.

مثال [3]: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ)[20]، عام في وجوب إخراج الزكاة في أيِّ مقدَار تُخْرِجُهُ الأرض.

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ[21] صَدَقَةٌ)[22]، خاص في وجوب الزكاة في خمسة أوسق فأكثر، ولا تجب الزكاة في أقل من خمسة أَوْسُق، فيُحمل العام على الخاص.

فائدة [1]: أقسام المخصِّص:

ينقسم المخصِّص عند أهل الأصول قسمين[23]:

أحدهما: مخصِّص متَّصِل: هو ما لا يستقل بنفسه، بل مُرتبط بكلام آخر، وهو خمسة أنواع:

النوع الأول: الاستثناء:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ﴾ [النور: 4] إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ [النور: 5].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ [الطلاق: 1].

النوع الثاني: الشرط:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ [النساء: 11].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ [النور: 33].

النوع الثالث: الصفة المعنوية:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [النساء: 25].

الشاهد: أن لفظة (فَتَيَاتِكُمُ) قُيِّدت بالإيمان.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ﴾ [النساء: 93].

الشاهد: أن لفظة (مُؤْمِنًا) قيِّدتْ بالتعمُّد.

مثال [3]: في الغنم السائمة الزكاة:

الشاهد: أن لفظة (الغنم) قُيِّدتْ بالسَّوم وهو الرَّعي بلا مُؤنة[24].

النوع الرابع: الغاية:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ [البقرة: 235].

النوع الخامس: بدل البعض من الكل.

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].

الشاهد: أن وجوب الحج قُيِّد بالاستطاعة، وهو بدل من الكل أي من الناس:

مثال [2]: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ))[25].

الشاهد: أن وجوب الزكاة في الغنم قُيِّد بكونها سائمة، وهو بدل من الكل؛ أي: من جميع الغنم.

القسم الثاني: مخصِّص مُنفصِل: هو ما يستقل بنفسه بأن لم يكن مرتبطًا بكلام آخر، وهو خمسة أنواع:

النوع الأول: الحِسُّ.

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25]، أثبت الحسُّ أمورًا لم تُدمِّرْها تلك الريح؛ كالسماوات، والأرض، والجبال.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 23]، أثبت الحسُّ أمورًا لم تُؤْتَها بلقيس.

مثال [3]: قول الله تعالى: ﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [القصص: 57]، أثبت الحسُّ أمورًا لم تُجْبَ إلى الحرم.

النوع الثاني: العقل:

مثال: قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، دلَّ العقل على أنه سبحانه وتعالى لا يتناوله ذلك، وإن كان لفظ الشيء يتناوله سبحانه وتعالى؛ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88].

النوع الثالث: الإجماع:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ [المؤمنون: 6]، دل إجماع المسلمين على أن الأخت من الرضاع لا تَحل بمِلك اليمين.

والإجماع في الحقيقة هنا إنما يدل على مُستَند للتخصيص، فمُستنَد هذا الإجماع هو قول الله تعالى: ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ [النساء: 23].

مثال [2]: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ))[26]، دل الإجماع على جواز إنكاح البكر من غير استئذان إذا كانت صغيرةً.

النوع الرابع: القياس:

مثال: قول الله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: 2]، دل القياسُ على أن العبد يُجلَد خمسين جلدةً فقط.

فعموم الزانية خُصِّص بالنص، وهو قوله سبحانه وتعالى في الإماء: ﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [النساء: 25].

فقيس عليها العبد فخصَّ عموم (الزاني) بهذا القياس – أعني قياس العبد – على الأمة في تشطير الحدِّ عنها المنصوص عليه بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ بجامعِ الرِّق.

وهذا التخصيص في الحقيقة إنما هو بما دل عليه قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ من أن الرِّق علةُ تشطير الحد.

النوع الخامس: الدليل النقلي، وهو الكتاب والسنة، وينقسم أربعة أضْرُب:

الضَّرْبُ الأول: تخصيص القرآن بالقرآن:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]،مخصَّصٌ بقول الله تعالى: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].

فخصَّص الحامل، فلا تَعتَد ثلاثة حِيَض، وإنما تنقضي عِدَّتها بوضعِ الحمل.

وبقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49]، فخصَّصَ المرأة التي لم يُدخَل بها، فلا تعتد ثلاثة حِيَض، وإنما لا عِدَّة عليها.

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ﴾ [البقرة: 221]، مخصَّصٌ بقول الله تعالى: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [المائدة: 5].

الضَّرْبُ الثاني: تخصيص القرآن بالسنة:

مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ [النساء: 24]، مخصَّصٌ بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لَا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا))[27].

مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، مُخصَّص بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأنبياء: ((لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ))[28].

ويدخل في هذا النوع التخصيصُ بفعْله أو تقريره صلى الله عليه وسلم؛ لأن التقرير فعل ضِمني، وفعلُه صلى الله عليه وسلم مِن سُنته.

مثال [3]: قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]، مخصَّص بفعل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأمر بعض أزواجه أن تشُدَّ إزارها، ثم يُباشرها وهي حائض[29].

فخصَّص الجماع فقط، أما المباشرة، ونحوها فجائزٌ.

الضَّرْبُ الثالث: تخصيص السنة بالسنة:

مثال [1]: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ))[30]، مُخصَّص بقوله صلى الله عليه وسلم:((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ[31] صَدَقَةٌ))[32].

مثال [2]: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ))[33]، مخصَّص بنهيه صلى الله عليه وسلم:((عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ))[34].

مثال [3]: قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ))[35]، مخصَّص بفعله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم في السفر[36].

الضَّرْبُ الرابع: تخصيص السنة بالقرآن:

مثال [1]: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَا قُطِعَ مِنْ حَيٍّ، فَهُوَ مَيِّتٌ))[37]، مخصص بقول الله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [النحل: 80].

فيجوز الانتفاع بالصوف أو الوَبَر أو الشعر الذي قُطِع من البهيمة الحيَّة.

مثال [2]: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ…))[38]، مُخصَّص بقول الله تعالى: ﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

فإذا أَعطُوا الجزية لم يُقاتَلوا.

فائدة [2]: ليس في القرآن عام غير مخصوص إلا أربعة مواضع:

قال الشيخ عَلمُ الدِّين العراقيُّ: ليس في القرآن عامٌّ غير مخصوصٍ إلا أربعة مواضع[39]:

أحدها: قول الله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23]، فكل مَنْ سمِّيَت أُمًّا مِن نَسَبٍ، أو رَضاع، أو أُمَّ أُمٍّ، وإن عَلتْ – فهي حرام.

ثانيها: قول الله تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [الرحمن: 26].

ثالثها: قول الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282].

رابعها: قول الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6].

——————————————————————————–

[1] انظر: المعتمد في أصول الفه، لأبي الحسين البصري (1/ 189)، وقواطع الأدلة، لأبي المظفر السمعاني (1/ 154)، والمحصول، للرازي (2/ 309)، وروضة الناظر (2/ 662)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (243).

[2] انظر: المعجم الوسيط، مادة «عام».

[3] انظر: إرشاد الفحول (1/ 286)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (243).

[4] انظر: المحصول، للرازي (2/ 309)، وشرح مختصر الروضة (2/ 458)، والمُسَوَّدَة، صـ (574)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (243).

[5] انظر: غاية الوصول في شرح لُبِّ الأصول، لأبي زكريا الأنصاري، صـ (72)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (243).

[6] انظر: شرح مختصر الروضة (2/ 458).

[7] انظر: روضة الناظر (2/ 665-669)، وشرح الكوكب المنير (3/ 119-141)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (244-247).

[8] المعهود: هو ما دلَّ على ذات معينة، ومنه لفظ «الرسول» في قول الله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]،فإنها للعهد، وهو موسى عليه السلام.

[9] صحيح: رواه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وحسنه، واللفظ له، وابن ماجه (1879)، والنسائي في الكبرى (5373)، وأحمد (24205)، عن عائشة رضي الله عنها، وصحَّحه الألباني.

[10] صحيح: رواه مسلم (223)، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

[11] متفق عليه: رواه البخاري (4640)، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

[12] انظر:التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للإسنوي، صـ (325).

[13] انظر: المفردات، صـ (364).

[14] انظر: المهذب في علم أصول الفقه المقارن (4/ 1595).

[15] انظر: مذكرة في أصول الفقه، صـ (262)، والمهذب في علم أصول الفقه المقارن (4/ 1595).

[16] انظر: العدة في أصول الفقه (2/ 615)، والفقيه والمتفقه (1/ 298)، والبرهان في أصول الفقه (2/ 198)، والمحصول (3/ 112)، وروضة الناظر (2/ 721-725)،وشرح الكوكب المنير (3/ 382).

[17] انظر: الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4/ 254).

[18] انظر: روضة الناظر (2/ 721)، وشرح الكوكب المنير (3/ 382).

[19] متفق عليه: رواه البخاري (6789)، ومسلم (1684)، عن عائشة رضي الله عنها.

[20] متفق عليه: رواه البخاري (1483)، واللفظ له، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومسلم (981)، عن جابر رضي الله عنه.

[21] أوسق: جمع وَسْق، وهو ستون صاعًا؛ [انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 185)].

[22] متفق عليه: رواه البخاري (1405)، ومسلم (979)، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

[23] انظر: روضة الناظر (2/ 721-734)، وشرح الكوكب المنير (3/ 277-370)، ومذكرة في أصول الفقه، صـ (262-267).

[24] انظر: تهذيب اللغة، مادة «سوم».

[25] صحيح: رواه البخاري (1454)، عن أنس رضي الله عنه.

[26] متفق عليه: رواه البخاري (6968)، ومسلم (1419)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[27] صحيح: رواه مسلم (1408).

[28] متفق عليه: رواه البخاري (3093)، ومسلم (1757)، عن أبي بكر رضي الله عنه.

[29] متفق عليه: رواه البخاري (302)، ومسلم (293)، عن عائشة رضي الله عنه.

[30] متفق عليه: رواه البخاري (1483)، واللفظ له، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومسلم (981)، عن جابر رضي الله عنه.

[31] أوسق: جمع وَسْق، وهو ستون صاعًا، [انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 185)].

[32] متفق عليه: رواه البخاري (1405)، ومسلم (979)، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

[33] متفق عليه: رواه البخاري (5426)، ومسلم (2067)، عن حذيفة رضي الله عنه.

[34] صحيح: رواه مسلم (2069)، عن عمر رضي الله عنه.

[35] متفق عليه: رواه البخاري (1946)، ومسلم (1115)، عن جابر رضي الله عنه.

[36] متفق عليه: رواه البخاري (1945)، ومسلم (1122)، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

[37] صحيح: رواه ابن ماجه (3217)، عن تميم الداري رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3230).

[38] متفق عليه: رواه البخاري (25)، ومسلم (20)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[39] انظر: إرشاد الفحول (1/ 354-355)، الموضع الرابع ليس من كلام علم الدين العراقي، وإنما من كلام الشوكاني، والموضع الرابع عند العراقي هو قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 189]، قال الشوكاني بعد ذكره: «اعتُرض على هذا: بأن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات، وهي أشياء»، ثم ذكر الموضع الرابع الذي ذكرتُه في الشرح.