الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فكتب العلامة ابن القيم رحمة الله التي طُبعت له تزيد على الثلاثين كتابًا، منها الكتب التسعة التالية:

1- تهذيب سنن أبي داود.

2- المنار المنيف في الصحيح والضعيف.

3- الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية [القصيدة النونية].

4- رفع اليدين في الصلاة.

5- أحكام أهل الذمة.

6- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.

7- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.

8- جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم.

9- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.

وقد احتوت هذه الكتب على مباحث في فنون عديدة، في العقيدة، والحديث، والفقه، وغيرها، وسال قلم العلامة ابن القيم رحمه الله كعادته في مصنفاته، فاحتوت تلك الكتب على العديد من الفوائد، وقد يسَّر الله الكريم لي فاخترتُ شيئًا منها، وذكرتُ في نهاية كل فائدة اسم الكتاب الذي نقلت منه، أسأل الله أن ينفع بتلك الفوائد، ويبارك فيها.

سر من أسرار التوحيد:

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله)، سِر من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا، كان أحرى بالشفاعة، لا أنها تنال بالشرك الشفيع كما عليه أكثر المشركين؛ [ تهذيب سنن أبي داود].

سر افتتاح الصلاة بلفظ “الله أكبر”:

وفي افتتاح الصلاة بهذا اللفظ – المقصود منه: استحضار هذا المعنى، وتصوره – سرٌّ عظيم يعرفه أهل الحضور، المصلون بقلوبهم وأبدانهم، فإن العبد إذا وقف بين يدي الله عز وجل، وقد علم أنه لا شيء أكبر منه، وتحقق قلبُه ذلك، وأُشربه سرَّه، استحيى من الله، ومنعه وقاره وكبرياؤه أن يشغل قلبه بغيره، وما لم يستحضر هذا المعنى فهو واقف بين يديه بجسمه، وقلبُه يهيم في أودية الوساوس والخطرات.

فلو كان الله أكبر من كل شيء في قلب هذا، لما اشتغل عنه، وصرَف كُلِّيَّةَ قلبه إلى غيره، كما أن الواقف بين يدي الملك المخلوق لما لم يكن في قلبه أعظم منه، لم يشغل قلبه بغيره ولم يصرفه عنه؛ [تهذيب سنن أبي داود].

تلقى السنة بالسمع والطاعة، وعدم ردها بدعوى عدم ظهور الحكمة:

تُتلقى السنة بالسمع والطاعة والإذعان، سواء ظهر لنا وجه حُكمه أو لم يظهر.

ولو رُدت السنن بعدم ظهور الحكمة والمناسبة، لكان ذلك ردًّا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وخروجًا عن المتابعة، وخلعًا لربقة العبودية من العنق، ولو ساغ للعبد ألا يقبل من السنة إلا ما رأى فيه الحكمة والمناسبة، لبطل الدين وتلاعب به المبطلون، وصار عُرضة لرد الرادين، وعياذًا بالله من هذا الرأي الباطل؛ [رفع اليدين في الصلاة].

منزلة السنة مع كتاب الله تعالى:

الذي يجب على كل مسلم اعتقاده أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله، بل السنن مع كتاب الله تعالى على ثلاث منازل:

المنزلة الأولى: سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل.

المنزلة الثانية: سنة تفسر الكتاب، وتبيِّن مراد الله منه، وتقيِّد مطلقه.

المنزلة الثالثة: سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب، فتبينه بيانًا مبتدأً.

ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة، وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة؛ [الطرُق الحكمية في السياسة الشرعية].

تفسير قول أُبي بن كعب رضي الله عنه: أجعل لك صلاتي كلها:

عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: (ما شئت)، قلت: الرُّبع؟ قال: (ما شئت، وإن زدت فهم خير)، قلت: النصف؟ قال: (ما شئت، وإن زدت فهو خير)، قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: (إذًا تُكفى همَّك، ويُغفر لك ذنبُك)؛ أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وسئل شيخنا أبو العباس عن تفسير هذا الحديث، فقال: كان لأُبي بن كعب دعاء يدعو به لنفسه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجعل له منه ربعه صلاة عليه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (إن زدت فهو خير لك)، فقال له: النصف؟ فقال: (إن زدت فهو خير لك) إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها؛ أي: أجعل دعائي كله صلاةً عليك، قال: (إذًا تُكفى همَّك، ويُغفَر لك ذنبُك)؛ لأن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا، ومن صلى الله عليه كفاه هماه، وغفر له ذنبه، هذا معنى كلامه رضي الله عنه؛ [جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم].

قواعد عظيمة اشتملت عليها كلمات التلبية:

قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة.

إحداها: أن قولك: “لبيك” يتضمَّن إجابة داع دعاك ومنادٍ ناداك، ولا يصح في لغةٍ ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو.

الثانية: أنها تتضمن المحبة، ولا يقال: “لبيك” إلا لمن تحبه وتعظِّمه.

الثالثة: أنها تتضمن التزام العبودية؛ أي: أنا مقيم على طاعتك.

الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل؛ أي: خضوعًا لك بعد خضوع.

الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص.

السادسة: أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى.

السابعة: أنها تتضمن التقرب من الله، ولهذا قيل: من الإلباب، وهو التقرب.

الثامنة: أنها جعلت في الإحرام شعار الانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك، كما جعل التكبير في الصلاة شعار الانتقال من ركن إلى ركن.

التاسعة: أنها شعار التوحيد، وملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده.

العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يُدخل منه إليه، وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له.

الحادية عشرة: أنها مشتملة على الحمد الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله، وأول من يُدعى إلى الجنة أهله، وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.

الثانية عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف بالنعمة كلها؛ أي: النعم كلها لك ومنك.

الثالثة عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف بأن الملك كله لله وحده؛ [تهذيب سنن أبي داود].

تحريف التوراة والإنجيل:

التوراة التي بأيدي النصارى تُخالف التوراة التي في أيدي اليهود، والتي بأيدي السامرة تخالف هذه وهذه … والتوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان ما لا يخفى على الراسخين في العلم، وهو يعلمون قطعًا أن ذلك ليس في التوراة التي أنزلها الله على موسى ولا في الإنجيل الذي أنزله على المسيح، والأناجيل عندهم أربعة يخالف بعضها بعضًا، وبينها من التفاوت والزيادة والنقص ما يعلمه الواقف عليها، وفيها ذكر القول ونقيضه؛ [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى].

حضور أعياد الكفار:

لا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله، وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم.

فقال أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن منصور الطبري الفقيه الشافعي: ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم؛ لأنهم على منكر وزور، وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم، كانوا كالراضين به المؤثرين له، فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم، فيعم الجميع، نعوذ بالله من سخطه؛ [أحكام أهل الذمة].

مفارقة أهل الأهواء والبدع في الدنيا أسهل من مرافقتهم في الآخرة.

فوالله لمفارقة أهل الأهواء والبدع في هذه الدار أسهل من مرافقتهم إذا قيل: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ [الصافات: 22]؛ قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعده الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم؛ [الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية].

أسباب عدم قبول الحق:

الأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدًّا:

فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئًا عاداه وعادى أهله، فإن انضاف إلى هذا السبب بُغضُ من أمره بالحق ومعاداته له وحسده، كان المانع من القبول أقوى، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظِّمه، قوِي المانع، فإن انضاف إلى ذلك توهُّمُه أن الحق الذي دُعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه، قوِي المانع من القبول جدًّا، فإن انضاف إلى ذلك خوفهُ من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، زاد المانع من قبول الحق قوة.

ومن أعظم هذه الأسباب: الحسد، فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسدُ المحسودَ قد فُضل عليه، وأُوتي ما لم يؤت نظيره، فلا يدعه الحسدُ أن ينقاد له ويكون من أتباعه؛[هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى].

حاجة الأرواح الشديدة إلى معرفة خالقها وفاطرها ومحبته وذكره:

ليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته، وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث يُنزله العبد من نفسه.

فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها مُعرضًا نافرًا ومُنفرًا، فالله له أشد بغضًا، وعنه أعظمُ إعراضًا، وله أكبر مقتًا، حتى تعود القلوب على قلبين:

قلب ذكرُ الأسماء والصفات قوته وحياتهُ، ونعيمُه وقُرةُ عينه، لو فارقه ذكرها ومحبتها ساعة لاستغاث: يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك.

والقلب الثاني: قلب مضروب بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربه ومحبته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أُنزلت عليه مسدود، قد قمَشَ شُبهًا من الكلام الباطل، وارتوى من ماءٍ آجن غير طائل، تعجُّ منه آياتُ الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا، وتضجُّ منه إلى مُنزلها ضجيجًا مما يسمونه تحريفًا وتعطيلًا.

مُزجي البضاعة من العلم النافع المورث عن خاتم الرسل والأنبياء، لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه والجدال والمراء؛ [الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية].

لا يلزم من كثرة الثواب العمل أن يكون أحب إلى الله من العمل الذي أقل منه:

لا يلزم من كثرة الثواب أن يكون العمل الأكثر ثوابًا أحب إلى الله تعالى من العمل الذي هو أقل منه، بل قد يكون العمل الأقل أحب إلى الله تعالى، وإن كان الأكثر أكثر ثوابًا … فقراءة سُورة بتدبُّر ومعرفة وتفهُّم، وجمع القلب عليها، أحب إلى الله تعالى من قراءة ختمة سردًا وهذًّا، وإن كثُر ثواب هذه القراءة، وكذلك صلاة ركعتين يُقبل العبد فيهما على الله تعالى بقلبه وجوارحه، ويُفرغ قلبه كله لله تعالى فيهما، أحب إلى الله تعالى من مائتي ركعةٍ خالية عن ذلك، وإن كثُر ثوابها عددًا.

ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم: إن اقتصادًا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسُنة.

فالعمل اليسير الموافق لمرضاة الرب وسنة رسوله، أحب إلى الله تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك أو عن بعضه، ولهذا قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، وقال: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7].

فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض والموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها ليبلو عباده أيهم أحسن عملًا لا أكثر عملًا، والأحسن هو الأخلص والأصوب، وهو الموافق لمرضاته ومحبته، دون الأكثر الخالي من ذلك، فهو سبحانه وتعالى يُحب أن يُتعبد له بالأرضى له، وإن كان قليلًا، دون الأكثر الذي لا يرضيه والأكثر الذي غيره أرضى له منه؛ [المنار المنيف في الصحيح والضعيف].

قبول الأعمال ثلاثة أنواع:

القبول ثلاثة أنواع:

قبول رضا ومحبةٍ، واعتدادٍ ومباهاةٍ، وثناءٍ على العامل به بين الملأ الأعلى.

وقبول جزاء وثواب، وإن لم يقع موقع الأول، وقبول إسقاط للعقاب فقط، وإن لم يترتب عليه ثواب وجزاء؛ كقبول صلاة من لم يحضر قلبه في شيء منها، فإنه ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فإنها تسقط الفرض، ولا يُثابُ عليها؛ [المنار المنيف في الصحيح والضعيف].

الأعمال تتفاضل بما في القلوب وبمتابعة الرسول وكون العمل أحب إلى الله:

والأعمالُ تتفاضلُ بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة، والتعظيم والإجلال، وقصد وجه المعبود وحده دون شيءٍ من الحظوظ سواه؛ حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله تعالى.

وتتفاضل أيضًا بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمالُ بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلًا لا يحصيه إلا الله تعالى، وينضاف هذا إلى كون أحد العملين أحب إلى الله في نفسه؛ [المنار المنيف في الصحيح والضعيف].

الأحاديث الموضوعة عليها ظلمة وركاكة:

الأحاديث الموضوعة عليها ظلمة وركاكة، ومجازفات باردة تنادي على وضعها واختلافها على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حديث: (من صلى الضحى كذا وكذا ركعة، أُعطي ثواب سبعين نبيًّا)، وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي صلى الله عليه وسلم، لو صلى عمر نوح عليه السلام، لم يعط ثواب نبي واحد؛ [المنار المنيف في الصحيح والضعيف].

حسن الخلق مع الناس يقوم على أركان خمسة:

حسن الخلق مع الناس، جماعه أمران: بذل المعروف قولًا وفعلًا، وكف الأذى قولًا وفعلًا.

وهذا إنما يقوم على أركان خمسة: العلم، والجود، والصبر، وطيب العود، وصحة الإسلام.

أما العلم فلأنه به يعرف معالي الأخلاق وسفسافها، فيمكنه أن يتصف بهذا ويتحلى به، ويترك هذا ويتخلى عنه، وأما الجود فسماحة نفسه وبذلُها وانقيادها لذلك إذا أراده منها، وأما الصبر فلأنه إن لم يصبر على احتمال ذلك والقيام بأعبائه، لم يتهيأ له، وأما طيب العود فإن يكون الله تعالى خَلَقه على طبيعة منقادة سهلة القيادة، سريعة الاستجابة لداعي الخيرات، والطبائع ثلاثة: طبيعة حجرية صُلبة قاسية، لا تلين، ولا تنقاد، وطبيعة مائية هوائية سريعةُ الانقياد، مستجيبة لكل داع، كالغصن أي نسيم يعطفه – وهاتان منحرفتان، الأولى لا تقبل، والثانية لا تحفظ – وطبيعة قد جمعت بين اللين والصلابة والصفاء، فهي تقبل بلينها، وتحفظ بصلابتها، وتدرك حقائق الأمور بصفائها، فهذه الطبيعة الكاملة التي ينشأ عنها كل خُلُق صحيح.

وأما صحة الإسلام فهو جِماع ذلك، والمصحح لكل خلق حسن، فإنه بحسب قوة إيمانه وتصديقه بالجزاء، وحسن موعود الله وثوابه، يسهل عليه تحمُّل ذلك، ويلذ له الاتصاف به، والله الموفق المعين؛ [تهذيب سنن أبي داود].

الغضب:

• قوى الناس متفاوتة تفاوتًا عظيمًا في ملك قواهم عند الغضب، والطمع، والحزن، والخوف، والشهوة، فمنهم من يملك ذلك، ويتصرف فيه، ومنهم من يملكه ذلك ويتصرف فيه.

• الغضب مرض من الأمراض، وداء من الأدواء، فهو في أمراض القلوب نظير الحُمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان.

• من الغضب ما يُمكنُ صاحبه أن يملك نفسه عنده، وهو الغضب في مبادئه، فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك، وكذلك الحُزنُ الحامل على الجزع، يُمكنُ صاحبه أن يملك نفسه في أوله، فإذا استحكم وقهر لم يملِك نفسه، وكذلك الغضب، فهو اختياري في أوله، اضطراري في نهايته.

• العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده، بل هو أكره شيء إليه، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه؟)، والعاقل لا يقصد إلقاء الجمرة في قلبه.

• الغضبان إذا اشتد به الغضب يألَمُ بحمله، فيقول ما يقول، ويفعل ما يفعل، ليدفع عن نفسه حرارة الغضب، فيستريح بذلك، وكذلك يلطم وجهه، ويصيح صياحًا قويًّا، ويشق ثوبه، ويُلقي ما في يده، دفعًا لألم الغضب، وإلقاءً لحمله عنه، وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه.

• يحصل للغضبان إغماء وغشي، وهو في هذه الحال غير مكلف قطعًا، كما يحصل للمريض، وقد ينكر كثير من الناس أن الغضب يُزيل العقل، ويبلغ بصاحبه إلى هذه الحال، فإنه لا يعرف من الغضب إلا ما يجد من نفسه، وهو لم يعلم غضبًا انتهى إلى هذه الحال، وهذا غلط فإن الناس متفاوتون في الغضب تفاوتًا عظيمًا.

• ما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق أو شتم، ونحو ذلك، من نزعات الشيطان …. والغضب من الشيطان، وأثرُه منه، كما في الصحيح أن رجلين استبا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّ وجه أحدهما، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)، وهذا يدل على أن الشيطان يُغضبه ليحمله بغضبه على فعل ما يحبه الشيطان؛ [إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان].

عوض الله عباده المؤمنين بأنواع من العبادات التي فيها الخير والنفع لهم:

قد أبطل الله سبحانه بالأذان ناقوس النصارى، وبوق اليهود، فإنه دعوة إلى الله سبحانه وتوحيده وعبوديته، ورفع الصوت به إعلاءً لكلمة الإسلام، وإظهارًا لدعوة الحق، وإخمادًا لدعوة الكفر، فعوَّض عباده عن المؤمنين بالأذان عن الناقوس والطنبور، وعوَّضهم دعاء الاستخارة عن الاستقسام بالأزلام، وعوَّضهم بالقرآن وسماعه عن قرآن الشيطان وسماعه، وهو: الغناء والمعازف، وعوَّضهم بالجهاد عن السياحة والرهبانية، وعوَّضهم بأنواع من المكاسب الحلال عن الربا، وعوَّضهم بعيد الفطر والنحر عن أعياد المشركين، وعوَّضهم بالاعتكاف والصيام وقيام الليل عن رياضات أهل الباطل من الجوع والسهر والخلوة التي يعطل فيها دين الله، وعوَّضه بما سنه لهم على لسان رسوله عن كل بدعة وضلالة؛ [أحكام أهل الذمة].

مواضيع يتمنى العلامة ابن القيم أن يصنف فيها إن مدَّ الله في عمره:

• إن مد الله عز وجل في العمر وضعت فيه كتابًا مستقلًّا إن شاء الله تعالى؛ [ يقصد رحمه الله: المناسبة بين اللفظ والمعنى].

• وإن مد الله في العمر أفردنا كتابًا في ذلك يكون قطرة في بحر فضائله أو أقل، جعلنا الله ممن ائتم به، ولا جعلنا ممن عدل عن ملته بمنِّه وكرمه؛ [يقصد رحمه الله: نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام]؛ [جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم].

• وقد نظرت في أدلة إثبات القدر والرد على القدرية والمجوسية، فإذا هي تقارب خمسمائة دليل، وإن قدر الله تعالى أفردت لها مصنفًا مستقلًّا، وبالله عز وجل التوفيق؛ [تهذيب سنن أبي داود].

فوائد متفرقة:

• مفتاح الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

• من تأمَّل تسليط الله سبحانه مَن سلطه على البلاد والعباد من الأعداء، علِم أن ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيهم وسننه وشرائعه، فسلَّط الله عليهم من أهلكهم وانتقم منهم.

• ينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيمًا، وهو عند الله حقير.

• نبي الله إبراهيم كان صلى الله عليه وسلم كما قيل: قلبُهُ للرحمن، وولده للقربان، وبدنه للنيران، وماله للضيفان؛ [جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم].

• الشريعة لا ترد حقًّا، ولا تكذب دليلًا، ولا تبطل أمارة صحيحة، وقد أمر الله سبحانه بالتثبت والتبين في خبر الفاسق، ولم يأمر برده جمله.

• البينة في الشرع: اسم لما يبن الحق ويظهره، فقوله صلى الله عليه وسلم: (البيِّنة على المُدعي)؛ أي: عليه أن يظهر ما يُبين صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطرق من الطرق حكم له.

• الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أَولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية الخمر، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها.

• التعصب واتباع الهوى يصدان عن الحق، ويحرمان الأجر، ويبعدان عن الله ورسوله، ويوجبان مقته، ويخرجان صاحبهما عن درجة الوراثة النبوية، ويدخلانه في أهل الأهواء والعصبية؛ [رفع اليدين في الصلاة].

• ما سلبت النعم إلا بترك تقوى الله، والإساءة إلى الناس؛ [أحكام أهل الذمة].

• كثير من الباطولية الذين يعتادون النقر كصلاة المنافقين، ليس لهم في الصلاة ذوق ولا لهم فيها راحة، بل يصليها أحدُهم استراحةً منها لا بها.

• الإنصاف: أن تكتال لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك، فإن في كل شيء وفاءً وتطفيفًا؛ [تهذيب سنن أبي داود].

• كثرة الضحك من خفة الروح، ونقصان العقل، بخلاف التبسم فإنه من حسن الخُلُق، وكمال الإدراك.

• العلوم بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة، وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد … وعلم سعادة النفوس وشقاوتها، وعلم صلاح القلوب وأمراضها؛ [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى].