قصة هود عليه السلام

 

نبيٌّ أرسله الله إلى قبيلة عاد، وكانت تسكن في بلاد حضرموت، وهي أرض واسعة، ما بين البحر جنوبًا والجبال شمالًا، تسمى الأحقاف، وتتخلل الأرضَ أوديةٌ كثيرة، منها: وادي حضرموت، وبين هود ونوح أربعة أجداد، وقوم هود من العرب، وهم عاد الأولى؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ [الفجر: 6 – 8]، وفُسرت العِماد بالعمد الكثير دليل سكنى الخيام، وبالقوة والشدة، وكانوا أهل أنعام كثيرة دليل بداوتهم، وأهل قرى دليل تحضرهم، فهم على هذا قسمان: بدو، وحضر؛ ﴿ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الشعراء: 132 – 134]، فماذا فعل قوم عاد؟

 

قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15]، لقد اغتَرَّ القوم بقوتهم، ورأوا أن قوتهم لا تقهر، وبهذه القوة يمكنهم أن يتجبروا ويتكبروا، وأن يفعَلوا ما يحلو لهم، فلا يستطيع أحد أن يصدهم عما هم فيه، وسيحطمون كل من يقف في طريقهم، وهكذا رأى قوم عاد أنهم فوق كل البشر، ونفَث الشيطان فيهم نزعة الشر والكبر والغرور، كما اتخذوا الأصنام آلهة لهم يعبدونها من دون الله، وكانت ثلاثة، هي: صداء وصمود والهباء أو الهناء، وقد ركزت الآيات على صفة القوة التي امتازوا بها، ولكن لم يدركوا أنه ما من قوة بشرية إلا ولها حد تقف عنده بالغة ما بلغت؛ قال الله تعالى: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 128 – 130]، مصانع بمعنى قصور، وقيل: خزانات مياه أرضية، وقال: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 69]، لكن هذه القوة التي فخروا بها وتكبروا بها على الضعفاء جرَّتْهم إلى عصيان الله والشرك به، لكن الله – سبحانه وتعالى – القائل: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، اختار مِن بينهم هودًا نبيًّا، فبعثه إليهم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ [الأعراف: 65 – 68].

 

هؤلاء القوم الذين اغتروا بقوتهم المادية والمعنوية، ورفعوا عرانينهم في صلَفٍ للسماء، مَن يستطيع أن يقنعهم بالرجوع عن غيِّهم وضلالهم؛ لهذا كان ردهم على نبيِّهم هود باستخفاف، وقد ورد أن قوم هود هم أول الأقوام التي ضلت وعبدت الأوثان بعد أن أرسى نوحٌ الإسلامَ، وساد المسلمون فترة طويلة بعد الطوفان، حيث اجتث الكفار من على وجه الأرض، فكان هؤلاء الذين ابتدعوا الضلال وشذوا عن الطريق المستقيم، لكن منهج الأنبياء هو الاستمرار بالدعوة وبذل الوسع في ذلك والتنويع بالطرح، وليس من منهجهم الكف بعد الصد، وإنما تكرار المحاولة وعدم اليأس من الأقوام أو الحكم على استجابتهم من خلال الطرح الأول بأن هؤلاء ميئوس منهم، وأعلمهم بأنه لا يطلب أجرًا منهم لهذه المهمة: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 51، 52].

 

وقد ركز هود على أمرين لهما أهمية كبيرة عند قوم هود، هما: القَطْر المدرار، وبلاد الأحقاف بحاجة ماسة إليه، والقوة التي يتفاخرون بها على الأمم الأخرى؛ فالمؤمن المستغفر يلقى المدد من ربه بلا شك، فيزداد بالإيمان قوة إلى قوته، مادية ومعنوية واقتصادية، وهذا أسلوب موفق من هود عليه السلام، فهل اقتنع قوم هود بقوله؟ لقد كان الرد ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 53]، رفضوا قوله جملة وتفصيلًا، بل طالبوه بالبينة على دعواه، فليس من السهل – كما يزعمون – أن يتخلَّوْا عن دينهم لمجرد أن يأتي فردٌ ليبطله، فما دليلك على صدق دعواك يا هود؟ لم يكن مع هود سوى الحجة والبرهان بعجز آلهتهم، وأنها حجارة لا تضر ولا تنفع، والتذكير بما كان عليه سلفهم نوح وأبناؤه الموحدون، وهم قريبو عهد بهم نسبيًّا، لكن هذا لم يُجِدِ نفعًا مع قومه، بل زادوا على أن اتهموه بالمس والجنون، ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 54]، فأعطَوا آلهتهم القدرة على الفعل، وهذا دليل عدم اقتناعهم بدعوة هود، وإصرارهم على التمسك بآلهتهم التي يجدون فيها القدرة على فعل الخير أو الشر، لكنَّ هودًا عليه السلام تبرأ مِن قولهم مباشرة؛ كيلا يظنوا أنه جاراهم في قولهم، وأن يعتقدوا للحظة ما أنه صدَّق ما يقولون، فانبرى بشدة للتبرؤ من عقيدتهم، فأشهد الله وأشهدهم على موقفه؛ كيلا يزوروا كلامه، وهذا تعليم لنا بألا نجاري أهل الأهواء في مثل هذه الأمور، ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾ [هود: 54، 55]، ثم بعد تأكُّده مِن صدهم وعنادهم وأنهم صعدوا في التحدي وهددوا بالإيذاء، لم يبالِ بهم، بل تحداهم: ﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 55، 56].

 

فلم يؤمِنْ مع هود – بعد هذا الجهد – إلا قليل من المتنورين، متحدين كبار القوم، وهنا وصل الحوار إلى طريق مسدودة، ﴿ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ﴾ [الشعراء: 136]، فالملأ مِن قوم عاد متمسكون بصلَفهم ووثنيتهم، ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأحقاف: 22]، وهكذا أسفَر وجه الطغاة عن صدٍّ وعناد وتحدٍّ لا يخشى العاقبة، ربما ساعد على هذا التحدي ما هم عليه من القوة والبطش، وظنوا أن التحدي مع هود وأتباعه الضعاف، ولم يدُرْ بخَلَدهم أنهم يعاندون الله، وكان بداية عقابهم أخذهم بالسنين، فمنع الله عنهم القطر، وبدأت ينابيعهم غيضًا، وبساتينهم يبسًا، وأنعامهم هزالًا، واستمروا على هذه الحال ثلاث سنين حتى أعيَوْا وأصبحوا ينتظرون المطر بفارغ الصبر، فاغبرت ديارهم، وكلحت وجوههم، ومع ذلك لم تَلِنْ قلوبهم، وورد في بعض الأخبار أنهم أرسلوا وفدًا للاستغاثة بمكة عند الكعبة، لكنهم لهَوْا شهرًا عند معاوية بن بكر يشربون الخمر وتُغنِّيهم الجرادتان – وهما جاريتان اشتهرتا بالغناء – ثم انتبهوا إلى قصدهم وأسرعوا إلى أرض الحرم يدعون ويستسقون، فظهرت لهم ثلاث سحائب سوداء وحمراء وبيضاء، فاختار داعيهم السوداء؛ لأنها أكثر السحاب ماءً، لكنه سمع صوتًا يقول له: اخترت رمادًا رمدًا، لا يبقي من عاد أحدًا، لا والدًا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته همدًا.

 

أقول: وهذا الخبر الذي لخصته هو من وضع الرواة، ولا يعاصر العهد الذي كان في زمن هود، وقد تكون هذه الحادثة في عهد عاد الثانية، وهي بعد هودٍ بمئات السنين.

 

لقد كان العاديُّون متلهفين للمطر، تشرئبُّ أعناقهم كل يوم نحو السماء ينتظرون المطر بلا جدوى، حتى دب فيها اليأس، وأيقنوا بزوال مدينتهم التي بدأت تتآكل، ومع هذه الحال الصعبة والحرجة التي تلين لها القلوب، ويراجع فيها المعاند قيمه التي تمسَّك بها، ويوازن بينها وبين ما يدعوه إليه نبي الله ليكون على بينة أكثر، فإن العناد استمر، والتمسك بالقيم الزائفة ازداد، والتحدي برز على أشده: ﴿ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 70]، فكان جوابه: ﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾ [الأعراف: 71]، رِجْس بمعنى: عذاب، فما هو هذا العذاب؟ لقد تعلقت قلوبهم بالمطر، واشرأبت أعناقهم نحو السماء، فأتاهم العذاب من السماء وكانوا ينتظرون منها الغيث: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 24، 25].

 

وهكذا انصَبَّ عليهم العذاب صبًّا، ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ﴾ [فصلت: 16]، وقال تعالى: ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 41، 42]، وفي سورة “الحاقة” صورةٌ واضحة لِما حاق بقوم عاد من عذاب: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6 – 8]، فعلى هذا فقد كان الغيم العارض الذي رأوه نذيرَ عاصفة عاتية شديدة البرودة، استمرت سبع ليالٍ أو ثمانية أيام حسومًا؛ أي: متتالية، وذلك إذا بدأنا العد ابتداءً باليوم فتليه الليلة وهكذا حتى ننتهي باليوم، فتكون المدة سبع ليال وثمانية أيام، فماذا كانت حالة القوم وهم يتعرضون لهذه الريح العاتية، وهل كانت ريحًا فقط لها عصف وعويل؟ فالعواصف القوية عادةً يرافقها قصف الرعود، وشرر الصواعق؛ لتزيد من الرهبة والخوف؛ ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، لقد أحدثت عندهم صرعًا ودوارًا، وتغلغلت في أجسامهم حتى تركتها هزيلة خاوية كأنها أعجاز نخل خاوية.

 

وقد ورد في الحديث الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرَّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها، ﴿ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾ [الأحقاف: 24]، فألقت أهلَ البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة))، وقيل: إن كل هذا التدمير كان يفتح طاقة للريح لم تزد عن فتحة الخاتم، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31]، فما بالُك لو فتحت عليهم طاقة أكبر من هذا، لكانت اقتلعت الأرض بمن فيها، وقد ورد في التفاسير أن الريح كانت ترفع الشخص من قوم عاد إلى الأعلى في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه، فيبقى جثة بلا رأس، وهذا تفسير قوله: ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 7]، وفي سورة القمر: ﴿ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ [القمر: 20]؛ أي: منقطع أو منقلع، و﴿ تَنْزِعُ ﴾ فيها الشدة والقهر، فهي تقتلعهم من أماكنهم بشدة، وترمي بهم على أم رؤوسهم، فيصبح شكلها كجذوع النخل المنقلعة من الأرض والمرمية بشكلها المتهالك، التي تظهر أن كارثة ما قد اجتاحتها، وورد: أن الله لما أهلكهم أرسل عليهم طيورًا سودًا، فنقلتهم إلى البحر وألقتهم فيه، ﴿ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [الأحقاف: 25].

 

♦ ورد في الآية الكريمة: ﴿ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ﴾ [الشعراء: 133]؛ فالأنعام بالمقصد الخاص تعني الإبل، ﴿ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ﴾ [الأنعام: 138]، وبالمعنى العام تعني الإبل والبقر والغنم والماعز؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ﴾ [المائدة: 1]، ومِن هذا المعنى العام فإن قوم عاد ملكوا الأنعام التي شملت الأصناف الأربعة.

 

♦ ﴿ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴾ [الفجر: 7]، ذكر أنها اسم قبيلة عاد الأولى التي تنسب إلى الجد إرم؛ لأن عادًا هو ابن عوص بن إرم بن سام، ووصفت هذه القبيلة بالقوة أو بكثرة الأعمدة، وهذا دليل على كثرة البيوت والسكان، ﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ [الفجر: 8]، قيل: مثل قبيلة إرم، حيث القوة والشدة وطول القامات، وقيل: مثل مدينة إرم ذات الأعمدة الكثيرة، حتى جاوز الخيال بعضهم، فقال: هي مدينة مبنية بالذهب والفضة، وحصباؤها من اللؤلؤ، وترابها من المسك، وزعم عبدالله بن قلابة – زمن معاوية – أنه رآها ودخلها، ثم وصفها لمعاوية، ولو دخلها فعلًا لكان من أغنى الأغنياء على ما رأى فيها من الذهب والفضة واللؤلؤ، وقال: هي في أرض عدن، فما الذي جعل معاوية لا يقصدها بعد أن أخبره خبرها؟ ليستفيد من كنوزها في بناء دولته، فهذا زعم باطل، إن هو إلا اختلاق.

 

♦ هل أتى هود قومه بمعجزة؟ لم يذكر القُرْآن أن هودًا كان معه معجزة ليبرهن على صدق دعواه، وهم قالوا له: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾ [هود: 53]، ولعل سبب ذلك قربُ عهدهم بنوح، وأن سفينة نوح ما زالت شاهدًا على نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، ﴿ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 15]، ولو قيل: إن سفينة نوح استقرت على الجودي، وهو جبل في العراق، نقول: إن سيطرة قوم عاد امتدت في فترة من التاريخ إلى ما هو أبعد من الجودي زمن شداد وشديد ابنا عاد.

 

♦ ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 123]، ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾ [هود: 59]، من هم رسل عاد؟ لم يذكر القُرْآن سوى هود، فكذبوه، وهذا على اعتبار أن من يكذب رسولًا فكأنما كذب كل الرسل، السابق منهم واللاحق، ومَن آمن برسول فكأنما آمن بكل الرسل، السابق منهم واللاحق، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم آمنت بمحمد، فهي مؤمنة تبعًا لذلك بكل الرسل السابقين له؛ ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].

 

♦ قيل: إن يوم النحس الذي عنته الآية: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ﴾ [القمر: 19]، هو يوم الأربعاء، وقد رد هذا بعض المفسرين بأن إبادتهم كانت في سبع ليال وثمانية أيام؛ ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [الحاقة: 7]؛ أي: تشمل كافة أيام الأسبوع، لكن هذا لا يمنع أن العذاب بدأ يوم الأربعاء وانتهى يوم الأربعاء، وقد ورد في أحاديث ليست بالقوية عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يوم الأربعاء يوم نحس مستمر))، وورد عن أنس مرفوعًا: ((أغرق الله فيه فرعون وقومه، وأهلك فيه عادًا وثمود)).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/142863/#ixzz6ckDtyP9T